صفحات الشعر

أربع قصائد لأمجد ناصر

null
نجوم لندن
نفساً وراء نفس تدفعني الأيام قدماً لكن عيني ظلتا ورائي تبحثان عن علامة تراءت لي وأنا مستلق ذات ليلة على سطح بيتنا في المفرق أعد النجوم وأخطئ ثم أعدها غير مبال بالثآليل التي تطلع في يدي وتنطفئ.
العلامة، التي تطاردها عيناي مذاك بالفتيلة والسراج تدل على ساقية تؤدي إلى نبع ونبع يقود إلى سفح حيث غصن وأفعى، تحت الغصن مفتاح، المفتاح للغرفة التي نهيت عن فتحها، الغرفة مظلمة، في الغرفة المظلمة صندوق به صدفة في الصدفة ورقة مكتوب عليها: لا تلتمسني في المثل أو الشبه فكل من هو مثلي ليس أنا وكل من يشبهني هو غيري، لست بعيدة ولا قريبة، علامتي أقرب إليك من حبل الوريد.
…………………….
…………………….
رأيت يوماً هذه الرؤيا ونسيت العلامة أو لعلني سمعت هذه الحكاية من عابر يرمي إبرة من ثقب أخرى بات ليلة في بيت أهلي وراح في سبيله.
عبثاً أضع رأسي على المخدة كل ليلة منظفاً عيني من نوافل النهار وقلبي من أشنات الخفقان الكاذب مهيئاً كل ما يلزم لاستدراج العلامة العنيدة.
…………………….
…………………….
في زمن آخر أو في حياة أخرى، كمغربي على الأغلب، سمعت في مقهى شعبي بفاس القديمة رجلاً يقول لمجالسه المهموم:
لا تبحث عن العلامة
لا تعترض طريقها
دعك من الشقوق والخرائب
لا تتبع أنجماً ضللت قبلك رعاة وعاشقين
فالعلامة تأتيك من حيث لا تحتسب
أو يخطر لك علي بال.
…………………….
…………………….
في لندن التي أقيم فيها الآن بقناع شخص وهمي فاراً من نبوءة أمي التي يرن فيها اسمي الأول كذكرى مفزعة “يا يحيى لن تعرف نفسك الراحة” من الصعب، على كل حال، أن يستلقي المرء على سطح بيته القرميدي المائل ويعد نجوماً هجرت مواقعها.
(لندن مطلع )
طريقة أردنية
يطريقتي الأردنية نفسها التي يبدو أنني لم أتخلص منها رغم الحدود والمواضعات العبرتها بقدمي البدوي المسرعتين إلى النهب، كنت أتطلع وأمسد، بين حين وآخر، شعري الذي زحف عليه البياض في غفلة مني عن ورشة الزمن الكسول التي ما ان ندير لها ظهورنا حتى تروح تكدح بدأب.
وحيدة كانت على الطاولة في مدخل مقهى “تريتي سنتر” توالي النظر إلى ساعتها كما لو أنها تنتظر شخصاً (مزعوماً على ما هيأت لي ظنوني) تأخر في المجيء.
واضح أنني تركت عيني تنضوان ثيابها قطعة قطعة فلما بلغتا ورقة التوت نهضت فجأة من مقعدها واتجهت نحوي ولم يكن في وجهها ما يشي أن صنارة النظرات الميدوزية قد غمزت وبصوت جعل النادل الألباني الذي كان يغير منافض السجائر يضجر يستعيد شغفاً فقده مذ قذفت به حروب البلقان إلى الزون الرابع من لندن، قالت:
ـ لماذا تنظر إليَّ هكذا؟
فقلت: لست أنا. وأشرت بيدي إلى الخلف.
…………………….
…………………….
في المرآة، كان شاب صغير يتراجع، مبهوتاً، بظهره إلى الوراء ويمسد شعره بيده.
(لندن /)

آكل الشوكولاته في المكتبة العامة

ليست الصحف والملاحق العديدة التي يفرشها أمامه وينقل نظارتيه المربعتين بينها كشاشتي مسح فضائي هو ما يجيء من أجله إلى المكتبة العامة بل كيس الشوكولاته الزهري اللون المرسومة عليه دببة صغيرة الذي يبتاعه من محل الأطفال في “تريتي سنتر”.
بنظارتين مربعتين تعودان إلى السبعينات وبشعر جعدي أشيب لا يكفي وحده لتبرير منتصف العمر الذي وصل إليه. كما يبدو، بشق الأنفس وبصدرية كحلية يلمع فيها دب ذهبي صغير يجلس جلسته الرخوية تلك واضعاً أمامه عدداً من الصحف ليس مهماً أن تكون صحف اليوم أو الغد فهو لا يتجاوز صفحاتها الأولى.
حبة وراء حبة وبصوت مسموع يصوب إليه رؤوس الرواد يقشر الشوكولاته ويصفط الأغلفة القصديرية فوق بعضها البعض من دون أن يترك فيها طعجة واحدة.
يحرك نظارتيه من صحيفة إلى أخرى ويده تجوس في الكيس الزهري وعندما تعود خاوية يضع رأسه على الصحف وينام حالماً، كما يوحي لي كيانه الرخوي الذي يتماوج بين لحظة وأخرى، انه صار كيس شوكولاته يمد يده إليه ويأكله حبة حبة.
(لندن ـ شتاء )

الشخص الآخر

مسوقاً بريبة أسلافي التي لم تزدها المدن المطوقة بالغرباء وأنصال الليزر إلا وجاهة، أرقب بطرف عين الرواد الدائمين للمكتبة العامة في هانسللو:
طلبة الـ A Level والكليات المحلية المتحدرين من شبه القارة الهندية بدأبهم النملي على التحصيل.
آكل الشوكولاته المخلَّس بطقوسه الطوطمية في تقشير حبات الشوكولاته والتهامها.
صديقه الانكليزي ذا البطن الكبيرة الذي ما إن جلس على الكرسي حتى يغط في نوم مداري.
معاون مدير المكتبة الذي يمسح الأرجاء بسحنته الصينية وعينه المدورة الصارمة.
المرأة الخمسينية التي تهتم بالبيئة وتدبج رسائل لا تنتهي إلى النائب المحلي عن الطائرات التي تحرث رؤوسنا في طريقها إلى “هيثرو”.
السيخي المعمم الذي يتزاحم مع هندي آخر على قراءة “هندوستان تايمز” وفي عينيه يلمع الغبار الذهبي للبنجاب.
لكن هناك شخصاً غير هؤلاء ضبطته في لحظة انفصال كوكبي نادر يفعل ما أفعل بالضبط.
ليس انكليزياً
ولا هندياً
ولا أسود
ولا من أصول صينية
شخص آخر ينظر بفضول فاضح في الحقائب عندما تفتح، إلى البلوزات لما تنشق، للسيقان حين تتباعد قليلاً.
يكتب بنفس خط يدي الرديء ويوقع ما يكتبه باسم شخص ظن عندما ألفه من نوافل الأسماء أنه لم يوجد قط حتى اكتشف لاحقاً انه شخص من لحم ودم يقيم في المغرب هارباً، بدفع حدس غامض، من عواقب اسمه التي ستكشفها له الأيام.
(لندن ـ شتاء )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى