صفحات ثقافية

يوم سعدالله ونوس

null

د. ماري الياس

سعد الله ونوس كاتب مسرحي سوري، ولد في حصين الحر بمحافظة طرطوس عام1941، واشتهر كأحد أهم وجوه الحركة الثقافية والمسرحية في العالم العربي منذ الستينات.

درس الصحافة في القاهرة، وأنهى دراسته في عام 1963. وفي تلك الفترة توضح اهتمامه بالمسرح، وكتب مسرحيات قصيرة صدرت في كتاب مستقل في عام 1965 تحت عنوان “حكايا جوقة التماثيل”، عن وزارة الثقافة/ سوريا، ثم جمعت مع غيرها في كتابين صدرا عن دار الآداب في لبنان 1978. من أهم هذه المسرحيات القصيرة “ميدوزا تحدق في الحياة” (1963)، و”فصد الدم” (1963)، ثم “جثة على الرصيف” (1964)، و”مأساة بائع الدبس الفقير” و”الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا” (1964) و”الجراد” (1965). وهي مسرحيات يغلب عليها الطابع الرمزي، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع عبر الرمز. وموضوعات هذه النصوص تعبر عن التحولات الجذرية التي كانت تعيشها المنطقة في تلك الفترة، وعن أزمة الإنسان فيها، من خلال كتابة تبعد عامدة عن الواقعية، التي كانت السمة الأولى للأدب العربي في تلك المرحلة.

ومن الواضح أن كتابات ونوس التي تتميز بالغزارة والتطور المضطرد، تطرح موضوعة أساسية وجوهرية.. هي كيف يمكن للثقافة أن تكون فاعلة في المجتمع، وكيف لها أن تعبر عن قضايا وهموم الإنسان فيه؟ وهذا السؤال يندرج ضمن اهتمامه بربط الكتابة بالحياة العامة والأحداث السياسية في المنطقة. هذا التوجه جعل من نص ونوس على مدى الزمن نصاً متطوراً على المستوى الفكري، وعلى مستوى الكتابة، حسب الظرف الموضوعي الذي تتفاعل معه الكتابة، والظرف الخاص الذي يعيشه الكاتب.

سافر إلى فرنسا عام 1966، وتعرَّف على المسرح الغربي في فترة تحولاته الأساسية والجوهرية، واستطاع أن يستوعب، ويتبنى أهم الطروحات الجديدة في تلك المرحلة، وأن يطوعها، ويؤقلمها مع أرضية واهتمامات المسرح العربي ومتلقيه. فاستخدم أسلوب “الهابننغ والتحريض”، وأدخل تقنياتهما على موضوع الحرب في عام 1968، وذلك لكي يطرح سؤالاً جوهرياً حول الهزيمة، مشككاً بقدرة الكتابة المسرحية التقليدية على أن تعبر عن المستجدات والأحداث العنيفة المعاصرة. يتجلى ذلك في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران“.

من جانب آخر فإن استخدام تقنيات المسرح الغربي، في تلك المرحلة، لم يؤدِ عند سعد الله ونوس، بأي حال من الأحوال إلى عملية نسخ، وإنما كان عملية جدلية ربطت، ودمجت بين أهم التطورات التي دخلت على المسرح العالمي في الغرب، وبين أشكال وتقاليد الفرجة في المنطقة، وتراثها الثقافي والشعبي، وذلك لصالح موضوعات تتعلق مباشرة بالواقع في المنطقة. وهذا ما نجده في مسرحيات مثل “الملك هو الملك” (1978) و”الفيل يا ملك الزمان” (1969) و”مغامرة رأس المملوك جابر” (1969)، حيث يحكي حكواتي لجمهور مقهى شعبي حكاية المملوك الذي ضيع رأسه في معمعة الصراع على السلطة. في هذه المسرحيات يستخدم ونوس تقنيات اللعبة والحكاية، التي تولد حكاية أخرى (كما في حكايا ألف ليلة وليلة)، وتقنية المسرح داخل المسرح، بحيث تبدو الأمور وكأنها لعب ينقلب إلى جد. وسمة هذا المسرح هي الجدية الكاملة في التعامل مع أمور الحياة ومنظومتها، والاهتمام بالمتلقي ونوعية التأثير المفترض عليه. وقد بلور ونوس عبر هذه المسرحيات مفهوم “التسييس”، وميَّزه عن المسرح السياسي. وقد صاغ هذا المفهوم وأفكاره عن المسرح والثقافة بشكل نظري في كتاب “بيانات لمسرح عربي جديد”، الصادر عن دار الفكر الجديد، بيروت لبنان 1988، وكتاب “هوامش ثقافية” الصادر عن دار الآداب ببيروت/ لبنان 1992. والواقع أن اهتمامات ونوس المتعددة والمتنوعة على المستوى الثقافي قد تبلورت في نواح عديدة منذ البداية. فقد قام بترجمة “جان فيلار” إلى العربية، وكتب مسرحية عن مؤسس المسرح في سوريا وهي “سهرة مع أبي خليل القباني” (1972)، وفيها يعالج أسباب توقف تجربة رائد المسرح السوري “أبو خليل القباني”. كما ساهم في ترسيخ أسس لمهرجان مسرحي في دمشق، وأسس وترأس تحرير مجلة مسرحية مختصة في سوريا هي “الحياة المسرحية”، كما ساهم في إنشاء معهد لتدريس المسرح في سوريا وقام بالتدريس فيه.

في مرحلة لاحقة، تعمق هذا الجانب النظري وتبلور. إذ أننا نلمس لدى الكاتب في العقد الأخير اهتماماً شمولياً يتخطى المسرح، ليتعامل مع الثقافة ككل متكامل، ومع وضع المثقف في البلاد العربية. وقد أصدر اعتباراً من عام 1990 بالتعاون مع الكاتب الروائي عبد الرحمن منيف، والناقد فيصل درّاج كتاباً دورياً بعنوان “قضايا وشهادات” (أعداداً خاصة حول الحداثة والثقافة الوطنية وطه حسين). وعندما تم اختياره من قبل المنظمة العالمية لإلقاء كلمة يوم المسرح العالمي في عام 1966، كان هذا الموضوع محور الكلمة التي كتبها.

في عام 1989 كتب مسرحية “الاغتصاب” (دار الآداب، بيروت/ لبنان، 1990)، وهي تتحدث عن الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، من خلال علاقة جدل بين فضائين مسرحيين. تُعتبر هذه المسرحية نقطة تحول على مستوى المضمون والكتابة المسرحية، وهو ما تعمق في المسرحيات الخمسة التي كتبها بعد ذلك.

من أهم مسرحيات هذه المرحلة مسرحية “منمنمات تاريخية” (صدرت في كتاب “روايات الهلال”، عدد مارس، القاهرة، 1994)، واستغرقت كتابتها سنوات عديدة. وهي مسرحية مركبة، تتوضع أحداثها في دمشق أثناء حصار تيمورلنك للمدينة. وفيها يطرح الكاتب عبر ردود الأفعال على هذا الحصار (الذي يذكر بشكل أو بآخر بحصار بيروت عام 1982) مواقف مختلفة تمثل شرائح ومواقع متعددة ومتباينة في المجتمع، من أهمها موقف ابن خلدون، الذي يجسد المثقف المُدان في مثل هذه الظروف. والتجديد والابتكار على مستوى الكتابة ملفت للنظر في هذا النص، فقد استعار بنية المنمنمة من الرسم، ودمج بين تقنيات السرد والمشاهد الممثلة، وعدد الأمكنة والأزمنة، تاركاً الكثير من الأسئلة مفتوحة للاحتمالات. وقد أثارت هذه المسرحية عند صدورها نقاشات حادة.

بعد ذلك وفي عام 1994 كتب مسرحية “يوم من زماننا” ومسرحية “طقوس الإشارات والتحولات” ومسرحية “أحلام شقية”، وقد صدرت جميعها عن دار الآداب في بيروت. وتتميز هذه المسرحيات بنقلة نوعية وفرادة في الطرح. فالكاتب في هذه النصوص، يُدخل البعد الإنساني بكثافة كبيرة، من خلال التركيز على وضع الفرد وكيانه ضمن الجماعة. وهو يرسم صورة الإنسان في المستوى الاجتماعي الظاهري، وفي المستوى الفردي المكبوت، ويطرح مدى التقاطع والتنافر بين هذين المستويين، والتغيرات والتحولات التي تطرأ على الإنسان، عندما يعي هذا التنافر ويحاول أن يتخطاه.

في صيف عام 1996، وبعد صدور مسرحية “ملحمة السراب”، التي تعالج التحول على المستوى الاجتماعي، انتقل إلى نوع جديد من الكتابة، حاول فيه تخطي الجنس الأدبي والممنوعات الاجتماعية والكتابة الواقعية، إلى نوع من الفانتازيا الخلاقة، التي تسمح للمكنونات الداخلية أن تتجلى عبر الكلمات، وذلك للتعبير عن الحياة والموت، انطلاقاً من معاناته الخاصة. وهو الآن على وشك إنهاء مسرحية جديدة.

كُرِّم سعد الله ونوس في محافل عديدة أهمها “مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي” بمصر في دورته الأولى عام 1989، وفي “مهرجان قرطاج” بتونس عام 1989. وحصل على جائزة “سلطان العويس” الثقافية عن حقل المسرح في دورتها الأولى.

صدرت أعماله الكاملة في عام 1996 في ثلاثة مجلدات عن دار الأهالي في دمشق، جُمعت فيها كل المسرحيات الطويلة والقصيرة والنصوص النظرية، من بيانات وكتابات تتعلق بالمسرح. وقد تُرجمت مسرحياته إلى العديد من اللغات الأجنبية، ونُشرت، كما تم عرضها في كثير من الدول العربية والأوربية، وكانت موضوعاً للعديد من أطروحات الدكتوراه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى