صفحات ثقافية

أيام سعدالله ونوس في القاهرة

null

سعد الله ونوس

(سوريا)

حياة قصيرة بحساب الزمن، وأحد عشر عملا مسرحيا، عدد لايعني الكثير بالنسبة لمن يعولون علي الكم، لكن إبداع سعدالله كان لافتا منذ عمله الأول حفلة سمر من أجل 5 حزيران التي كتبها عام 1968 وحتي الأيام المخمورة عام1997، و الحياة أبدا القديمة الجديدة التي نشرت بعد رحيله بنحو سبع سنوات.

استطاع ونوس أن يوفق بين الإمتاع والرسالة التنويرية والمقاومة في مسرحه. كما ساهم في ترسيخ خصوصية للمسرح العربي، لكنه أنجز هذا عرضا، فلم يذهب إلي التراث بأهداف إحيائية أو اختيار جمالي، بقدر ماذهب بهاجس التواصل مع أكبر عدد من المتلقين قراءة وعرضا.

ولم تكن حياة الشخص أقل أناقة أو حضورا من نصه، وهو من بين المثقفين القلائل الذين استطاعوا الحفاظ علي استقلالهم من أول ظهور له، وحتي انصرافه النهائي عن هذه الحياة، ولم يكن هذا سهلا أبدا.

وقد ودعنا سعدالله بتحديقة شجاعة وشفافة في وجه الموت بكتابه رحلة في مجاهل موت عابر الذي دون فيه سيرة المرض، لكن أحدا لم يكن يعرف أنه كان يدون يومياته، باستثناء صديقه الناقد الكبير فيصل دراج وزوجته وابنته. وقد ترك سعدالله عشر دفاتر كبيرة ستكون مفاجئة وصادمة للكثيرين ممن تناولهم بصراحته المعهودة.

وفي هذه الصفحات يدون سعد الله تفاصيل ستة أيام قضاها في القاهرة (من 7 إلي 12) سبتمبر 1989 ضيفا علي مهرجان المسرح التجريبي في دورته الأولي التي كرمته بين عدد من اسماء مبدعي المسرح العالميين.

خصت أسرة ونوس أخبار الأدب بهذا النص، لتكون أول مطبوعة عربية تنشر شيئا من يوميات سعدالله ( أول مطبوعة تؤتمن علي النص بلفظ السيدة فايزة شاويش) حيث لم تتخذ أسرة ونوس بعد قرارا نهائيا بشأن نشرها. وكان من بين تبعات هذا الائتمان ألا ننشر شيئا يسيء إلي سعدالله، وهو ما فعلناه بحذف فقرة تتعلق بجوانب شخصية جدا في بعض الشخصيات التي تتناولها اليوميات.

*******

7 أيلول

منمنمات تاريخية. ثلاثة أجزاء. الحصار والمذبحة أو باختصار الهزيمة. وهذه منمنمات (1) والانقلاب المسرحية التي تتناول أول تدخل عسكري في السياسة وهناك منمنمات(2) والانحلال: المسرحية التي تتناول مجيء العسكري الي قريته لافتتاح قصره وهذه منمنمات(3)، ولكن لماذا لا تكون الأولي حول المرحلة الفيصلية بحيث يكون ثمة اتساق في الأجزاء الثلاثة. وأدع الحصار والقلعة خارج هذا المشروع الثلاثي. أليس ما أحلم به هو شهادة علي العصر الذي عشت فيه. إن هذه الثلاثية ستكون بمثابة الشهادة. والمنمنمات هي الشكل الموافق لمعالجة مثل هذه الفترات التاريخية الواسعة.

نمت جيدا هذه الليلة. تلفنت لمحسنة. وقت شديد الازدحام.. قدمت لي القاهرة أكثر مما قدمته للمسرح العربي. وهذا الاهتمام الذي يبديه الناس بي يكفي لكي يشعرني بالامتلاء، وبأنني لم أعش عبثا. لكن لست من القوة بحيث أتجاوب مع هذا الاهتمام بشكل صحي ينعكس علي وعليهم! كيف همشت نفسي كل هذه الفترة وهناك من ينتظرني بهذه الحرارة، وبهذا الأمل!

أفطرت. تلفنت ماجدة الرفاعي. وعدتها أن أزور دار الثقافة الجديدة بعد زيارتي للوزير فاروق حسني. التقيت عبدالرحمن الصالح. تناولنا القهوة سوية. أعدت له المبلغ الذي قدمته لي فرقة دبي في دمشق خلال مهرجان دمشق الماضي. أستغرب أن أزعج نفسي بهذه الصورة. وقال لي انهم أولاد. وقال لي انهم محرجون وبسبب الحرج لم يجرؤوا علي لقائك. وفي النهاية أنت أكبر بكثير من أن تهتم بهذه الصغائر. شرحت له شعوري بالاهانة فاستكبر أن يراودني مثل هذا الشعور، ولكن لماذا كل هذا اللغو، وفي قصة بائسة كهذه القصة. ألا أحاول استنقاذ حقوقي بطريقة متكبرة! ليذهبوا الي الجحيم! أعرف انه ليس ايجابيا ولا تقدميا أن يتخلي المرء عن حقوقه. ولكن مع بدو كهؤلاء، يخلطون الحقوق بالصدقة لتذهب حقوقي الي الجحيم.

وزارة الثقافة مبني أبيض وأنيق. مكتب الانتظار مريح ثمة لوحات تقليدية وتمثال من الخزف كان ورائي. احساس بالخفة.. ما أثقل جهاز الدولة. هناك رجل ينتظر هو الآخر. الوزير شاب وسيم، متفرنج، أمضي سنوات طويلة في باريس وروما.. استقبلني علي الباب، وحياني بالقبلات.. وجلسنا في ركن من أركان المكتب الواسع المفروش بالسجاد والمزين بلمسات شرقية. هل أقول ان الاستشراق يبدأ من فرش المكتب.. وبدأ الوزير يتكلم. اندفع فورا للحديث عن الملك هو الملك وعظمة النص وأهمية العرض. رن التليفون.. حزرت من الكلام أن يوسف ادريس علي الخط.. ودافع الوزير عن حفل الافتتاح، وقال له ‘انهم أولاد ولا يجوز أن نبالي بهم. انهم غير متحضرين. عرض يعجب به يوسف ادريس وآدم حنين ولويس عوض والوزير لا يمكن أن يكون عرضا سيئا. ثم نحن لم نقدم عرضا مسرحيا، نحن أردنا أن نقدم حفلة منوعة.. لا.. دول ما يعرفوش حاجة..’ ويبدو أن يوسف اشتكي له علي لويس عوض. فطمأنه، وقال له سأتكلم معه، وما تهتمش.. وتعرف مين عندي دلوقتي.. وذكر له اسمي.. ويبدو أن يوسف قال له ما يعرفش يلتم علي واتفقنا علي أن نلتقي ونسهر سويا. وبعد التليفون عاد الوزير بشيء من الزهو، وبثقة بالنفس يتحدث عن منجزاته. قلت له: المشكلة في البلاد العربية انها حولت وزارات الثقافة الي ملاحق لوزارات الاعلام.. وأن العمل الجاد ينبغي أن يركز علي الأساسيات، وعلي بناء ثقافة تستمر وتتنامي. وأن هذه الموالد والمهرجانات لاتخدم الثقافة إلا قليلا بل هي تتحول الي عبء علي الثقافة. لكنه انبري للدفاع، وقال انه يخلق الأسس لصناعة ثقافية منتجة، وأنه بتسويق هذه الصناعة سيغطي نفقات بناء ثقافي مستقبلي، وحدثني كيف أخرج من الخراب والاهمال أماكن أثرية هامة، وكيف رممها وحولها الي مسارح متحررة في بنائها وتسمح للابداع بالتجدد والحرية. حدثني عما فعله بمبني الغوري وما يفعله بمبني مقياس النيل، وما فعله بمبان أخري، وكيف افتتح الأوبرا في ميعادها وكيف حول المستودعين الطويلين الجانبيين الي مسرحين اضافيين وصالحين للتجريب ولخلق علاقات بصرية جديدة بين المتفرج والممثل. في حين أن الجميع كانوا يريدون أن يحولوا المستودعين الي مساكب زهور وحدائق. و.. وفي زمنه نال نجيب محفوظ جائزة نوبل. ولم يكن ذلك ضربة حظ، وانما يعود الفضل الي المناخ الذي وجد، والذي جعل الأدب العربي يصل الي الغرب.. وهو يعتقد أن أدبنا عظيم لكنه معزول، ومتي انفكت العزلة عنه سيحتل مكانه بين الآداب العالمية المرموقة. وهو ليس مهتما بقي وزيرا أم لم يبق. لديه عمله، ولديه فنه. لكنه الآن لا يرسم إلا قليلا.. وقد فوجيء به كل المثقفين في مصر، لأنهم لا يتذكرونه إلا صغيرا، وحين فوجئوا به وقد نضج.. وهذا طبيعي.. وفي غربته لم يكن يفعل شيئا إلا متابعة النشاط الثقافي في بلده وما يجري فيها.

*****

وهكذا.. وهكذا. كان يرافع ضد خصوم لا أعرفهم. وكانت مرافعته مليئة بالزهو والتثاقف. وهو في النهاية مصري تأورب، وعاد الي مصر ليقود الثقافة بعين الغربي الذي يحب الغرائب، ويشجع الفولكلور، ويقنعنا بأن أصالتنا كامنة فيما لدينا ولا نحتاج الي أي جهد سوي الكشف عن كنوزنا الشعبية وموجوداتنا التعبيرية وصقلها وتصديرها.

عدت الي الفندق. محسنة تلفنت مرتين. شعرت بالتعب. لا أريد الاعتذار. والوقت ضيق.. بعد الظهر جاء محرر في مجلة الهلال واصطحبني الي الدار لاجراء ندوة.. دار الهلال في المبتديان شاهد تاريخي وأثري. هذا المبني الذي كان يغويني بالأماني وبالأحلام غير المؤكدة، ها هو يستقبلني بصورة مختلفة تماما.. اني أدخله كاتبا يجمع الكثيرون علي تقدير وتمييز عمله. دار عتيقة، والدرج العريض يوحي بعراقة شائخة و متعبة. صعدت الدرج التقيت الدكتور أمين العيوطي. إنه يزداد نحولا وتدهورا، لكن ضحكته الخجولة التي تكشف عن فم كبير مازالت كما هي. تبادلنا القبلات وفاحت رائحة الخمر. احساس بالرثاء والتقزز. لم يستطع أن يمنع نفسه من الشراب ظهرا.. ثم جاء علي الراعي وعاطف مصطفي مدير التحرير، وبعدهم يوسف القعيد. لن أتحدث عن الندوة، لأنها ستنشر في الهلال.

وفيما كنا نتحدث جاء آخر الصعاليك بهجت عثمان متأبطا حقيبته وأوراقه وكتبه ونظارته. بعد انتهاء الندوة، نزلت مع بهجت وذهبنا الي بيت توفيق صالح حيث موعدنا مع سهرة الحرافيش التي تضم نجيب محفوظ، وأحمد مظهر، وعادل كامل (هو الآن مسافر) اضافة الي توفيق وبهجت. هذه السهرة تبدأ في السادسة بعد الظهر. حيث يلتقون جميعا في كازينو قصر النيل، ويبقون هناك حتي الثامنة تماما. بعدها يأتون الي بيت توفيق يتناولون العشاء ويشربون. (نجيب وتوفيق لا يشربان) حتي الساعة الحادية عشرة ثم ينهضون ويغادرون البيت. يركبون السيارة ويمضون الي الهرم أو علي طريق سقارة في مشوار ليلي بالسيارة يستمعون خلاله الي أغاني سيد درويش ومحمد عبدالوهاب القديمة،و حديثا أضيف الي مكتبة الأشرطة أغنية أم كلثوم الأطلال.

في الطريق الي بيت توفيق والزحام شديد، كان بهجت يحكي عن زمننا، ‘نحن الجالية العربية في الوطن العربي’، وعرجنا علي ناجي العلي، وشتم بهجت محمود درويش، وقال لي تصورأنهم عملوا أفيشا احدي رسوم ناجي وتحتها أبيات كتب عليها للشاعر الكبير محمود درويش، ولا يوجد أي اشارة لناجي. أما عبدالله حوارني فما عاد يطيق رؤيته. انه ينفر حتي من السلام عليه.. والانهيارات مستمرة. وهو يتناول حقن الأنسولين بانتظام.. ولم يبق أمامنا يا سعدالله إلا الشغل. هذا هو كل شيء.. أن نشتغل، وقد صدر له كتاب بهجاتوس منذ أيام. وبهجت يغالي في المديح والتعبير عن عواطفه، وهذا يربكني ويشعرني أني لست علي طبيعتي.. اني أتحرج وأتضايق. وسيزداد حرجي وضيقي حين سيأتي بهجت وتوفيق في تبادل مدحي أمام نجيب محفوظ، كما سيصل هذا الضيق حد الغضب واحساس الاختناق عندما سنركب السيارة ويتحول بهجت السكران الي انسان لزج يكرر العبارات، ويكرر العواطف، ويكرر المدائح. لم أعرف كيف أجاريه، ولم أعرف كيف أجاريه، ولم أعرف كيف أستمتع بالمشوار، والغناء. كنت أريد أن أصمت وأتأمل. الخضرة تحف بالطريق في جانبيه، والرائحة الطازجة الخضراء الندية تنفذ الي أعماق (شم رائحة مصر)، وصوت أم كلثوم يتهادي جميلا، وقبلها صدح صوت عبدالوهاب بأغنية ‘من أد ايه كنا سوا’، ويبدو أن الأغنيات مرتبطة بذكري ما عند نجيب ‘تلك أغنية حبه الأول’ هذا ما قاله بهجت ولكن من يستطيع أن ينفذ الي عالم نجيب الداخلي.. الي حياته السرية وذكرياته. في السهرة لم أكتشف ما هو جديد أو غير متوقع. نجيب محفوظ مهزول الجسد. ووجهه نحيل تعلوه جبهة عريضة ملقاة الي الخلف، ونظارته سوداء. وفي أذنه جهاز سمع. لم يعد يري إلا بصعوبة. انه لا يستطيع القراءة، ويكتب بخط كبير وبصعوبة. بالغة، وهو لا يسمع جيدا ولابد أن ترفع صوتك عاليا، وأن تتكلم في أذنه حتي يسمعك، وهو سمح، ومتواضع، وشديد البساطة، يضحك من قلبه، وضحكته صافية رقراقة ومتموجة، وتلك الشامة الشهيرة قرب أنفه من الناحية اليسري.. ‘وهل هناك أجمل من لقاء الأديب بالأديب’ هكذا أجابني حين عبرت عن حرجي من التطفل علي سهرتهم الحميمية، واستنكر ذلك، وقال وافقنا ورحبنا بمجيئك. وحين تقول له شيئا فإنه يصغي بكثير من الجدية ومازال يندهش دون تصنع وكأنه يسمع أخبار الأدباء أو حواديت الثقافة والمثقفين لأول مرة. لم أحاول أن أكون فضوليا. ما كنت أسأله إلا السؤال الذي يعرض خلال الحديث. ‘أنا أقول لك.. قبل المقاطعة العربية كان ناشري يطبع 20000 نسخة في الطبعة الأولي، ولكن بعد المقاطعة خفض الكمية الي 10000، وهو يدفع لي با نتظام. طبعا ما انت عارف في هذا الجو الفاسد لا يمكن أن تتوقع أمانة مطلقة.. ولكن، أهو.. انه يعطيني قدرا لا بأس به من حقوقي’ وهو لا يعرف شيئا عن الطبقات المسروقة المنتشرة في لبنان وسورية.. وسهيل ادريس لم يدفع له إلا عن الطبعة الأولي أما الطبعات التالية فإنه لا يعطيه إلا الفتات.. وحتي هذا الفتات توقف منذ زمن بعيد.. وقال ‘أنا لاحظت حاجة غريبة في عملية النشر. فالوحيد الذي يتآمر عليه الجميع ولا يريدون أن يعطوه أي حق هو الكاتب نفسه. ودي حاجة غريبة مش كده..’. وحين حدثته عن فرح السوريين بحصوله علي النوبل قال ‘أتعرف يا أحمد.. واحد صاحبي قال لي ان المصريين محببون كثيرا في سورية ولبنان.. أو انهم في سورية ولبنان يحبون المصريين أكثر من أي قطر عربي آخر..’ وقال بهجت وفي السودان وليبيا أيضا. ولم يوافق نجيب علي حب السودان.

والمنظر جميل في شرفة توفيق وكان الهواء لطيفا وطريا. النيل في الجيزة والأضواء الملونة، وثمة كوبري، وعوامة، وسماء عميقة الغور، وفي البعيد تجثم القلعة التي تم فيها افتتاح المهرجان والتي كانت سجنا. ‘في ال54 سجن محمود السعدني فوجد ألفريد فرج والعالم ويوسف ادريس والخولي وسواهم، فقال دول ماسكين سقوط فرعون والمتفرجين الذين حضروها’ وهاجم بهجت ألفريد، وقال ‘ده بيوسخ والسبب امرأته’ ودار حديث حول سقوط المثقفين وقال توفيق انه بعد ما رآه في العراق من انهيار وتهافت المثقفين لم يعد يستغرب شيئا، ووصل الي نتيجة مفادها أن عمل المرء هو ما يحكم عليه لا سلوكه أو علينا الاكتفاء بالحكم علي انتاج المثقفين لا علي تصرفاتهم وسلوكهم. وقال نجيب ‘ولكن ما سمعت أن ألفريد قد انحدر كغيره’ وأجيب ‘أصلك أنت ما بتسمع يا عم نجيب أنت لا تسمع إلا ما تريد سماعه’ وتعالت القهقهات، وكانت أعلاها قهقهة نجيب نفسه. وأحمد مظهر فارس متوحد، ولا يحب الثرثرة، ونجيب أكل بشهية. وقد بدأ الأكل منذ جلس علي الطاولة. وفي التاسعة والنصف أخرج علبة الكانت وأشعل سيجارة. وتطلعت الي الساعة، وقلت ‘علي التمام’ وقال له توفيق ‘أصلي سعد الله تطلع الي الساعة حين دخنت’ وقال نجيب ‘أصلي أنا اكتشفت انه حين تكون هناك مسافة زمنية بين السيجارة والسيجارة يصبح طعمهما أفضل أما لو دخنت السيجارة تلو السيجارة يصبح ذلك تعفير’.. وروي لنا كيف أقلع عن الشراب بعد الحرب الثانية حين ظهرت لديه حساسية في الكبد.

كان بسيطا، و تحدث بأريحية عن سواه من الروائيين، وكان أول اسم ذكره حنامينه، وبالنسبة للجيل الشاب ذكر الغيطاني وصنع الله ابراهيم ويوسف أبورية وعبدالحكيم قاسم وهو يعتبر أن أفضل من كتب عنه ابراهيم فتحي.

ويدور الحديث عن ذكريات قديمة وعن أهل المغني القدماء.. وهو يحب أن يسمع أخبار الناس ويسأل عن قرابتهم وصلاتهم.. ويندهش ‘ياه!’. وأحمد مظهر متعب وناعس، وبهجت يكرع الخمر ككل كحولي خوفا من أن تنتهي السهرة قبل أن يرتوي.

لم أكن مندهشا، ولم أحس بخطورة اللقاء. وهذا الرجل الهزيل الهاديء الطيب أعرفه منذ زمن بعيد، وأهميته في ذهول لحظات القراءة، وليس في هذا اللقاء المتأخر. ‘كنا نشتري زجاجة ويسكي.. أصل زجاجة الويسكي كانت ب29 قرشا، وكان لدينا صديق يأتي ويقول تسكروني بشلن’ ويفرقع بالضحك.

في السيارة كنت أتأمل رقبته المعروقة الناحلة، وأختلس النظر الي يده المتكئة علي مقبض عصاه والتي كان يرنحها مع الغناء، وكان الصوت عاليا ومزعجا، ولكن لا مفر من ذلك كي يسمع وأصر أن يقودني الي فندق أولا، وأصر علي النزول من السيارة وودعني بالقبلات.. ودخلت الفندق غريبا، وجياشا بالانفعال.

10 أيلول

هذا المساء سأكرم. ما معني هذا التكريم! لا أدري. ويلوح لي الأمر وكأنه مسرحية عبثية. اني مرتبك فقط. وسوي ذلك لا توجد إلا مشاعر ضحلة تتعلق بالتعب. وتهيج الكولون، والانفعال وانها لمفارقة أن يتم تكريمي بعد سنوات من العطالة، وإيذاء النفس، والشعور بالدونية، ويأتي كاتب انتهي في حياته. ألم أقل سابقا اني مشروع كاتب أخفق في بداياته! لقد أذهلني التأثير الذي أحدثته أعمالي القليلة في وجدان وعقول المتفرجين والقراء هنا. ويخيل الي أن ما لاقيته في القاهرة هو أقصي ما يمكن أن يطمح له كاتب في جيلي.

ألا يشبه شعوري الان ذلك الشعور العابث الذي أحسسته عصر يوم افتتاح حفلة سمر! وما يزيد احساسي بالعبث هو هذا المستنقع المستهتر المليء بالخفة والنميمة الذي تتحول إليه المهرجانات. لا قيمة لشيء. ولا قيمة لأحد، وكل واحد يكتفي بذاته متلألئا بضوئه الخاص. ركبنا الباص، الحر شديد، والبذلة تضايقني. انها تزيدني تجهما ويبوسه. يمتليء الباص ببطء. ما علاقتي بكل هؤلاء، والي أين أمضي.. والقاهرة تجيش لا مبالية في الميادين والشوارع، والحر شديد. جواد يتكلم ويكلم عراقيا أمامنا. اني وحيد. أخيرا امتلأ الباص، وتحرك في زحام القاهرة. يسير ببطء والركاب يضجون بالكلام والتعليقات وفي راديو السيارة يتدفق صوت أم كلثوم صاخبا. أريد أن أزعق. أن أهبط في الباص وأترك كل هذه المسخرة ورائي. أنظر في النافذة وأتضايق حين يسألني جواد شيئا، أو يحاول محاورتي. أريد أن أتقوقع في صمتي. اني الآن كالرخويات أتراجع الي صدفتي نافرا وخائفا. واجهت قبة جامعة القاهرة. ذاكرتي خاملة، كل هذا لا يعني شيئا. تذكرت الجاكيت الطويلة التي كنت أرتديها أول مرة دخلت الي الجامعة بحثا عن أديب. وعلي أن أحضر كلمتي. ‘لست متأكدا أني أستحق هذا التكريم، لكني متأكد انه سيرتب علي مسئولية مضاعفة وثقيلة..’ والأصوات صاخبة اضافة الي زمور الباص. ‘أشكر الجمهور من قراء ومتفرجين’.. الزمور العالي المتراسل مع زمامير السيارات الأخري في شارع يختنق بزحامه.

أشكر مصر.. أشكر الجمهور الذي غمرني باهتمام كريم. أشكر وزير الثقافة’ إننا نصف في شارع الهرم وياقة القميص تتدبق علي رقبتي. وهذا الجاكيت مضحكة. كنت آتي الي هنا كي أكتب مسرحية. ولم أنجح في كتابة المسرحية، وها أنذا أصعد الطريق ذاته كي أكرم علي مسرحي. ألا ينطوي ذلك علي فكاهة لاذعة! لعلي بخست نفسي حقها. وهؤلاء الذين لا يعرفون قدر أنفسهم إما أن ينطووا، ويموتوا في التردد والعجز، وإما أن يسقطوا في الرخص وتملق الأقوياء. ألن يقول الدكتورلويس عوض: ‘إن يوسف ادريس لا يعرف قدر نفسه. هو أهم من الوزير وكل هؤلاء المديرين والمسئولين. ولو كان يعرف قدر نفسه لما ذهب الي ملك السعودية وتملقه أو طلب عطية منه وليس مهما ما يقال عن نضوبه. فهو يجلس علي هرم من الابداع’. ووصلنا الهرم. مذهل هذا البناء المخروطي. مذهل رسوخه في الرمال المخاتل. سأجلس علي الكرسي المخصص لي، وسأتأمل الهرم ووجه ابي الهول وجدار البناء/ المقبرة الذي أقيم المسرح أمامه، وسأشعر بامتداد الزمن، وعظمة الابداع والحجر، وضآلة أحداثنا الصغيرة، ومشاغلنا وقلقنا. كم تعاقبت مجريات وانقلابات أمام وجه أبي الهول وهو هاديء، يخاتلنا بلغزه اللغز.. اننا مخلوقات تبحث عن معني حياتها الملغزة، ومنذ فجر البشرية وهي تبحث عما يهديء روعها، ويجيب علي قلقها المتسائل. وتعاونت مع آخرين علي حمل كرسي ابراهيم جلال لهبوط مدرجات المسرح حتي الصف الأمامي.

راودني شعور بأني أحمل نعشه، ولم أرع، ولكن حزني تعمق. حزن خفيف وناعم، حزن يليق بالأبدية المنسابة من المشهد الذي يواجهنا، الهرم وأبوالهول والحائط/ المقبرة. إني غريب وسط هذه الضوضاء. وكنت ظمئا وشبه مزكوم. وقال لي ابراهيم: ‘إن تغريب بريشت يلائم عصر العلم، كما كان أرسطو يلائم عصر العواطف الجياشة. أما الآن ونحن نعيش في ظل امكانية فناء البشرية. وفي رحاب عالم مهدد علينا أن نبحث عن جمالية جديدة. ما هي الجمالية الجديدة، هي التناقض في اطار الوحدة. و استطرد في تشبيه من الموسيقي حيث تسيطر الوحدة علي التنوعات والتناقضات النغمية.. وكان قد حدثني عن هذه الرؤية منذ سنوات بعيدة في الكويت. وفكرت أن مسرحيتي فيها شيء من هذا، وأن المؤرخ يمكن أن يتوسع بالتدخل بحيث لا يكون مثل حكواتي تقليدي. فقد يقطع المشهد ليخبرنا شيئا في منمنماته العرضية.

وجاء وقت اعلان أسماء المكرمين، يونيسكو، مارتن ايسلن، بيتر بروك، غروتوفسكي، ابراهيم جلال، ونهض مساعده يوسف العاني، كاد يسقط، خف الوزير لملاقاته وسلمه الشهادة والميدالية. سعد الله ونوس. ونهضت. عبرت المسرح. تسلمت شهادتي وميداليتين لا شيء.. نمرة في مسرحية هازلة، وعدت الي مكاني. ثم أعلنت نتائج مسابقة المهرجان، ثم نهضنا للاستراحة. كنت فارغا وكئيبا. جلسنا في البوفيه. أنا وعبلة ولويس عوض. وظل الهبوط يلازمني حتي هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات. الثانية والنصف بعد منتصف الليل. قال لويس عوض: ‘لم أسمح لأحد بالتدخل في نتائج المهرجان.. حتي الروسية قالت ينبغي أن نجامل البلد المضيف بجائزة ما، فقلت لها اذا لم يكن لدي مصر ما تقدمه إلا المحبظاتية، فلا داعي لمجاملتها.. وبعد نقاش استقر رأيهم علي جملة تنوه بالعرض. فقلت اكتبوها أنتم..’ وقال: ‘أصل يوسف ادريس بان صغيرحين أخذ هذا الموقف من حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل.. لم يحضر إلا مرتين. وواحدة منهما كان سكرانا جدا ده غريب يوسف ده. مرة تلاقيه تارك الشرب ومرة يرجع دفعة واحدة..’ ولويس عوض يشرب كل ليلة وقد عابت عليه نهاد صليحة أنه يشرب الشاي الساعة العاشرة مساء، فتحرج، وضحك، واعتذر بضرورة البقاء في الحفل حتي النهاية مجاملة للوزير والمسئولين.

وقال: ‘عبدالمعطي يأتي ليطالب بالمكاسب. فهو يريد أن يكون أمير الشعراء، ويأتي كل الشباب الي بلاطه مازحين. لو جاء وأصدر مجلة الشعر. بمستوي جيد متعاونا مع كل الشعراء لكان ذلك أفضل. لكنه أتي يبحث عن الأبهة، المكتب والسكرتيرة..’ قلت كان أليق به أن يأتي خجولا لا مطالبا. وهل نفي حتي يأتي فيطالب بمكاسب تعوضه عن غربته. وقال لويس مزهوا: ‘أهو أنا بقيت هنا، وعانيت مع الناس، وطلع دين ابونا وما قلناش حاجة. هؤلاء المثقفين الذين يسافرون أمرهم غريب. في 73 جاءني غالي شكري وقال لي سأسافر الي بيروت. وقلت له: أفضل أن تظل هنا. لكنه أجابني: ‘خد لقد وقعت عقدا’ واعترف لويس بأن العالم هو الوحيد الذي سافر وعاد محافظا علي نظافته وكبريائه. ثم انتقل الحديث الي الكتاب الشباب وموقفه منهم فقال: ‘لا أسمح لكاتب أصدر روايتين أو ثلاثا أن يتنفج ويقول انه دستوفسكي، وانه تجاوز نجيب محفوظ وكان يعني الغيطاني أنا أعرف شغل الأوروبيين، وترجمتهم لعمل أو عملين بغية سبر الاتجاهات الفكرية كالابداعية في المنطقة لا يعني أن الكاتب أصبح دستوفسكي. أناأعرف أوروبا جيدا، وأعرف الألاعيب التي يعملونها. مع صعود موجة التيار الديني بدأوا ينشطون، فهم يغذونها. لدي كتاب صدر بالفرنسية L’islam en quetion” وفيه استفتاء لمعظم مثقفي مصر حول ‘هل تصلح الشريعة الاسلامية أساسا للحكم؟.. ولقد أجاب الجميع بالايجاب باستثنائي. نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف ادريس وسواهم. لم يجرؤوا علي المواجهة وعلي مخالفة السائد. خافوا في الجوامع والجمهور.. وقال عن نجيب محفوظ و علاقته باسرائيل ‘طبعا لا يمكن القول بأن نجيب محفوظ لا يعادي اسرائيل. ولكنه رجل حي.. انه لا يحب المواجهة، أو لا يستطيع أن يواجه. ومن الممكن أن يستقبل صحفيا اسرائيليا من قبيل الحياء’ ‘هذه الأمور لا تقبل مثل هذه الأعذار!’. قال ‘ولكن ده هو الواقع. انه يخاف من المواجهة. أما أنا فقد رفضت، طبعا حين كانوا يتصلون بي لم أكن أرمي السماعة في وجوههم بل كنت أعتذر لهم متذرعا بحجج كثيرة. مرة قلت لهم: حتي تتحرر سيناء.. ومرة انكم تحتلون لبنان.. وهكذا. يعني رفض من غير صدام. قالت عبلة: لا.. ده لا تحتمل الأعذار ولا تقبل الأخذ والرد. ينبغي أن تكون هناك قطيعة باتة‘.

وهكذا.. وهكذا، ربما حان الوقت لكي نتأمل وضع المثقفين في بلادنا، ونحاول تحليل هذا الوضع والتباساته بما نملك من الصراحة والعمق. طبعا مازال المثقف يتصور نفسه قائدا في المجتمع، وهو يزاحم السياسي علي السلطة لأنه يجد نفسه أحق، وثقافته تعطيه شرعية أكبر من الشرعية الغائبة التي يرتكز عليها السياسي. ولأنه لا يستطيع أن يحقق حلمه فإنه إما ينطوي تحت جناح السياسي متحولا الي تابع، واما يتصرف كمعارض له سلطة ظل. وفي الحالين هو في تنافس وتجاذب أو اندماج مع السلطة.

فارغ.. فارغ..

11 أيلول

لا شيء. تعب شديد، والفندق يخلو من المسرحيين، أزعجوني بمسألة الحجز ونفقات البقاء في الفندق، حلت القضية بعد توسطات عديدة وبالنسبة لي فقط أما بالنسبة لجواد فقد ظلت معلقة.

سهرنا عند فريدة النقاش، صلاح عيسي وزوجته أمينة النقاش وجواد وعبلة وسيد بحراوي وأمينة رشيد وابراهيم الحريري. الجو حار جدا والمزاج سيء والسهرة صاخبة ومضجرة.. وداعا للمهرجانات، ولمثل هذه السهرات.

12 أيلول

أينبغي أن أتصنع الدهشة، وأن ألف القاهرة بغلالة من السحر، وتداخل الأزمنة! هذه مدينة منهكة. فيها كل ظواهر المدن الكبيرة في العالم الرأسمالي، وفي العالم الثالث. فوضي يضيع فيها المرء، ويفقد خلالها أي حميمية أو قدرة علي التركيز..

انفجار بشري متدافع يحاصر المرء في كل زاوية، ويضغط عليه. غلاء لا يصدق، والناس لا يفكرون إلا في النهب، وتدبير الحال، هم ليسوا أشرارا، ولكنهم لا يجدون أمامهم سبيلا لعيش إلا الاقتناص. في التاكسي يحاولون نهبك، في الشارع، في المحلات، وثمة دائما طوابير من المتسولين المقنعين أوالصريحين الذين ينتظرون صدقتك، ومع هذا ثمة ثراء فاحش. وبناية الألومنيوم في الدقي يتخذ رجال الأعمال مقرا لهم في طابقها الثالث عشر. وفي هذا المقر ستتقرر سياسة مصر ومصير الملايين الذين يقترب عددهم من الستين. هنا يأمرون باختفاء البصل، فيختفي البصل من مصر كلها مدنا وريفا، حتي يجبروا الرئيس علي تغيير العبارات التي يشتم منها ريح الناصرية. وهنا يتقرر سعر الجنيه، ومجري العلاقات الخارجية وحركة السياسة الداخلية. وفي القاهرة ثمة فصامات حادة. هي الأبرز في الوطن العربي. فصام علي المستوي الاجتماعي، فصام علي مستوي المعاصرة، فصام علي مستوي الأخلاق.

والمثقفون شأنهم شأن المثقفين في كل البلال العربية، يتدبرون أمورهم لكي لا يهبطوا من مركزهم الوسطي اجتماعيا، أي لا يجوعوا، ولا ينزلوا الي قاع الفقراء، وهم يجتمعون في بيوت متوسطة التأثيث، ويستمتعون باللغو والثرثرة، والتنكيت، وندب الحظ.. يحكون عن التعذيب (وتفرد صبحات طوال للعراق، يقول تقرير منظمة حقوق الانسان أنه النظام الوحيدالذي يعذب الأطفال لانتزاع الاعتراف من الآباء. ودمر الشعب الكردي وشرده ودمر العراق كله شعبا واقتصادا، وصدام تزوج فتاة في الثامنة عشرة، وامرأته الأولي مصابة بالاكتئاب، وهو مشغول ببناء ساعة برجية من الذهب الخالص علي هيئة تمثال شخصي له، ويمكن رؤيتها علي بعد بضعة كيلو مترات.. أنت عراقي.. أي اذن بتستاهل) ومع هذا فإنهم لا يتعففون حين تأتيهم دعوة لزيارة العراق. يقول سمير فريد انه رفض الذهاب بعد أن قرأ تقرير الأمم المتحدة عن تعذيب الأطفال. إلا أن رجاء النقاش الآن في بغداد يمارس عمله في لجنة اختيار الأديب الذي سيعطيه جائزة صدام، وفي العام الماضي نالها جبرا ابراهيم جبرا ويوسف ادريس. ولم يرفض أي منهما هذه الجائزة الملوثة بالدم والأنين. لقد اعترض يوسف ادريس علي المناصفة فقط، فطمأنه صدام إلي أن الجائزة ستصرف كاملة لكل من المرشحين.. وقد وصلت البرقية وحسني مبارك هناك. وقرأها مبارك، وغضب، وحين عاد عاتب يوسف ادريس وقال له: ‘هو انت محتاج فلوس يا يوسف‘!

وانتقل الحديث الي تعذيب الصحفيين في مصر وهي حكاية طازجة يضطرب لها المجتمع المصري اذ اعتقلت السلطات إثر حوادث حلوان، اضراب العمال وصدامهم مع الشرطة، عددا من صحفيي الأهرام بتهمة الانتساب الي حزب العمل الشيوعي الممنوع. وتبين أن التهم ملفقة وأن الحزب غير موجود. وبعد الضجة، وافتضاح أمر التعذيب أفرج عن المعتقلين، وفي السياق روي لنا صلاح عيسي قصة قتل فرج الله الحلو، ودفنه، ثم نبش جثته، وتقطيعها، ووضعها في بانيو الحمام، ونقعها بالأسيد، ووضع لوح خشب فوق البانيو، والرجل المشرف يراقب العملية بين حين وآخر، ويضطر لشرب العرق حتي يحتمل الرائحة، وفي النهاية بعد ثلاثة أيام لم يبق من الجثة إلا رغوة صفراء. وهكذا انتهي فرج الله الحلو.

وصخب، وضحكات فاقعة، وكل واحد يريد أن يتحدث وسيل من النمائم المقطع بجرعات الكحول، وتناول المازة والطعام، انهم يعيشون، ويواصلون الوهم بقليل أو كثير من الوعي.

وكل شيء متثاقل. لا أحد يريد أن يفعل شيئا إلا اذا كان مكسبه مؤكدا وفوريا. وقد لاحظت أن العمال المصريين في الخليج أكثر نشاطا، وايقاع عملهم أكثر حرارة منهم في مصر. ان الخدمة السيئة في الفندق صور معبرة عن هذا الوضع.

فوضي كبيرة هي الدولة، وهي البلاد، وهي الحياة اليومية، مررنا علي (ف) في مكتبه. صورة الوصولي الذي وصل. أبهة جوفاء، وسكرتيرات، واتكاء ملكي علي الروتين، والتعقيدات والتجاوزات. يبدو أن هذه الأمور هي المناخ السليم لكي تكون المناصب مجزية، ولها سطوة وهيبة. ووجهه متجهم يقطر اشمئزازا أسود، وادعاء أصفر، ولا يبرح كرسيه الهزاز، ولا يزيح الوراقة حتي ولو أخفت وجه أحد الضيوف عنه. والسكرتيرة هي التي تطلب له الرقم. وهو يتعطف بعدئذ ويتحدث. وهو متفان في خدمة المصلحة العامة. وهو يضحي براحته ومنفعته الشخصية لازدهار العمل من أجل مصر وغدها.

لاشيء.. كذبة كبيرة تتوزع وتتفرع الي سلسلة من الأكاذيب المتدرجة الحجم. وكل الصحف متفقة علي مهاجمة المهرجان. وكل الصحف تهاجم هذا التبذير اللامجدي في بلد يتضور نصف سكانه جوعا. ومع نهاية مهرجان القاهرة، بدأ مهرجان السينما في الاسكندرية، وانتقل الوزير مع الوزارة الي الاسكندرية. ونحن ما موقفنا! ألسنا مشاركين في هذه المسخرة. ألم نورط فيها كذرائع، وغطاء. ألا يعتبر مجيئنا دعما لهذه السياسة الخرقاء، ولهذا التبديد الثقافي! إني لا أنظر الي الصورة في كل جوانبها. وقد لاحظت استخفافا من كل الذين أحبهم، والذين يمثلون المواقف الصحيحة في مصر، بالمهرجان، وبالتكريم الذي حصلت عليه.

كيف أفصل بين النظام وبين هذه المظاهرات! وفي النهاية ألا أخيب بقبول مثل هذا التكريم تقدمه سلطة مكروهة ومرفوضة آلافا من القراء والمتفرجين الذين كرموني بحبهم الصامت والمبعثر، والذي لا يعبر عن نفسه بالبهرج والميداليات! هذه غلطة لا يجوز أن تتكرر.

في الفندق.. وحيدا أتعشي وأرقب حركة الناس الدائبة. اقاماتي في هذه الفنادق فجوات خالية من المعني، ولا تترك في ذهني الا انطباعات عابرة وسطحية. ولأني أحس نفسي غريبا في هذه الأماكن، فإني لا أعرف كيف أستفيد من مترفاتها، أو بالأحري كيف استمتع بها!و لكن هل يمكن أن تكون هذه المترفات ممتعة بالنسبة لي! لعلها ليست ممتعة لكنها تفسد. انه نوع من الدلال الذي يفسد، ويجعل المرء رخوا. لم أعد أعرف كيف أحمل حقيبتي وأتحمل عناء البحث عن فندق متوسط السعر، وأتأقلم مع خدمات السيئة. لم أعد أعرف كيف أدبر أموري في المدن بعيدا عن امتياز الضيافة.. أوه.. الي الجحيم! اننا لا نفعل ورغم كل احتياطاتنا إلا الانزلاق والتورط.

لم يبد الزملاء الذين التقيتهم حماسة كافية للمشروع الذي تعهدناه عبدالرحمن وفيصل وأنا. بل انني لم أجد الحماسة الكافية للدفاع عن المشروع وتسويقه. ان المشاريع كثيرة، ودور النشر كثيرة، والمجلات كثيرة، وادعاءات القول كثيرة، والأقوال كثيرة، واكتشفت أن أهم ما يمكن أن أفعله هو الكتابة المسرحية. هذا هو الميدان الذي لا تحوطه الالتباسات، والذي لا يتخذ طابع اللغو. ان الفن هو الذي سيطرح ويجيب علي الأسئلة الصعبة لزماننا. وانجازه في هذا المجال هو دون شك الأبقي والأكثر تأثيرا.

في 15 أيار (مايو) 1997، انسحب سعد الله ونوس بعد صراع مع المرض، تاركاً بصماته على تاريخ المسرح العربي الحديث. جمع صاحب «حفلة سمر» بين إلمام واسع بالتراث، وبين مواكبة حقيقية للمسرح العالمي بشتّى مدارسه واتجاهاته.

سيرة:

ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر في محافظة طرطوس عام 1941. درس الصحافة في القاهرة وتخرّج عام 1963، وعمل محرراً للصفحات الثقافية في صحيفتي «السفير» اللبنانية و«الثورة» السورية. كما عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا. في أواخر الستينيات، سافر إلى باريس ليدرس فنّ المسرح.

اكتنفت مسرحياته نقداً سياسياً اجتماعياً للواقع العربي بعد صدمة المثقفين إثر هزيمة 1967 وتوقف النقاد كثيراً عند مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» التي اعتبرت نقطة تحول رائدة في المسرح الواقعي.

في أواخر السبعينيات، أسهم ونوس بإنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. كما أصدر مجلة «الحياة المسرحيّة»، وعمل رئيساً لتحريرها. من العام 1978 حتى 1988 اعتصم ونّوس، ليعود إلى الكتابة في أوائل التسعينيات.

توفي في 15 أيار (مايو) 1997، بعد صراع خمس سنوات مع مرض السرطان.

استسلم في يوم الذكرى الـ49 لنكبة فلسطين، رحل كي لا يشهد على احتفاء جديد بألمنا كما كان يردّد.

أعماله المسرحية :

الفيل يا ملك الزمان (1969)

الملك هو الملك (1977)

رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة (1978).

مسرحية الاغتصاب (1990)

منمنمات تاريخية (1994)

طقوس الإشارات والتحولات (1994)

أحلام شقية (1995)

يوم من زماننا (1995)

ملحمة السراب (1996).

………………………………….

قبل عشر سنوات، خسر سعد الله ونّوس معركته الأخيرة… أغمض عينيه ومضى، تاركاً بلاده في قلب الدوامة، والأفكار التي آمن بها على محك التساؤل وإعادات النظر. أين هو المسرح البديل الذي عمل على بنائه هذا المسرحي السوري المجدد؟ ونّوس الذي دخل دائرة الضوء بعد النكسة بمسرحيّة شهيرة هي «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968)، خرج من الحلبة كما يليق بمحارب ساموراي، وقد انتهر العالم: «إننا محكومون بالأمل… وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».

إنه ينتمي إلى سلالة من المؤلفين المعاصرين ــــ بينهم يوسف إدريس، وكاتب ياسين، وألفريد فرج، وعصام محفوظ… ــــ الذين ميّزوا بين الأدب والمسرح، بين السرد والفعل، بين لغة الكتابة ولغة الحياة. أراد ونوس أن يخرج المسرح من خزانة الأدب، والفرد من قطيع الجماعة، والمتفرّج من سلبيّة المتلقّي إلى فعل الشريك الحقيقي في اللعبة المشهديّة. في احدى مقالاته النظريّة انتقد مسرح «التفريغ» لدى دريد لحّام، واضعاً في مقابله «مسرح التحريض» الذي يصدم المتفرّج، ويدفعه إلى الوعي بظروف استلابه السياسي وقهره الاجتماعي، كي ينتفض على أسباب الهزيمة.

يكاد ونّوس يكون مؤرّخ الهزائم العربيّة بامتياز… استعادها على طريقته من «حفلة سمر» إلى «طقوس الاشارات والتحوّلات» (1994) التي قدّمتها نضال الأشقر. فيها يعود بلغة المجاز إلى هزائم قديمة من تاريخنا، تاركاً للفرد أن يحتل مكانته الأساسيّة، ويتحمل مسؤوليته التاريخيّة، وهي من سمات مسرح ونّوس في مرحلته الأخيرة: الانتقال من الوعي الجماعي… إلى التمرّد الفردي.

ينتمي هذا الكاتب إلى جيل آمن بالإصلاح واتخذه منهجاً، وقرن الفن بالالتزام، فانبرى لمواجهة مشاكل زمنه ومجتمعه، قضاياه الانسانية والوطنيّة. لكن همّه الاساسي كان البحث عن القوالب الفنية الملائمة، والأشكال البديلة التي تمهّد لتحوّل في مسار المسرح العربي… ولعل هذا الهاجس لم يفارقه، بدليل التحولات التي شهدها مسرحه بين السبعينات والتسعينات. صحيح أنّه «وضع المسرح في مواجهة الواقع، في عالم عربي يبحث عن نقاط ارتكاز ثقافية وتاريخية جديدة»، بتعبير علي الراعي، لكنه منذ البداية تعامل بحذر مع «المسرح السياسي»، مسرح التحريض والحشد والشعار واللفظ، داعياً في «بيانات من أجل مسرح عربي جديد» (1988) إلى مسرح «التسييس» الذي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة… كان همّه الاساسي أن يقرب مسرحه من المتفرّج.

وإذا كان ونّوس غرف من التراث، في زمن مسكون بهمّ «تأصيل المسرح العربيط، فقد قدّمه من خلال قراءة نقديّة، مستحضراً الأمثولة البريختيّة القائمة على التغريب، تاركاً مسافة نقدية بين الحدث والمتلقي. هذا ما فعله في «الفيل يا ملك الزمان» (1969)، «مغامرة رأس المملوك جابر» (1970)، و«سهرة مع أبي خليل القباني» (1972)، وصولاً إلى «الملك هو الملك» (1977)، و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» (1978)، حيث تتخذ الحكاية الشعبية، بعداً جدلياً يغرف من تقنيات المسرح الملحمي. إنها أساسات «الاحتفاليّة» في المسرح العربي، التي ستعرف عصرها الذهبي في المغرب، مع الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد، وستبلغ أوجها مع عز الدين علّولة في الجزائر، وفرنسوا أو سالم («الحكواتي» الفلسطيني)، وطبعاً روجيه عسّاف («الحكواتي» اللبناني)…

وإضافة إلى احاطته بالتراث العربي، واكب ونوس كل المدارس والاتجاهات المعاصرة في المسرح الغربي… منذ أيام الدراسة الباريسية. لم يكن غريباً عن مسرح بيسكاتور السياسي، كما كان على إلمام دقيق بتجربة بيتر فايس صاحب «مارا ـــ ساد» في المسرح التسجيلي، من دون أن ننسى كل جماليات «المسرح داخل المسرح» وشكل «الارتجال» كذريعة دراميّة كما نقع عليهما في مسرح لويجي بيرندللو. وكلها انعكست في نصوصه. كما اكتشف في باريس «مسرح الشمس» وآريان منوشكين، هو الذي استعار أبرز شخصياته وأبطاله من القصص الشعبي والتراث، وتوسّل (مثل منوشكين أيام مسرحية 1789) المادة التاريخيّة لمقاربة الراهن السياسي.

في أواخر السبعينات (1978) صمت سعد الله ونّوس كما هو معروف عقداً كاملاً. كانت الأزمنة قد بدأت تتغيّر في اتجاه الانحطاط الذي نعيشه اليوم. راجع الكاتب تجربته، وحاول أن يفهم سر ذلك الأفق المسدود الذي يحاصر المسرح العربي، ومشاريعه البديلة، مثلما يحاصر الأحلام التقدميّة والطليعيّة الساعية إلى تحقيق الديموقراطيّة والتنمية والتطوّر. اكتشف ربّما أنه بقي كاتباً نخبوياً. لكن كيف يكون الكاتب المسرحي العربي غير ذلك؟ عندما سيعود الى الكتابة، سيكون جدد لغته ومصادره الإبداعيّة وأدواته الجماليّة… وراح يفرد حيزاً واسعاً لضمير المتكلّم على حساب ضمير الجماعة

عاد إلى الكتابة بعد رحيل شريك تجربته فواز الساجر، مع «الاغتصاب» (1989) التي قدمها جواد الأسدي وشكلت خطوة نوعيّة في مساره الابداعي. وتبعتها مسرحيات عدّة أبرزها «يوم من زماننا» (1993)، «منمنمات تاريخية» (1995)، «ملحمة السراب» (1995)، «بلاد أضيق من الحب» (1996)، الذي ضمنه كتابه «عن الذاكرة والموت»، وأخيراً «الأيام المخمورة» قبيل رحيله.

في تلك المرحلة التي كان يقاتل فيها المرض ــــ كمجاز عن اليأس السياسي والهزائم المتواصلة ــــ بدا ونوس أكثر عفوية وطلاقة في تصور البناء الفني والقالب الدرامي. وبدا مشغولاً ببلوغ أقصى درجات الصدق مع الذات، بعيداً عن جدران الايديولوجيا العازلة… وركّز بجرأة مفاجئة على المحظور الاخلاقي، والمسكوت عنه في المجتمعات العربية.

شباب آخر، شباب أخير… آخر انتفاضة في وجه اليأس والاحباط والموت، هو الذي طالما استل سلاح الكتابة في مواجهة الهزائم الفرديّة والجماعيّة، الذاتيّة والسياسيّة

سعد الله ونوس

ولد الكاتب المسرحي سعد الله ونوس عام 1941 في قرية (حصين البحر) محافظة طرطوس, سوريا.. درس الشهادة الابتدائية في مدرسة القرية, ثم تابع الدراسة في ثانوية طرطوس حتى البكالوريا وفي فترة مبكرة بدأ يقرأ ما تيسر له من الكتب والروايات, كان اول كتاب اقتناه وعمره 12 سنة هو (دمعة وابتسامة) لجبران خليل جبران, ثم نمت مجموعة كتبه وتنوعت (طه حسين وعباس العقاد وميخائيل نعيمة ونجيب محفوظ ويوسف السباعي واحسان عبدالقدوس وغيرهم).

في عام 1959 حصل سعد الله ونوس على الثانوية العامة وسافر الى القاهرة في منحة دراسية للحصول على ليسانس الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة.. واثناء دراسته وقع الانفصال في الوحدة بين مصر وسوريا مما اثر كثيرا عليه وكانت هذه الواقعة بمثابة هزة شخصية كبيرة ادت الى ان كتب اولى مسرحياته والتي لم تنشر حتى الان وكانت مسرحية طويلة بعنوان (الحياة ابداً) عام 1961. وفي 1962 نشر في مجلة (الاداب) مقالا حول الوحدة والانفصال وكذلك عدة مقالات في جريدة (النصر) الدمشقية.

عام 1963 حصل على ليسانس الصحافة وانتهى من اعداد دراسة نقدية مطولة عن رواية (السأم) لألبرتو مورافيا ونشرها في (الآداب) وفي نفس المجلة نشر مسرحيته (ميدوزا تحدق في الحياة).. بعدها عاد الى دمشق وتسلم وظيفته في وزارة الثقافة.

عام 1964 اصابه نشاط ادبي حيث نشر ثلاث مسرحيات قصيرة في الاداب البيروتية والموقف العربي بدمشق وهي مسرحية (فصد الدم) و(جثة على الرصيف) و(مأساة بائع الدبس الفقير) بالاضافة الى العديد من المقالات والمراجعات النقدية.. وفي عام 1965 صدرت اول مجموعة له من المسرحيات القصيرة عن وزارة الثقافة تحت عنوان (حكايا جوقة التماثيل) وقد ضمت المجموعة ست مسرحيات منها (لعبة الدبابيس) و(جثة على الرصيف) و(الجراد) و(المقهى الزجاجية) و(الرسول المجهول في مأتم انتيجونا).

وفي عام 1966 حصل ونوس على اجازة دراسية من وزارة الثقافة وسافر الى باريس ليطلع على الحياة الثقافية هناك ويدرس المسرح الاوروبي, ولم يكتف بالمشاهدة والدراسة فقد نشر في (الآداب والمعرفة وجريدة البعث) عددا من الرسائل النقدية عن الحياة الثقافية في اوروبا.

كانت نكسة 1967 بمثابة الطعنة المسددة لشخص سعد الله ونوس عن قصد, اصابته بحزن شديد خاصة وانه تلقى النبأ وهو بعيد عن وطنه وبين شوارع باريس فكتب مسرحيته الشهيرة (حفلة سمر من اجل خمسة حزيران) ثم مسرحية (عندما يلعب الرجال) وتم نشرهم في المعرفة.. هذا مع عدد من الدراسات التي نشرت في الطليعة الاسبوعية السورية.

وفي نهاية هذا العام عاد الى دمشق حيث عهدت وزارة الثقافة اليه بتنظيم مهرجان دمشق المسرحي الاول في شهر مايو وبالفعل اقيم المهرجان وتم تقديم اول عرض مسرحي لونوس من اخراج علاء الدين كوكش وكانت مسرحية (الفيل يا ملك الزمان) التي كان قد انتهى من كتابتها عام 1969 قبل بدء المهرجان بفترة وجيزة, كما اخرج رفيق الصبان (مأساة بائع الدبس الفقير) وتم تقديم العملين في عرض واحد خلال المهرجان.

عام 1970 اجرى حوارين مع برنار دورت وجان ماري سيرو نشرا في المعرفة وكذلك اصدر بيانات لمسرح عربي جديد واختتم العام بنشر مسرحيته (مغامرة رأس المملوك جابر).

وفي 1972 كتب مسرحية (سهرة مع ابي خليل القباني) وعام 1976 ترجم كتاب (حول التقاليد المسرحية) لجان فيلار وأعد (توراندوه) عن مسرحية لبريخت تحمل نفس العنوان وترجم وأعد (يوميات مجنون) لجوجول.. بعدها حصل على منصب مدير المسرح التجريبي في مسرح القباني حيث كان عليه ان يؤسس هذا المسرح ويضع برنامجه. عام 1977 نشر في ملحق الثورة الثقافي على عددين مسرحية (الملك هو الملك) التي اخرجها فيما بعد المخرج المصري مراد منير وعرضها في القاهرة ودمشق حيث حضر ونوس العرض في دمشق وهو يعاني من السرطان الذي قضى عليه عام 1997.

كذلك نشر في العام 1977 دراسة (لماذا وقفت الرجعية ضد ابي خليل القباني) في نفس الملحق وعرضت (يوميات مجنون) في المسرح التجريبي من اخراج فواز الساجر, وأسس ورأس تحرير مجلة (الحياة المسرحية).. عام 1978 قدم مسرحية (رحلة حنظلة من الغفلة الى اليقظة) وهي اعادة تأليف لمسرحية بيترفايس, ثم ترجم مسرحية (العائلة توت) 1979.

بعد اصابة ونوس بمرض السرطان في اوائل التسعينيات لم يستسلم له وعاد الى الكتابة بعد فترة توقف طويلة شملت معظم الثمانينيات فقدم اعظم اعماله ومنها (منمنمات تاريخية) و(الليالي المخمورة) و(طقوس الاشارات والتحولات).. وقد تم عرض (طقوس الاشارات والتحولات) في لبنان ومصر بعد وفاته من اخراج المخرجة اللبنانية نضال الاشقر والمخرج المصري حسن الوزير).. كذلك مراد منير (الليالي المخمورة) على مسرح الهناجر بالقاهرة.

وفي حوار لونوس عام 1979 شرح تطور اسلوبه المسرحي قائلاً: (منذ منتصف الستينيات بدأت بيني وبين اللغة علاقة اشكالية ما كان بوسعي ان اتبينها بوضوح في تلك الفترة, كنت استشعرها حدثاً او عبر ومضات خاطفة, لكن حين تقوض بناؤنا الرملي صباح الخامس من حزيران, اخذت تلك العلاقة الاشكالية تتجلى وتبرز تحت ضوء شرس وكثيف.

ويمكن الان ان احدد هذه العلاقة بأنها الطموح العسير لان اكثف في الكلمة اي في الكتابة, شهادة على انهيارات الواقع وفعلاً نضالياً مباشراً يعبر عن هذا الواقع وبتعبير أدق كنت اطمح إلى انجاز (الكلمة الفعل) التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معاً.

لمن يكن دور المشاهد وحده يستوعب حدود الفعالية التي اتوخاها, لكن المناضل الذي اريد ان اكونه ليس في النهاية سوى كائن فعله الكلمات, ويتابع (حين عرضت المسرحية بعد منع طويل (يقصد حفلة سمر) كنت قد تهيأت للخيبة لكن مع هذا كنت احس مذاق المرارة بتجدد كل مساء في داخلي وينتهي تصفيق الختام.

ثم يخرج الناس كما يخرجون من اي عرض مسرحي, يتهامسون او يضحكون او ينثرون كلمات الاعجاب ثم ماذا؟ لا شيء اخر. أبداً لا شيء.. لا الصالة انفجرت في مظاهرة ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون ان يفعلوا شيئاً اذ يلتقطهم هواء الليل البارد عندما يلفظهم الباب إلى الشارع حيث تعشش الهزيمة وتتوالد. )

وهكذا كان سعد الله ونوس مقاتلاً بالكلمة وحالماً بالحرية حتى آخر لحظة في حياته, فقد ذكرت زوجته فايزة شاويش انه لم يترك الكتاب والورق والاقلام حتى في ايامه الأخيرة بالمستشفى وهو يودع دنيانا.

ومن الأقوال الشهيرة له والتي القاها في مؤتمر المسرح بباريس قبيل وفاته (نحن محكومون بالأمل ولا يمكن ان يكون هذا نهاية التاريخ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى