صفحات العالمما يحدث في لبنان

“خوش بوش” لا “خوش آمديد” ولا “هوش غيلدينير”!

سركيس نعوم
عندما نزل الشيعة، وعذراً لهذه الصراحة الفجّة لأن الديبلوماسية المرادفة للخداع او لتلطيف الأمور لم تعد تنفع، الى قلب بيروت ومعهم طبعاً حلفاؤهم الوازنون جداً من المسيحيين والأقل وزناً من السنّة، وأقاموا في وسطها “معسكراً” شعبياً طالب القاطنون فيه الدائمون والموقتون برحيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة طوعاً او بترحيلها بـ”القوة”، عندما فعلوا كل ذلك لم يجد السنّة، وعذراً مرة اخرى للصراحة الفجّة، امامهم الا استنفار عصبيتهم المذهبية للدفاع عن موقعهم الاول في الدولة اللبنانية، وتالياً عن دورهم المهم في حكمها وادارتها. فتدفقت جماهيرهم ومن كل المناطق السنّية، اذا جاز التعبير على هذا النحو، الى السرايا الحكومية وبطريقة بالغة التنظيم وبصورة يومية، وأظهروا للشيعة كما لسائر اللبنانيين ان لموقع رئاسة الحكومة جماهير تحميه، بل جماهير مستعدة للاشتباك مع كل من يهدده ومن يهدد دورها ونفوذها في لبنان، وإن ادى ذلك في النهاية الى حرب اهلية مذهبية بين المسلمين لا تبقي ولا تذر.
وحقق النزول السنّي اليومي الى الشارع نوعاً من التوازن ساعد مع تدخلات الخارج المتنوع في إبعاد الصدام الداخلي الكبير في حينه. كما افسح في المجال امام نجاح مداخلات عربية وغير عربية في جمع المختلفين اي 8 آذار و14 آذار بالعمود الفقري لكل منهما اي الشيعة والسنّة في دوحة قطر، وفي توصُّلهم الى تسوية اخرجت الحشود المتواجهة من الشارع، وانهت الفراغ في رئاسة الدولة، واقامت حكومة “وحدة وطنية” كما يسميها الجميع. علماً ان الاسم الذي يليق بها اكثر هو حكومة الانقسام الوطني، او التفتت الوطني، او حكومة الإعداد لتفجير الوطن وليس لإزالة صواعق تفجيره الموجودة عند فريقي الصراع بكل اطرافهم. وما يؤكد صحة هذه التسمية هو الاختلاف ومنذ البداية على مهمة اتفاق الدوحة. اذ اعتبره البعض طائفاً ثانياً او مكملاً لاتفاق الطائف يمكن البناء عليه. في حين اعتبره البعض الآخر موقتاً لأن مهمته كانت إخراج الناس من الشارع ومنع الصدام او الانفجار وانهاء الفراغ في رئاسة الجمهورية وعلى الصعيد الحكومي. وذلك حصل فعلاً.
هذا الامر الذي تحدثنا عنه اعلاه ويعرفه اللبنانيون كلهم تكرر في الاشهر الاخيرة من السنة الجارية ولكن بأسلوب مختلف. اذ زار قبل اسابيع رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية محمود احمدي نجاد لبنان بدعوة من نظيره اللبناني ميشال سليمان. ورغم الطابع الرسمي للزيارة، واللقاءات السريعة التي عقدها مع اطراف لبنانيين عدة، وكلامه الرسمي عن الوحدة الوطنية والوحدة الاسلامية، فإن الانطباع العام الذي تكوّن عند اللبنانيين غير الشيعة من مسيحيين ومسلمين ان زيارته كانت اساساً للبنانيين الشيعة الذين يخوضون صراعاً سياسياً مع لبنانيين آخرين ابرزهم السنّة، له جذور وخلفيات وابعاد مذهبية لا يستطيع احد ان ينكرها. وقد ظهر ذلك بوضوح في زيارته لمناطق معينة والحبور بل الحماسة العامة التي شعر بها الشيعة وكذلك القوة في بلاد عانوا فيها في الماضيين القديم والحديث الكثير من التهميش والحرمان وما هو اكثر منهما. كما ظهر ايضاً من خلال الحذر او التحفظ الذي شعر به اللبنانيون الآخرون حيال الزيارة واهدافها الفعلية.
ويوم اول من امس زار رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان لبنان بدعوة رسمية من رئيس حكومته سعد الحريري، والتقى رئيسي جمهوريته ومجلسه النيابي. وفي اليوم الثاني للزيارة التقى اطرافاً سياسيين. وكانت خطبه سواء المرتجلة او المكتوبة متزنة وغير “منحازة” الى احد اذا جاز التعبير على هذا النحو. لكن رغم ذلك كله تكوّن انطباع عند اللبنانيين غير السنّة من مسلمين ومسيحيين ان زيارة اردوغان هي لشد ازر السنّة وهم في مرحلة مواجهة صعبة وشرسة مع اخوانهم في المواطنة اي الشيعة وحلفاء لهم، ومع حلفاء هؤلاء في المنطقة وفي مقدمهم ايران وسوريا. وقد عزز ذلك الانطباع الاطار المناطقي للزيارة اذا جاز التعبير (عكار وصيدا)، والتجييش الشعبي وخصوصاً السنّي لاستقباله، والسعادة الغامرة التي ظهرت على المستقبلين مواطنين كانوا أو مسؤولين وإن كباراً، وظهور الانطباع ان السنّة في لبنان لم يعودوا مستفردين وإن لهم سنداً مهماً هو تركيا. وما يقوّي هذا الانطباع “الاسلامية” الحاكمة في تركيا منذ ثماني سنوات والتغييرات التي ادخلتها على النظام العلماني فيها ولكن التي لم تمس الديموقراطية. ومثلما كانت “الجماعة” التي تربطها صلة قربى “سياسية” باسلاميي تركيا في الاستقبالات مثل “ام العروس” كما يقال ومعها الإسلام السياسي السنّي المعتدل بقيادة “المستقبل”، وكان “حزب الله” بقيادته كلها مثل “ام العروس” ايضاً اثناء زيارة رئيس ايران له او للبنانه او للبنان.
لماذا كل هذا الكلام؟ وماذا يعني؟
اولاً، لا بد من الاشارة الى فارق في التعاطي مع لبنان وافرقائه بين ايران الاسلامية وتركيا. فالأولى لها ابن لبناني اذا جاز التعبير على هذا النحو هو “حزب الله” ومعها شعبه اي الشيعة الذين قدمت اليهم سواء للتنمية او للتحرير او لإعمار ما هدمه الاحتلال الاسرائيلي ما لم تقدمه دولتهم ودول اخرى كثيرة. والاولى تعتبر لبنان جزءاً من استراتيجيا المواجهة الشاملة التي تخوض ولذلك فهي لن تخجل من التدخّل فيه. اما الثانية فليست معادية للأولى، بمقدار “العداء” وعذراً مرة ثالثة للصراحة الفجّة، المزمن بين السنّة والشيعة. لا بل هي تتعاون معها وتنسق في قضايا عدة. كما ان مواقفها السلبية من السياسة الاسرائيلية وخصوصاً تجاه الفلسطينيين تلقى ترحيباً ايرانياً رغم استمرار علاقاتها مع اسرائيل، فضلاً عن علاقتها الوثيقة بسوريا. ومن شأن ذلك كله الا يجعل تركيا طرفاً في لبنان السنّي – الشيعي بخلاف ايران.
لكن رغم ذلك لا احد يستطيع منع سنّة لبنان من الرهان على دولة تُعِدُّ نفسها لتكون مرجعاً في المنطقة الى جانب ايران ربما واسرائيل، وخصوصاً بعد تأكدهم من عجز عربهم وعرب اميركا بل اميركا بالذات عن “حمايتهم”، وخصوصاً في ظل اسلامية حكام تركيا منذ ثماني سنوات. وهي اسلامية ذات جذور “اخوانية” كما يعرف الجميع.
لكن ما يعنيه هذا الكلام هو ان انقسامات اللبنانيين تزداد بل تتجذّر. وهو أن “شعوبه” “ربط” كل منها مع من يماثله في الدين او العقيدة او المذهب او المصلحة. لكن ذلك يسري على “الشعبين” الأكبر وهما السنّة والشيعة. وفي وضع كهذا ماذا يحصل للشعبين الآخرين الدرزي والمسيحي، وخصوصاً في ظل تنامي اقلوية الاول وتحوّل الثاني اقلية وإن كبيرة حتى الآن على الاقل؟ هل يتوجّه كل منهما الى دولة تحميه اقليمية او دولية؟ وهل هناك من هو جاهز مستعد لحمايتهما؟ أم فقط لاستعمالهما وذلك هو الارجح؟. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا تفعل سوريا في ظل هذا الاستقطاب للسنّة والشيعة؟ علماً ان الإنصاف يقتضي الإشارة الى ان سنّة لبنان يستدرجون تركيا وليس العكس بخلاف الوضع بين شيعته وايران. فهي في النهاية وحدها على الحدود مع لبنان ومن دونها لا تستطيع دولة اياً يكن حجمها ان يكون لها دور الا اذا قررت إرسال عشرات آلاف الجنود اليه وذلك غير محتمل  في اطار الصراع وقد يكون محتملاً في اطار صيغ اخرى مستقبلاً.
في اختصار اثبت اللبنانيون وبعد 67 سنة من استقلالهم انهم لا يزالون في القرن التاسع عشر على الاقل. شعوب وطوائف تعيش على حماية القناصل والدول (تركيا والغرب) وان تطورهم كان في الشكل وليس في المضمون. وقد يعودون رسمياً كذلك مع فوارق معينة. و”خوش آمديد” (اهلاً وسهلاً) التي استقبلوا بها نجاد ايران، و”هوش غيلدينير” (اهلاً وسهلاً) التي استقبلوا بها اردوغان تركيا، وأي (أهلاً وسهلاً) بلغات اخرى قد يستقبلون بها قادة دول اخرى هي الدليل على ذلك. وما بين الـ”خوش” والـ”هوش” يمكن القول ان عقلية “الخوش بوش” المتجذرة عند اللبنانيين هي احد اسباب استسهالهم الاعتماد على الاجانب وربما الارتهان لهم.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى