صفحات سوريةغسان المفلح

سورية مأزق يعاد إنتاجه

null
غسان المفلح
منذ أن وعيت على السياسة، ولا أدري إن كان هذا الوعي له تصنيفا إيجابيا أم سلبيا، ولكن منذ تلك اللحظة وأنا أسمع وأرى وأقرأ، أن في سورية ثلاث من الإشكاليات، طائفية، فساد، استبداد سياسي وأمني، والآن أضيف إلى هذه الثلاثية المزمنة، ثلاثية أخرى إشكالية إسلام سياسي، وإشكالية إثنية كردية، أما الإشكالية المعاشية فهي مرت بمرحلتين: الأولى منذ عام 1970 وحتى عام 1984 كانت فترة بحبوحة نسبية وقياسيا للوضع الراهن بالنسبة للمواطن السوري، وهذا يعود لعدة أسباب ولكن أهمها: دعم دول المعسكر الاشتراكي ثم استفادة سورية من الفورة النفطية الخليجية في السبعينيات ثم عائدات حرب تشرين 1973ثم تبعها دخول سوري إلى لبنان1975 بعد اتفاقيات الفصل على جبهة الجولان بين إسرائيل وسورية1974، ومن جهة أخرى كان الفساد في مرحلة صعود مؤسس لنظامه السياسي. في تلك الفترة كانت اللوحة الظاهرة أن النظام يواجه معارضة يسارية، وكان يسحقها ببطء وتمهل ودراية! حتى فاجأت جماعة الإخوان المسلمين الجميع 1978، ماعدا السلطة بالطبع لأنها كانت تراقب تحركاتهم. واستمرت المعركة بين الطرفين حتى نهاية عام 1982 وانقسمت المعارضة اليسارية، بين من رأى في تحرك الإخوان حركة شعبية يجب ملاقاتها، وبين من رآها حلفا رجعيا أسود يجب القتال ضده، سواء مع النظام أو بمفرد يسار!
والمرحلة الثانية الممتدة منذ أزمة 1985 التي حلت بالبلاد معاشيا وحتى اللحظة الراهنة، حيث أصبح للفساد نظامه المتكامل، وللفقر تناسبا عكسيا مع ازدهار الفساد، يزداد الفقر، واصبحت سورية من الدول الفقيرة، والتي يتزايد فيها الهبوط الشعبي إلى ما دون خط الفقر.
بعد أربعة عقود من عمر النظام السياسي، ما الذي حدث لهذه الإشكاليات؟ ما الذي حل منها؟
الفساد بدأ كظاهرة، واستمر بالانتشار حتى ترسخ كنظام.
عندما أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد في منتصف السبعينيات، أول مرسوم لإحداث لجنة الكسب غير المشروع، من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، استطاعت هذه اللجنة أن تثبت بعد أقل من عام، انها لجنة إعطاء شرعية للفساد، لأنها أغلقت ملفاتها ومضت تشارك في تأسيس نظام الفساد، حيث بقي من اتجهت لهم أنظار الشعب، بسؤال” من أين لك هذا؟ وباتوا يساهمون في ترتيب تنفيذي لتوجيهات القائد الراحل، واصبح الفساد معيارا للتوظيف وللتعيين، واستمرت الحال، حتى وصلنا الآن، إلى درجة أن الفساد هو من يدير البلاد، فإذا كان النظام السابق منتجا للفساد، فإن الفساد يعيد منذ زمن إنتاج النظام وحتى الآن.
كان الفساد ظاهرة في مرحلة التأسيس وأصبحت النزاهة العامة ظاهرة لا تذكر الآن.
– قطاع الدولة أصلا منذ زمن بعيد يخضع للفساد والنهب المنظم، وهذه مسلمة لدى شرائح الشعب السوري.
– القطاع الخاص كان حتى بداية التسعينيات، مستقلا نسبيا ومستفيدا من الفساد، اما الآن فالقطاع الخاص تم الاستيلاء عليه من قبل فساد القطاع العام وفاسدي السلطة. لنلاحظ أن ما يطلق عليها ظاهرة الخصخصة تتم بتشارك سلطوي مباشر مع جهات تسمى رجال أعمال. والأقوى سلطويا يحوز على الاستثمار المطروح للخصخصة. النظام الآن بات أقله على المستوى الاقتصادي نظاما يكاد يقترب من الكليانية الاقتصادية.

الفساد سيطر على مجمل حركية الاقتصاد السوري. وليس سيطرة النخب الشابة من أبناء المسؤولين في النظام السابقين والحاليين وأقاربهم، على قطاع الاستثمار الخاص الجديد، وكلها أسماء معروفة ومن عائلات معروفة يرددها المواطن السوري في سره وعلانيته. ولولا الفساد المنظم سلطويا لما سيطروا على السوق السورية.وهذه السيطرة بدأت تأخذ مأخذا قانونيا، مع شكل ما يسمى بالخصخصة لجارية حاليا.
من الصعب الآن أن تجعل المواطن السوري يصدق أن أبناء المسؤولين قد جمعوا ثروتهم بكدهم وعرق جبينهم. وربما يكون منهم من هو لا يريد الفساد ولكن المعادلة العامة لا تغير بالحقيقة الكثير.
قبل أيام طالعنا السيد عبد الله الدردري، كنائب اقتصادي لرئيس الوزراء بتصريح مفاده: أنه خلال خمس سنوات سيصبح دخل المواطن السوري كدخل المواطن الإسرائيلي..كيف؟ لا أحد يعرف..والدردري موقع هجوم بعض اليسار عندنا باعتباره ممثل الليبرالية المتوحشة! وكأن الرجل هو صاحب القرار الاقتصادي بالبلد…رغم أنه كما يقال وعلى ذمة من يقولوا” أنه يحاول أن يفعل شيئا للاقتصاد السوري وبنزاهة”
الشريحة الجديدة من رجال الأعمال التي تحدثنا عنها، ليست حريصة على أن تكون تحت الأضواء، ولهذا تحاول أن يكون لها واجهات من رجال أعمال سابقين، ومن شركات بأسماء جديدة.
لهذا نحن ننتظر شريحة طبقية برجوازية جديدة! تحتاج لمعرفة لدراسات جديدة.لمعرفة ما يجري في إعادة إنتاج سورية- الأزمة على الصعيد الاقتصادي. ولكون هذا الموضوع يشغل جانبا من اهتمامي منذ زمن، فقد سألت أحد أبناء نائب الرئيس السابق المنشق السيد عبد الحليم خدام عنه، فقدم معطيات مهمة، ربما نعرضها في مقالات لاحقة، أما بالنسبة لهم فالرجل أكد أنهم كانوا يعملون في دول الخليج، ولكنه اعترف أنهم استفادوا من كونهم أبناء لنائب الرئيس في علاقاتهم هذه.
الإشكالية الثانية هي الإشكالية الطائفية، هذه أراد النظام تحويل شكل الحكم وآلياته وعمله، مسلمة إيمانية لا تخضع للتساؤل، وهذا ما سنحاول التعرض له ولبقية الإشكاليات السورية في مقالات قادمة.
-2-
لهذا المأزق إشكاليات متعددة، تناولنا في الجزء الأول إشكالية الفساد وتداخل المالي بالسياسي، وفي هذا الجزء نريد التحدث عن الإشكالية الطائفية. أهم ما وصلنا إليه في هذا الحقل الشائك والمربك والحساس، أنه حتى المثقف والمعارض، المنحدر من أصول علوية، لم يعد يرى في البلد أن هنالك إشكالية طائفية، وإن نظام الحكم ليس نظاما طائفيا في تركيبته وفي ممارساته وولاءاته. وهذا أخطر ما في الأمر في الحقيقة بعد مسيرة تصحيح وتصحيح وتصحيح منذ أربعة عقود.
سورية مأزق يعاد انتاجه 1
والتصحيح جرى ويجري من منظورنا، بأنه إدارة مأزق البلد برمته، وهو مأزق النظام في صميم مشروعيته، ومشروعيته هنا، تأخذ الجانب الأهم في أي نظام سياسي، للإجابة عن سؤال غالبا ما نتناساه في خضم مماحكاتنا الأيديولوجية والسياسية وغمرة انشغالنا في التنظير النشوئي، وتحليل أصل تواجد الإشكاليات في الواقع، من أين أتت؟ وكيف؟ رغم أنها باتت موجودة، تحكمنا بشكل لحظي. السؤال” ما هو مشروع النظام السياسي الحالي لسورية المستقبل؟ وبالطبع لكي نبقى في هواجسنا النشوئية نسأل” ما كان مشروع النظام السياسي لسورية منذ أربعة عقود وحتى اللحظة؟ هل هو مشروع حزب البعث كما يحب بعضنا التنظير لذلك؟ أم هو مشروع لضابط طموح يريد أن يتحكم بسورية سلاليا؟
هل كان في ذهن هذا الضابط الراحل أن يصل لمرحلة يضطر فيها إلى توريث الحكم لأبنائه؟ بعد أربع سنوات من حكم هذا الضابط الراحل لسورية، تحولت البلد برمتها إلى حبة تراب في قضبته يعجنها كيفما يشاء وكيف ما أتت الظروف السياسية، إقليميا ودوليا في أولوية واضحة لديه” السلطة، وفقط السلطة” من المنظور النشوئي كان الفساد يتلطى خلف الإشتراكية ناهبا القطاع العام ومشاركا بأريحية القطاع الخاص، أما الآن فالنتيجة بعد هذه العقود الأربعة أصبحت السيطرة على القطاع الخاص لإلحاقه بالقطاع العام على طريقة النظام، تحت شعار الانفتاح الاقتصادي، أو الخصخصة أو الليبرالية كما يروق لبعض يسارنا، ويتم له ذلك بطريقة سهلة جدا، شرحناها في القسم الأول، وهذه تتوافق في الحقيقة مع مستويين من الولاءات، الأول طائفي” يتمحور حول الولاء الأول للسلطة، والمعتمد على العلاقة الشخصية، الوثوقية أمنيا وسياسيا، ثم يأتي الولاء الثاني الأوسع وهو الذي يمس حاجة النظام لكتلة ما فوق طائفية تحضن الكتلة الأساس والتي هي الآن..العائلة وملحقاتها القرابية، أبناء الضباط والمسؤولين الأمنيين والذين غالبيتهم ينحدرون من الطائفة العلوية، ومحاطة ومحمية بكتلة عسكرية امنية تغلب عليها آحادية الانتماء الطائفي. هذا لا يعني أن أمام آخر متماسك طائفيا لدرجة الماهوية، بل نحن أمام علاقات ترسخت لكي يكون مفعولها السياسي وحصيلتها في الثروة الاقتصادية أكبر، لأن النظام غير قادر قانونيا على مأسسة الحالة الطائفية، في مؤسسات دستورية وقانونية، حتى سلطة الرئاسة النظام غير قادر على مأسستها عائليا- وراثيا وطائفيا، لأن سورية جمهورية. هذا القول لا يعني أن نترك لحساسيتنا من أن نتهم بالطائفية أو أننا نكرسها، لكي نغمض العين عنه. بساطة المعرفة السياسية وما وصل إليه الفكر السياسي، هي البحث عن الفاعل التاريخي الرئيسي والأساسي في أي مجتمع، ومدى قدرته على الفعل، وعلى من تقع فاعلية هذا الفاعل؟ إذا كان الفعل السياسي يبني ولاءاته الأولى على وثوقية طائفية وأمنية، لكنه بحاجة لدائرة أوسع بحكم أقلية الأصل الطائفي، فيضطر للعب في ساحة مجتمعية مكشوفة له تماما، فيقرب من يشاء ويبعد من يشاء يعتقل من يشاء ويفلس من يشاء، لهذا يستطيع توفير الدائرة الأوسع من الولاءات المافوق طائفية، وهذه سنتعرض لها في الجزء الثالث عند حديثنا عن إشكالية الإسلام السياسي في سورية- المأزق. يقول ياسين الحاج صالح”يتأسس على هذه المقاربة القول إن الطائفية ظاهرة مشتقة وليست أساسية أو أصلية.
إنها مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشان توجيهها وتوزيعها. نستخلص أيضا أن الطائفية لا تصنع خارج السياسة والسلطة أو بمعزل عنها. ويتمثل المغزى السياسي العملي لهذه المقاربة في أن أية استراتيجية للتحرر الديمقراطي والاجتماعي لا تذهب من وراء المظهر الإيديولوجي إلى الجوهر الاجتماعي تجازف بأن تعطي نتائج معاكسة تصب في مصلحة النظم الأقلوية الحاكمة. المسألة في جوهرها مسألة “حكم قلة” وليس “حكم أقلية” بالمعنى الاصطلاحي للكلمتين (القلة: طبقة أو شريحة؛ والأقلية: جماعة دينية أو مذهبية أو إثنية)” إن كنت أوافق على هذا التحليل التأسيسي لياسين لكنني أسال هذا السياق من التحليل: إنه تحليل يتحدث عن قناة ذات اتجاه وحيد تأسس النظام على أساسه، ولكنه يغفل، عن الاتجاه الآخر من قنوات التفاعل المجتمعي مع هذه الآليات النازلة من فوق من تلك القلة كما يسميها ياسين، إلى عمق المجتمع، والسؤال” ما هي التفاعلات التي تحدثها في المجتمع؟ وماهي ردود الأفعال التي تتلقاها تلك القلة من المجتمع؟ ألا يعاد تنضيد المجتمع طائفيا وفقا لها؟ وهل تبقى القلة قلة، وفق هذا المنظور التفاعلي؟
بالتأكيد في سورية بات هنالك التباس في المعاني كلها..أن تقول أنك أمام نظام طائفي فإنت إما طائفي أو تسعى لتكريس الطائفية! الطائفية ليست فاعل ممارساتي أبدعته السلطة وأرسلته للمجتمع كي يتلقاه بحيادية ولا يتفاعل معه، بل تفاعل المجتمع مع هذا المرسل على مدار أربعة عقود، فما كانت النتيجة؟
التفاعل بين السلطة والمجتمع يمر عبر قنوات لا يوجد فيها صمام عدم رجوع مطلقا، أبدا لا تستطيع سلطة في العالم من أن توجد مثل هذه القناة اللاتفاعلية، إلا إذا كانت سلطة مطلق كليانية ومطلق شمولية، ربما الستالينية او الهتلرية، ولكنها مع كل انشغالاتها لم تستطع تكريس مثل هذه القناة الآحادية المسرى.
لا يمكن لنا بناء نموذج نظري للمسألة الطائفية أو للتطييف السياسي دون أن نتلمس مدى التفاعل بين آليات السلطة السياسية في التطييف وبين تفاعل مكونات المجتمع مع هذه الآليات. لهذا في هذا الحقل لازال المشروع السياسي للنظام إعادة إنتاج التطييف السياسي في سورية…وللحديث بقية.
-3-
كنا في الجزء الثاني من سلسلة المقالات هذه قد تعرضنا للإشكالية الطائفية في سورية،والآن سنتعرض لإشكالية الإسلام والإسلام السياسي فيها، سورية محكومة من حزب البعث منذ عام 1963، بغض النظر عن كيفية تطور السلطة السياسية وتركيبتها الأيديولوجية والحزبية والثقافية والشخصية، لم يستطع البعث العسكري الذي قام بانقلابه مع التيار العسكري الناصري الذي انقلب عليه بعد أشهر، وأصبجت السلطة بعثية خالصة، لم يستطع أن ينفذ إلى المتعارف عليه اجتماعيا، سواء كان دينيا أو تقليديا- ولم يقاربه لأنه كان يعرف أنه لازال بلا عمق شعبي- وإنما استخدمته سلطات البعث كما هو موجود، ودون تدخلية تذكر على المستوى الثقافي والتربوي، ولا على مستوى إحياء النويات المدنية، المتقابلة او المتفاعلة دينيا أو ثقافيا أو مهنيا..ولكنه استطاع أن يحول سيادة الدولة والدولة كلها، وبالتالي الدين المتاح* إلى مطية، فيها تماسك ارتجالي غير مدروس وإنما ظرفي، والظرفي عندما يكون الأقوى يتحول إلى دائم..وهذا ما حدث في سورية، فقد تحكمت ظروف عديدة، وأهمها التمحور حول الانشغال بتكريس السلطة السياسية في البلد وهذا أخذ وقتا، أكثر من عقدين من الزمن كانت النخبة المتسلطة مشغولة بشكل رئيسي في تثبيت سلطتها السياسية الأمنية، 1963 وحتى 1983 نهاية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين، لصالح السلطة، فبقي الدين المتاح سائدا ولكن الذي حدث أن السلطة السياسية بعد انتصارها على الإخوان أخذت على عاتقها الحفاظ على الدين المتاح، مع تنميات محددة ودون التدخل بالسياسة التي تمنعها السلطة. بل أن الانتشار الأفقي للتعليم منذ مجيء البعث، جعل السلطة تتدخل إلى حد أنها سمحت لمن يريد دراسة الشريعة في الجامعة بدون علامات، شرط أن يكون بعثيا، إضافة على انها ساهمت في بناء المساجد، وأقامت معاهد الأسد لتعليم القرآن على نفقة الدولة، ربما يرى بعضنا أن هذا سلوكا ارتجاليا من السلطة، على أثر الصراع مع الإخوان، لكنه استمر مع وسائل أخرى، من أجل تحديد حركية الدين المتاح.
لهذا انتشار الدين المتاح لدرجة يصعب معه رؤية علاقة هذا الانتشار بالسلطة العامة، وفكفكة هذه العلاقة.
كلما ضغط الدين المتاح المحمي سلطويا على المجتمع ككل، كلما باتت السلطة أكثر راحة في حركيتها العامة والخاصة. الشارع ذو حضور للدين المتاح، والدين المتاح ممسوك من عنقه، وهو لا يريد أن يكون أكثر من محاولة هيمنته على الشارع العام، ولصالح السلطة العامة والتي هي ليست سلطة دينية بأي حال، وكذا ليست علمانية من جهة أخرى. فهي لا تسمح بخصخصة الدين الإسلامي، كما انها لا تسمح بخصخصة السياسة أجمالا. حتى وفق قوانين الأحوال الشخصية، فالطوائف والأديان حقها في قوانينها الشخصية محفوظ، ولكن حق القوانين المدنية مهدور تماما ولامكان له، لا عند سلطة الدين المتاح ولا عند سلطة السيد الرئيس العامة.
السلطة كانت قبل ذلك قد صادرت السياسة من المجتمع، وقد بدأت هذه المصادرة منذ مجيء البعث للسلطة 1963 ، السلطة صادرت الدين العام لتحوله إلى دين متاح، هذا عنوان بدأ مسيرته منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين. صادرته دون أن تحد من حركته، وحتى أنها بدات تتسامح مع هوامش جديدة بدأت تنشأ لديه، القبيسيات نموذجا، والسماح لبعض الأسماء بأن تتصدر واجهة هذا الدين المتاح، بهوامش لم تكن موجودة من قبل. هذا الدين المتاح تداخل مع مقولة الجهاد التي وجدت السلطة العامة نفسها، في حاجة لتنميته، سوريا وإقليميا، وذلك منذ حسمت خيارها الاستراتيجي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في ألا تستجيب للمد الديمقراطي والحقوق إنساني، في ذلك العقد، فوجدت مسند ظهر لها، في هذا الدين المتاح على المستوى الشعبي، وفي تكريس جملة من التحالفات والمناورات السياسية التي أظهرت السلطة، وكأنها حامية للنسق الجهادي الإسلامي، تحت شعار المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، لهذا نجد الآن وعبر الإسلام السياسي وغير السياسي، قد أصبح للنظام كتلة شعبية مساندة في الشارع العربي. هذه الكتلة لم تكن معنية، لا هي ولا من تشكلت عبر تنظيماتهم، بالتداخل المرضي بين الحالة الطائفية في سورية، وبين الخيار الإسلاموي الشعبوي.
ثمة قضية لابد لنا من التنويه لها، في الدين العام السائد وقبل أن يتحول إلى دينا متاحا، لم يكن هنالك تضييق على المساحات الدينية للأديان والطوائف الأخرى بعد الاستقلال1946 وهذه قضية تحتاج إلى أن نفرد لها مجالا خاصا، أقله أن الاستعمار الفرنسي حاول صياغة سورية، بطريقة بدأت تقسيمية وانتهت إلى سورية الحالية. فلم تشهد سورية منذ دخول الاستعمار وحتى واللحظة، أي تضييق على الحريات الدينية المتوارثة، بشريا وجغرافيا، طبقة الأعيان وأغنياء المدن، ساهمت في تكريس عدم التدخل في مجالاتها، واقطاعاتها.
هذا واقع عياني وظاهر في سورية الآن، ولكن إشكالية الإسلام السياسي أخذت في سورية أبعادا جديدة، إضافة لما ذكرنا، هنالك لعب استخباراتي سوري واسع بتنظيمات الإسلام السياسي والجهادي خاصة، وليس المقصود هنا حزب الله أو حركة حماس، بل تلك التنظيمات الصغيرة المتمحورة حول أيديولوجيا القاعدة، واختلط هذا الأمر فيما يجري في سورية مع الدين المتاح، لأن الدين المتاح، لا تعنيه إقامة دولة مدنية، ولا تعنيه إحداث قوانين مدنية، ولا تعنيه موضوعة السلطة السياسية والديمقراطية، فما الذي يعنيه إذن؟
نشر الدين المحافظ والتقليدي العالم، المتوافق مع معادلة الممنوع والمتاح سلطويا، هذا الأمر ما الذي عناه ويعنيه بالنسبة لبقية أديان وطوائف سورية؟ شكل ضغطا واضحا في الشارع العام، وهذا بالضبط ما يحتاجه النظام السياسي. وسأنهي هذا الجزء بمفارقة مأساوية” في موضوعة المسودة التي طرحت قبل عام لقانون جديد للأحوال الشخصية، سمح النظام لمجموعة من منظري الدين المتاح” نسخة من الإسلام السني” ان يكتب هذه المسودة وينشرها، السؤال الذي يطرح” السلطة إذا كانت بعثية فهي من المفترض علمانية، فكيف تسمح بذلك؟ ولماذا؟ وإذا كان القائمون عليها علمانيين بعثيين وينحدرون من أقلية طائفية، فكيف يمكن فهم هذا الموضوع؟ هو ليس مساومة كما يشاع مع الدين المتاح، لكونه دين الأكثرية الدينية ، وليس تعبيرا عن سيطرة الدين المتاح على السلطة العامة التي تسن القوانين وتفرضها، إذن لماذا؟ هل يكفي القول” لكي تبقى السلطة العامة حكما في مجال التطييف الاجتماعي؟ السلطة بحاجة لأيديولوجيا متناسبة مع التحولات الدولية، تتشارك معها السيطرة على الشارع الشعبوي، وهذا لم تعد البعثية بمقولاتها قادرة على تغطيته، وحتى لو لم يكن هنالك مدا إسلاميا، فإن الأنظمة العربية كانت ستخلقه، لحاجتها لبدائل شعبوية، لماذا؟ هذه أسئلة علينا أن ندخل فيها وفي وقت آخر، ولكن قبل ذلك علينا رؤية أن سورية الآن” إن كان فيها إسلام سياسي فهو” إسلام السلطة السياسية، والناطق باسمها شعبويا” أما جماعة الأخوان المسلمين في سورية” المعارضة” فلها حقل ملتبس تصر هي على بقاءه ملتبسا، لماذا؟ وهذا ربما نتطرق له لاحقا أيضا. مع كل هذه الرؤية للمسألة لابد لنا من القول” أن السلطة السياسية تتبادل المنافع والكراهية مع هذا الإسلام السياسي المنتشر بالعالم” وهذا ما جعل البنية السورية ملغمة أيضا بهذا الإسلام المتاح المتقاطع بنيويا مع هذا الإسلام المنتشر، فهي لم تعتمد فقط على قوتها الأمنية، بل اضطرت لرشوة هذا الدين المتاح بدء من تسعينيات القرن الماضي، وهو دين تاريخي قابل للرشوة، عبر فاعليه مثله مثل أية ظاهرة تاريخية.
* اعتمدت في هذا الجزء على إضاءات بحث مهم لياسين الحاج صالح بعنوان”وضع -الدين العام-.. مناقشة في الشأن الديني السياسي العربي” ولكنني فضلت استخدام مفهوم الدين المتاح، لاعتبار يخص آليات عمل السلطة العامة في سورية، خاصة بعد عام 1982 ونهاية الصراع مع الإخوان المسلمين، فصادرت السلطة الدين العام لتحوله إلى الدين المتاح، وبات لدينا دين ممنوع ودين متاح، ومرت هذه العملية بسلسلة من الإجراءات السلمية والعنفية بدء من عام 1964أحداث حماة الأولى.

-4-
المسألة الكردية
كنا تعرضنا لإشكاليات الفساد والطائفية والإسلام السياسي في سورية، في هذا القسم سنتعرض للإشكالية الكوردية. وهنا لابد أن نميز بين تعاطي المعارضة السورية ككل مع هذه الإشكالية، وبين تعاطي النظام، وهذا ما سنحاول أن نتعرض له في هذا الجزء.
المسألة الكوردية، لم يتوان النظام عن التعامل معها، كما يتعامل مع بقية المجتمع السوري، بمكوناته ومستوياته ومشاكله. عندما يكون لدينا نظاما كالنظام السوري، فهذا يعني أنه هو من يحدد الحقوق والواجبات، سواء على المستويات الفردية أم الجماعية. بالتالي لا يمكن فهم تعامله مع المسألة الكوردية إلا انطلاقا من هذا المنظور، والذي يشتق من أن أولوية النظام هي الحفاظ على قوة السلطة واستمرارها ومركزيتها، قولا وفعلا.
إن تفسخ حالة الانتماء الجمعي لوطن واحد، يطال الجميع بدون استثناء، عدا الكتلة الشعبية التي وجدت أن النظام يعبر عن مصالحها، وهو الرابط الفعلي في انتماءاتها الجمعية، وهذه الكتلة الشعبية، تشكل الطيف الأوسع أو الدائرة الثانية المحيطة بتمازج خاص مع الدائرة الأولى ذات الولاء الطائفي. والشعب الكردي في سورية، مثله مثل بقية الشعب السوري، لدى النظام فيه أيضا كتلة شعبية بفاعيلها تجد مصلحتها مع النظام.
إن نظام الأسد الراحل قد اعترف بحقوق الأكراد في العراق وتركيا، ودعم كل الأحزاب الكوردية في كلا البلدين، فكانت تجربة حزب العمال الكوردستاني، الذي كان ظهيرا شعبيا للنظام في سورية، وهذا لا يعني تشكيكا بنوايا الحزب وأعضاءه وتجربته، ولكن تحالفاته واستراتيجيته السياسية تطلبت أن يكون النظام سندا له في معركته مع تركيا، وأن يكون هو سندا للنظام في الساحة الكوردية في سورية، ولهذا كانت يد الحزب مطلقة في التعبئة والتنظيم لمواطنين سوريين أكراد، ولازالت كل المؤشرات تشير على أن هذا الحزب بفرعه السوري المشكل حديثا، يحوز على أكبر شعبية بين الأحزاب الكوردية السورية، والمتواجدة تاريخيا في هذه الساحة. الحزب كان يتدخل لكبح أية معارضة للنظام داخل الأوساط الكوردية، والنظام يقدم للحزب كل الدعم اللوجستي. لدرجة أن الحزب كان يأخذ ضريبة لنضاله ضد تركيا من مواطنين أكراد سوريين.
استمرت هذه الحالة حتى خروج عبد الله أوجلان من سورية واعتقاله في تركيا، تحت تهديد تركي باجتياح شمال سورية، اضطر معه الرئيس الراحل إلى ترحيل أوجلان من سورية ومن لبنان أيضا.
قبل 1984 تاريخ انتشار حزب العمال الكوردي في سورية، كانت الأحزاب اليسارية السورية، بما فيها أحزاب جبهة النظام- الحزب الشيوعي السوري بكل انشقاقاته، يستوعب مناضليه الأكراد السوريين.
استطاع القمع للمعارضة السورية وأفلاس الحزب الشيوعي بفروعه الجبهوية، ودخول حزب العمال على الخط، إلى توجه الشباب الكورد السوريين إلى التنظيمات الكوردية القومية، وجاءت تجربة كوردستان العراق لتشكل رافعة أضافية، لقيام مجموعة من الأحزاب على أساس قومي كوردي. والنظام لم يكن يكتفي بمراقبة هذه التغيرات، ولكنه كان يتفاعل معها استخباراتيا بشكل حثيث من جهة، وقمعي انتقائي من جهة أخرى، إضافة بالطبع لتقديم نوع من التسهيلات كغض الطرف مثلا عن نشاط بعض الأحزاب، وقبول مرشحين لمجلس الشعب من هذه الأحزاب، ثم وهذا أخطر ما في الأمر، انه لعب على وتر الاستفادة من تصعيد الخطاب القومي الكوردي ذو المنحى الشوفيني عند بعض الأحزاب، وجعله تيمة يهدد فيها بقية الشارع السوري. كما أنه سمح بفتح المجال أمام” المزايدات اللفظية في الخطاب الكوردي” كنا في حل أشتراكي للمسألة السورية وللمنطقة ككل، ثم حلا ديمقراطيا حتى وصلنا إلى حلا قوميا منفردا للمسألة الكوردية في سورية. والنظام لم يكن اعمى عما يجري، بل العكس هو الصحيح كان متابعا بشكل مثابر لما يجري، يغض الطرف هنا، ويقمع هناك، وعلاقة جيدة مع أحزاب كوردستان العراق، ولاعب ماهر في التعاطي مع حزب العمال والدولة التركية معا. كل ذلك دون أن يقدم على حل ولو مسألة واحدة على هذا الصعيد وهي البت بجنسية أكثر من 300 ألف كوردي يعيشون بلا جنسية في سورية، بغض النظر سواء كانت أرضهم التاريخية أم وافدين، فإن عقود من الزمن كفيلة بأن يتمتعوا بحقوق الجنسية، مع ذلك النظام لازال كما هو على هذا الصعيد. اعترف السيد الرئيس بشار الأسد بأن الكورد السوريين هم ثاني قومية في البلاد ودون أن يترتب على هذا الاعتراف أي إجراء من أي نوع كان، وعندما اندلعت أحداث 2004 آذار تعامل معها النظام بالقمع، وبتوسيط بعضا من الأحزاب الكوردية وغير الكوردية المعارضة! لوقف حركة الناس بالشارع، حتى وصلنا الآن إلى نتيجة مفادها، مزيدا من تحلل شعور المواطن الكوردي بالانتماء لسورية، وأصبحت الإشكالية الكوردية تشبه إلى حد كبير الإشكالية الطائفية، أي حول الكورد إلى طائفة، وهنا غير مهم في هذا السياق ما تقوله الأحزاب الكوردية، المهم كيف تعامل النظام مع هذا الموضوع، وما الذي يخدمه ويخدم سلطته في النهاية.
الأكراد السوريون بتعبيراتهم السياسية الآن، خلق لديهم شعورا جمعيا بأن” سورية عبارة عن وطن مؤقت، وهذا بالضبط ما جعلهم يشبهون في ذلك الأحزاب القومية العربية والإسلامية السورية، وتداخل ذلك مع تطييف المسألة الكوردية. هذا الشعور الجمعي، لم يكن موجودا في السابق وإن كانت الأحزاب الكوردية تطرح حلا قوميا لمسألتها، لكن سورية لم تكن وطنا مؤقتا كما هي عليه الآن، وإن كانت هنالك عوامل دولية وإقليمية ساعدت على ذلك، ولكن المسألة الأساس يتحمل مسؤوليتها النظام، في تردي الإحساس بالمواطنة السورية إلى الحضيض، وهذا ينطبق عموما على المجتمع السوري، لكنه أوضح في الخطاب والممارسة الكوردية، لأن للمسألة وجها قوميا واضحا.
لهذا لم يعد ممكنا الفصل في سورية بين الإشكاليات الثلاث الطائفية والإسلام السياسي والمسألة الكوردية.
إنها مأزق سورية الذي يعيد النظام إنتاجه دوما وسيبقى.
بالطبع هذا لا يمنع في لحظة سياسية ما، ووفقا لموازين قوى محددة، ان يقوم النظام بخطوات تصالحية نسبية ومحدودة سواء مع الإسلام السياسي المعارض او مع الحركة الكوردية، ولكنها خطوات لن تحل، ولن تكون مقدمة لحل ديمقراطي حقيقي للوطن السوري ولكل مكوناته.
وإن كان للمسألة الكوردية وجهين” قومي ومواطني” في الوطن السوري، لكن هذا لايمنعنا من رؤية ويجب أن نرى كيف تعاطى النظام مع هذه المسألة، وهذا ما أحببت أن أكتب فيه هنا. وهذه الكتابة لا علاقة لها برؤيتي لحل المسألة الكوردية في سورية، ولا برؤية المعارضة السورية ككل.
ملاحظة أخيرة” إذا كان النظام لا يؤمن بحقوق المواطنة لأي فرد في المجتمع السوري، مطلق فرد، لأن منطق الولاء وعدم الولاء وما بينهما من هامشية وحيادية وقطيعية، هو منطق إطلاقي أيضا يشمل كل السوريين، فهذه يجب ألا تغيب عن الكوردي السياسي.

-5-
من المعروف أن عملية إعادة الإنتاج في حقل المجتمع والإنسان، ليست عملية مكانيكة أو أتوماتيكية، تشبه أي مصنع مكيانيكي أو مؤتمت، بل هنا تدخل واضح للإرادات، بغض النظر عن حجم ومساحة هذا التدخل وقوته، وهذه الإرادات، سواء كانت داخلية أو إقليمية أم دولية، تتدخل ويعاد إنتاج هذه المجتمع وإنسانه وفق تفاعلات خاصة، علينا رؤيتها، فالسلطة تريد إعادة إنتاج المجتمع كما تريده، والمجتمع لديه إرادات مقاومة إرادية أو لا أرادية للسلطة، كما أن السلطة لها تداخلات إقليمية، متعددة المصالح، ومتعددة الوجوه، إضافة إلى جملة من العوامل الدولية، لا يمكن إغفالها خاصة في اللحظة الراهنة من عمر المنطقة.

سورية مأزق يعاد انتاجه 3

كما لابد لنا من تثبيت نقطة على غاية من الأهمية، وهي أن للسلطة السياسية الدور الرئيسي في هذه العملية، لأنها تملك القوة الأكبر وعلى كافة الصعد في سورية.
– الخصخصة تكون عادة لتخدم قيام مسافات بين قطاع الأعمال وبين سيطرة السلطة عليه، في سورية يجري العكس، قطاع الأعمال كلما زادت ما تسمى الخصخصة يقترب من السلطة أكثر، ودون هوامش تذكر، وهذا يعني مزيدا من احتكار السلطة والثروة معا، لأنه عندما يصبح قطاع الأعمال والسياسة بأيد قلة، عبر احتياز على قطاع الدولة وملكية شخصية للقطاع الخاص، نكون أمام نظام فريد من نوعه، يحتاج إلى دراسات خاصة وميدانية، وبالتالي يجب ألا تسرقنا التصنيفات الجاهزة، لكي نتخلص من الخاص في حركية السلطة والمجتمع معا. كيف يتفاعل المجتمع مع ما يجري على هذا الصعيد؟ من الواضح ان المجتمع السوري، الآن بشكل عام، بات لديه رب عمل رئيسي وهو هنا القلة السلطة، سواء اتجه للعمل في قطاع الدولة أو اتجه للعمل في القطاع الخاص، فهو معلق بالسلطة أكثر مما كان من قبل، قبل العقد الأخير كان المواطن، يخاف السلطة ولازال، وكانت ربة عمله في قطاع الدولة فقط نسبيا، الآن بات يجدها أمامه في القطاع الخاص أيضا كربة عمل فأين المفر؟ وكيف ستنعكس هذه الحالة على تفاعل الفرد السوري مع وطنه؟ الهوامش المتبقية في قطاع الأعمال الخاص، هوامش يمكن أن نعبر عن دورها بمثال بسيط” إذا اعتبرنا القطاع الخاص شركة مساهمة، للسلطة في شركة القطاع الخاص أكثر من نصف الأسهم، وبالتالي لها الهيمنة على قرار مجلس إدارة هذه الشركة، وبقية المساهمين إما أن يوافقوا على قرارات وتوجهات المالك الأكبر أو يرحلوا، وهنا الرحيل أيضا لا يمكن أن يتم دون موافقة هذا المالك، وإلا جرى إفلاس الشريك المنسحب عبر سيطرة هذا المالك على أجهزة السلطة والأمن والقانون، والأمثلة لا تحصى في هذا الصدد. مع ذلك ومع اتساع ملكية أصحاب السلطة الاعتبارية عبر السلطة السياسية والشخصية عبر رؤوس أموالهم المتحصلة من الفساد أساسا، هل يمكن لهذه القلة الجديدة ان تنهي الفساد المالي، طالما أنها أصبحت هي مالكة وهذه أموالها؟

– عندما يجد المواطن السوري التوجهات التطييفية للنظام، هل سيتخلى عن دينه وطائفته؟ مع أنه لا يوجد حملة علونة في البلاد، لأن هذا ممنوع دينيا، لأن الطائفة العلوية ليست طائفة تبشيرية، وإلا لكنت شاهدت ملايين السوريين ربما يغيروا طائفتهم أو دينهم حتى، لهذا يعتقد بعضنا ان ظاهرة التشيع تغطي قسما من هذا الموضوع، والتي تسمح لها السلطة بذلك! فإن لم يكن لها وظيفة سلطوية ما كان يمكن للسلطة أن تسمح بهذا التشيع، وإلا لكانت طالبت إيران بالتعامل بالمثل علويا أو سنيا؟! أي ان تسمح طهران بإرسال مبشريين علويين أو سنيين من سورية.

كما هو معروف مر في تاريخ الشعوب أن قوة السلطة استطاعت تغيير أديان قوميات بحالها، أو تغيير طوائفهم بشكل كامل، السلطة في سورية لا تستطيع العمل وفق هذا المنحى لاعتبارات عديدة عقيدية، وسياسية وقانونية، فتركت جانبا من هذا الأمر للنسخة الشيعة الحاكمة في طهران، ولو من باب التجريب بشعبنا. ثمة أمر آخر” المثقفون السوريون، وخاصة بعض المعارضين” يؤكدون أن الناس في الشارع السوري، باتوا يفكرون بشكل وهابي طائفي..الخ المعزوفة…ولكن هل الأفراد المتواجدين في تراتبية قرار القوة والسلطة، هم ملحدون؟ ام علمانيون، ومؤدلجون لكي يفصلوا انتماءهم الطائفي عن التحاقهم بالسلطة؟ ام انهم مثلهم مثل غالبية المجتمع السوري يفكرون بشكل طائفي؟ هذه النقطة رغم حساسيتها إلا اننا نعتقد بضرورة فتح هذا الملف، لكي نرى مع من يتفاعل شعبنا عموما، لهذا الأقلية القومية الكوردية، كيف يمكن مطالبتها بإعلاء الهم الوطني السوري، وهي ترى الأكثرية العربية، تعلي الهم الطائفي سلطويا ومجتمعيا حتى؟ لهذا كي لا نبقى في حيز يمكن أن يراه بعضنا تجنيا هنا” القلة السلطوية، إذا كانت بعثية معنى ذلك أن الدولة السورية برمتها هي مرحلة انتقالية نحو دولة الأمة العربية، وإن كانت طائفية فهي أقل من وطنية سورية، وتلك مصيبة أعمق، وكذا الأمر بالنسبة للتيارات الإسلامية المتاح منها والمعارض التي تنتظر دولة الخلافة، وكذا الحال بالنسبة للتيار القومي العربي، لماذا مطلوب من الكوردي أن يكون وطنيا أكثر من هؤلاء جميعا، وجيرانه أبناء جلدته في كوردستان العراق باتوا يشكلون له نموذجا شاء أم أبى، وشئنا أم أبينا نحن غير الكورد من السوريين، هذه قضية لا يمكن التعرف عليها فقط أيديولوجيا بل يجب النظر إلى الشعور المتراكم والمتفاعل بين ما يجري هناك وما يجري معهم في سورية طيلة عقود من الزمن؟ هذه السياسة والأيديولوجيات هي من يتفاعل معها المواطن السوري، فكيف سيصبح مواطنا سوريا إذن؟نركز تحليلاتنا غالبا على أثر السلطة على المجتمع، ونقول بتطييفه لكي تبقى سيدته، ولكن كيف يتفاعل المجتمع مع هذا التطييف؟ وكيف تستقبل السلطة ردة فعل المجتمع على ممارساتها؟ أقله لو كان هنالك حد أدنى من النوايا الطيبة، لكانت سمحت بسن قانون مدني- اختياري على أقل تقدير- إلى جانب القوانين المستمدة من الشريعة دينية عند الأديان ومن الشريعة الطائفية عند الطوائف، أي أقله تترك مجالا للسوريين أن يتعاملوا وفق قوانين مدنية لمن أراد..هذا حد أدنى مطلوب.
الدين المتاح سلطويا مرتاح الآن، وهو يعتقد أن الزمن زمنه، زمن السيد محمد حبش والقبيسيات ومعاهد الأسد الدينية..الخ والمشايخ الجدد الذين تملأ اسطواناتهم اليومية وسائل النقل العامة والخاصة.

هذه الحصيلة الضيقة التي حاولنا أن نوجزها بمقال أخير من هذه المقالات التي حاولنا أن نبين مأزق الدولة السورية، تحتاج إلى لغة مواطنية تصل إلى الشارع السوري، ولكن كيف؟ ونتمنى من السلطة والقائمين عليها كشخوص أن يغيروا من توجهاتهم، يجب النظر إلى سورية كدولة أكبر من سلطتهم وأوسع من مصالحهم الضيقة، هذه الرشاوي للدين المتاح من أجل البقاء في مواقعهم الطائفية، وإبقاء الفساد من أجل تجنيب سؤالهم عن أموالهم، ورشوة الزعامات الروحية للطوائف والأقليات بوصفهم جند على الحدود بين مكونات المجتمع السوري، كل هذا مهما طال الزمن سيكون لغما لا أحد يعرف متى؟ ومن سيفجره؟

وبمناسبة دراما رمضان السورية المكررة كل عام، لتخرج هذه الدراما من دمشق ببئتها الشامية، ومن اللاذقية، إلى المحافظات السورية الأخرى، إلى الجزيرة السورية التي تعيش منذ سنوات قحطا وترديا معيشيا فظيعا، والسويداء وديرالزور، حتى حلب وحماة وحمص كلها غائبة! محورية دمشق واللاذقية في الحياة السياسية السورية بدأت تعطي نتائجها حتى دراميا.
نتمنى لدعوتنا هذه أن تجد صدى ما..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى