صفحات العالم

الديمقراطية الأرملة

خيري منصور
بدءاً لا بد من الاعتراف رغم المجازفة بأن هناك عائلة من المصطلحات التي سادت وصاغت مفاهيم أساسية حول قضايا مصيرية تمت استعارتها من ثقافة شبه رعوية . . وهي جِنْسوّية قدر تعلقها بمنظومة قيم عُرْفية .

أعراس الديمقراطية، واغتصاب فلسطين والزعيم الفحل الذي يتربع على عرش القلوب . . هذه عيّنات من تلك العائلة، فما تعرضت له فلسطين قبل أكثر من ثمانين عاماً وبالتحديد منذ وعد بلفور لم يكن اغتصاباً فقط، بل هو احتلال إبادي، والاغتصاب في أدبياتنا الاجتماعية والجنسوية قد ينتهي بقتل المغتصبة أو تزويجها سراً بمن اغتصبها، خصوصاً إذا حملت منه سفاحاً .

وأعراس الديمقراطية لا ندري من هو العريس فيها ومن هي العروس . . ونادراً ما يتاح لنا أن نقرأ عقد قران شرعي أو نسمع شهوداً يجزمون بأن الزفاف مكتمل النصاب، لكن اللغة أيضاً لم تسلم من الاستباحة وربما من الاحتلال الذي جعل حتى أصحابها يرطنون بها، بل يخجلون منها أحياناً لأنها لا تليق بعدة الحداثة التي يزهون باستعراضها، كيف يمكن لديمقراطية أرملة أن ترقص في مأتم؟ سواء كان مأتمها أو مأتم زوجها وأخيها وأبنائها .

الديمقراطيات المصنعة للعرض فقط، والتي يكون عرسها على طريقة زواج عتريس من فؤادة، في فيلم “شيء من الخوف”، لا بد أن تنتهي إلى متظاهرين يشهرون المشاعل ويرددون معاً . . زواج عتريس من فُؤادة باطل .

لقد أصبح ما يسمى الضحك على الذّقون فِقْهاً له مدارسه ومنظروه وتلامذته . . وما كان في زمن آخر أقل عُقماً وارتهاناً مجرد أخطاء واستثناءات أو جمل معترضة أصبح الآن القانون السائد، بل المسلم والمطلوب منا جميعاً تحويله إلى قدر .

إن الخطوط الحمر المرسومة بالدم تم تجاوزها في الواقع، لكنها لا تزال مقدسة في الكتابة ومختلف أشكال التعبير، لأن التواطؤ شمل كل شيء ونظرية الانحناء للعاصفة كي تمر تحولت إلى فلسفة يصبح الإنسان بفضلها أحدب، لكن ليس على طريقة أحدب نوتردام، بل على طريقة معاصرة تجعل الجبين يلامس القَدَم .

أعراس ديمقراطية تغمر العالم العربي، وتفيض باتجاه الجيران، وعلينا أن نغمض عيوننا لنسمع بها، لأنها لو فتحت لأصابنا الشلل من الصدمة، والطلاق البائن بينونة كبرى بين ما نسمع وما نحاول أن نرى، يدفع البعض منا إلى تحويل الصمم والعمى إلى مطلب إنساني وقومي .

أذكر أن سياسياً عربياً متقاعداً سخر ذات يوم من مصطلح الشفافية، وهو من تلك العائلة من المصطلحات التي هاجرت من سياق حسي وجنسوي إلى السياسة، وقال إن من يشكو من تشوهات وقروح متقيحة في جسده لا يرتدي ثوباً شفافاً، بل العكس هو الصحيح، لأنه يرتدي جلد تمساح أو صدفة سلحفاة كي يستر تشوهات جسده .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى