صبحي حديديصفحات سورية

سورية في العام 2010: عودة إلى وظيفة الضابط الضامن

null
صبحي حديدي
بدأ العام بزيارة بشار الأسد إلى السعودية، لاستكمال ما كان عاهلها عبد الله بن عبد العزيز قد بدأه، في قمة الكويت الاقتصادية، من خطوات إعادة تأهيل النظام السوري، على خلفية ما يمكن أن يوفّره الأسد من خدمات للملكة، ولصفّ ‘الاعتدال’ العربي عموماً، في الواقع، على ساحات حساسة مثل العراق ولبنان وغزّة.
كما انتصف العام بزيارة دراماتيكة، غير مسبوقة بمعنى المعايير البروتوكولية المعتمدة، قام بها الأسد وضيفه العاهل السعودي إلى لبنان، لإسباغ صفة رسمية علنية على ما بات يُعرف بـ’صيغة س ـ س’، السعودية ـ السورية، للتعاطي مع مشكلات لبنان الراهنة والآتية، وملفّ القرار الاتهامي للمحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، بصفة خاصة. ويُختتم العام بقرار، ليس أقلّ دراماتيكة، اتخذه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ثبّت فيه روبرت فورد سفيراً للولايات المتحدة في سورية، وذلك بموجب مرسوم يلتفّ على مجلس الشيوخ، حيث عرقل الجمهوريون التثبيت طيلة أشهر، وكانوا في هذا يتابعون سياسة ‘الحرد’ الدبلوماسي من دمشق، التي اعتمدها الرئيس السابق جورج بوش حين استدعى السفير الأمريكي في مطلع 2005.
دائرة سعودية ـ أمريكية، إذاً، لا تلغي حقيقة أنّ دمشق استقبلت عدداً من كبار الزوّار العرب والأجانب (بينهم اللبناني ميشيل سليمان، والأردني الملك عبد الله، والكويتي صباح الأحمد، والقطري حمد بن خليفة، والروسي ديمتري ميدفيديف، والفنزويلي هوغو شافيز، والإيراني محمود أحمدي نجاد، والباكستاني آصف علي زرداري، فضلاً عن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والعراقي المكلف نوري المالكي، والفرنسي فرانسوا فيون، والتركي رجب طيب أردوغان). كذلك قام الأسد بأكثر من 20 زيارة رسمية، شملت أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لعلّ أبرزها زيارته الأخيرة إلى فرنسا، والتي بدت معنية بالملفّ اللبناني والمحكمة الدولية أكثر من اعتنائها بالعلاقات الثنائية بين دمشق وباريس.
وهي، كذلك، دائرة تذكّر بسلسلة اللقاءات السورية ـ الأمريكية، التي تابعت طرائق الالتفاف على حال ‘الحرد’ ذاتها، دون الانتقال بالصلات إلى مستوى أعلى مباشر، وملموس النتائج، يرتقي بمستويات العلاقة إلى وضع طبيعي، أو تطبيعي. المثال على هذا كان اللقاء الثاني، بعد لقاء شرم الشيخ ربيع العام الماضي، بين وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون، ووزير الخارجية السوري وليد المعلّم، في نيويورك، أيلول (سبتمبر) الماضي. وهكذا، استمعنا إلى كاترين فان دي فيت، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، تشدد على أن اللقاء بين كلنتون والمعلّم ‘ليس مؤشراً على حدوث تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية’. في المقابل، وبعيداً عن هذه اللغة الدبلوماسية المتكاذبة، كانت مؤشرات التغيير تتجلى بوضوح في سلسلة اللقاءات بين الأسد وعدد من زوّاره الأمريكيين: وليام برنز، نائب وزيرة الخارجية، جورج ميتشل، مبعوث البيت الأبيض الخاصّ للسلام، رايان كروكر وأرلن سبكتر وجون كيري وبريان بارد ولنكن دافيز على رأس وفود رسمية تمثّل الكونغرس.
ومن جانبي ساجلت، وأساجل اليوم أيضاً، بأنّ توجهاً أمريكياً ـ سعودياً قد تبلور منذ الأشهر الأولى في إدارة أوباما، يميل إلى تكليف المملكة بإعادة تأهيل نظام الأسد، وتمهيد الأرض لأدوار يؤديها الأخير (لأنه قد يكون أفضل بكثير من سواه، بحكم الموقع الجيو ـ سياسي، وطبائع النظام، والتاريخ القريب…) في الملفّ اللبناني، الذي لا يختزن حساسية عالية خاصة بعناصره وحدها فحسب، بل يتقاطع مع ملفات أخرى تخصّ العراق وفلسطين وإيران. المقاربة بسيطة في الواقع، او هكذا تلوح في أيّ تحليل منطقي: إذا قبل الأسد إغراء العودة إلى لبنان من موقع الضامن والضابط، بتفويض سعودي ـ أمريكي يحظى بغمزة من إسرائيل أيضاً، فإنّ بسط نفوذ كافٍ على جميع القوى الفاعلة في لبنان، وهو أمر لا مناص من تحقيقه، لا بدّ أن يستوجب هذه الدرجة أو تلك من وضع ‘حزب الله’ على قدم المساواة مع سواه. ولن يكون هذا التطور، حتى إذا تحقق بمعدلات نسبية، آمناً تماماً أو مأمون العواقب على المدى القريب قبل ذاك البعيد؛ كما أنه، حتى بافتراض اتخاذ ‘حزب الله’ سياسات سلسة أو تكتيكية إزاءه، لن يكون مقبولاً من طهران.
وفي استنباط المعطيات التي تخدم تكريس هذا التوجه، يتذكر المرء غضبة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ضدّ السعودية، بسبب اشتراكها عسكرياً في حرب السلطة اليمنية ضدّ الحوثيين، وتقاعسها عن نجدة الشعب الفلسطيني في غزّة، وذلك في توقيت خاصّ بالغ المغزى: زيارة الأسد التصالحية إلى الجنادرية! هنالك، أيضاً، مقال تركي السديري، رئيس تحرير صحيفة ‘الرياض’ السعودية، الذي طالب بإعادة لبنان إلى سورية، ولم يكن ينطق عن هوى، رغم محاولته اللاحقة لتشذيب الفكرة من محتوى يستحيل تشذيبه لانه لا يفيد سوى دلالة واحدة. ولا يخفى، إلى هذا وذاك، أنّ زيارة سعد الحريري الأولى إلى دمشق كانت باكورة علامات ‘تلزيم’ نظام الأسد بالتعاطي مع جميع الفرقاء اللبنانيين على قدم المساواة، بل أفضل قليلاً (والبعض اعتبر أنها كانت معاملة امتياز، فاقت ما حظي به كبار حلفاء الأسد من أمثال السيد حسن نصر الله أو نبيه برّي) لخصم سابق، يحدث أنه نجل رفيق الحريري، وزعيم سنّة لبنان… غير المتوّج!
وليست مبالغة أن يتأمل المرء طبيعة التوقيت الذي جعل أوباما يصدر مرسوم تثبيت السفير الأمريكي إلى دمشق في هذه الفترة تحديداً، حيث يتوجب أن تتعاظم الإغراءات للنظام السوري كي يباشر المزيد من اجراءات الضبط والضمان في لبنان، إذْ يقترب أجل إعلان القرار الاتهامي للمحكمة الدولية. لقد دخل أوباما في معركة شدّ وجذب مع مجلس الشيوخ حول تثبيت السفير فورد منذ حزيران (يونيو) السنة الماضية، وليس دقيقاً تماماً الزعم بأنّ استعجاله في تثبيت فورد عائد إلى أنّ موازين الأغلبية والأقلية في مجلس الشيوخ سوف تنقلب اعتباراً من مطلع العام 2011، لأنها في واقع الأمر انقلبت وسوف تنقلب في شؤون أخرى أشدّ خطورة من تعيين سفير في سورية. وإذا اقتضت الحال تقديم هدية أمريكية، ذات قيمة ما، إلى النظام السوري لقاء سلسلة أدوار قادمة سوف توكل إليه، فهذا هو الوقت المناسب، وهذه ـ حتى إشعار آخر، ربما ـ هي الهدية.
وبين قمّة تُوصف بأنها ‘ممانعة’، وتضمّ أحمدي نجاد ونصر الله والأسد؛ وأخرى، ينبغي استطراداً أن تُوصف بأنها ‘معتدلة’، تضمّ العاهل السعودي والأسد؛ واصل النظام الرقص على حبال مشدودة بفعل أزمات خارج نطاق إرادة النظام، ولا يقتات عليها إلا بفعل ما يمنحه التحاقه بالمحور الإيراني من أوراق، مؤقتة مشروطة أياً كانت غنائمها. وتلك، كما أشرنا مراراً، معادلة مؤقتة لا تقيم أود النظام إلا على أسس خارجية، طيّارة، متغيّرة بالضرورة، ومتغايرة بين شرط سياسي إقليمي وآخر، لا سيما حين تبلغ الاستحقاقات آجالها الحاسمة، كما في الأطوار اللاحقة من الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق، او تطوّرات الملفّ الإيراني، أو ما يتصاعد الحديث عنه اليوم من احتمالات لجوء إسرائيل إلى شنّ حرب جديدة في المنطقة.
وإذا كان شهر حزيران (يونيو) الماضي قد شهد الذكرى العاشرة لرحيل حافظ الأسد (1930 ـ 2000)، فإنّ شهر تموز (يوليو) الذي أعقبه شهد ذكرى انصرام عقد كامل على توريث السلطة إلى بشار الأسد، في غمرة مؤشرات جديدة (لم تكن البرقيات التي فضحها موقع ‘ويكيليكس’ أبرزها!) تؤكد المعطى الأبرز في حفظ نظام ‘الحركة التصحيحة’ على امتداد أربعة عقود: أنّ النظام تمتّع، وما يزال يتمتّع، بمساندة ذات أنساق شتى، علنية مكشوفة أو سرّية مستترة، من أطراف إقليمية ودولية فاعلة، تضمّ إيران والسعودية وتركيا، ولا تغيب عنها مصر ذاتها على نقيض من المظاهر الخادعة؛ إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ثمّ الإتحاد الأوروبي، دون نسيان إسرائيل… كلّ هذه القوى رأت، وترى، أنّ ‘الحركة التصحيحية’ كانت، وتصلح اليوم، متعهدة ضمان وضبط وسيطرة، مقابل أثمان زهيدة، باستحقاقات سداد طويلة الأجل!
وفي سجلّ ‘الخدمات’ تلك، ثمة خسائر عسكرية فاضحة على الجبهة السورية، خلال حرب تشرين (أكتوبر) 1973، هي استطراداً مكاسب عسكرية إسرائيلية ثمينة؛ وثمّة اتفاقية خيمة سعسع التي أخرست جبهة الجولان عملياً وقانونياً، وخفّضت صنوف الأسلحة وأعداد القوّات بمعدّلات مهينة، وفرضت خطوط هدنة طويلة تخضع لتفتيش صارم تنفّذه قوات حفظ السلام وفكّ الارتباط التابعة للأمم المتحدة. وفي السجلّ وقائع التدخل العسكري في لبنان، ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، والوقوف موقف المتفرّج أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ثمّ الانخراط في تحالف ‘عاصفة الصحراء’. ولا تنتهي صفحات السجلّ عند اكتفاء الأسد الابن بالمعارك اللفظية أثناء العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان، صيف 2006، وعلى غزّة، أواخر 2008.
وسبق للنظام أن وافق على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، وكان بذلك يعترف بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي. وفي سنة 1976 أيّد النظام قراراً لمجلس الأمن الدولي يدعو إسرائيل إلى الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة، مقابل ‘الإعتراف بحقّ الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها’. وبعد ستّ سنوات وافق الأسد الأب على ‘مبادرة الملك فهد’ وخطّة الجامعة العربية التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود؛ وفي عام 1991 حضرت سورية مؤتمر مدريد، ودشنت سلسلة اتصالات غير مباشرة، وأخرى مباشرة، مع مسؤولين إسرائيليين، شارك فيها أمثال رئيس الأركان الأسبق حكمت الشهابي، ووزير الخارجية السابق فاروق الشرع. كان العام 2010، في ذكرى حزيران وذكرى تموز على السواء، يذكّر بهذا كلّه، دون أن تغيب البتة وقائع الإستبداد والفساد وامتهان كرامة المواطن في عيشه وفي حقوقه الأبسط، وفي اقتصار ‘سياسة الإصلاح’ على مدّ الذئاب السمان المتوحشة بمزيد من الأسباب، والقوانين والتشريعات، التي تتيح لهم ممارسة أقصى النهب وأشدّ أنماط امتصاص الدماء وحشية واستشراساً. وفي التقرير الرسمي الذي ـصدره المكتب المركزي للإحصاء، أي بشهادة من مؤسسات النظام ذاتها، شهدت جرائم الرشوة زيادة بلغت نحو 67.6 بالمئة في سنة 2009، وزادت نسبة الاختلاس بمعدّل 13.7 بالمئة، كما ارتفع تزوير الأوراق المالية بنسبة 33,5 بالمئة قياساً على العام 2008، في بلد تسهر أجهزته الأمنية على منع المواطنين من السفر، أو اختلاق عشرات التهم للصبية المعتقلة طلّ الملوحي (20 سنة) وتشويه سمعتها، أو مواصلة رفع سيف ‘وهن عزيمة الأمّة’ في وجه كلّ من ينبس ببنت شفة في التظلّم أو الشكوى أو المعارضة.
وهكذا، في العام 2010، كما في العام 2000، والعام 1970، تواصل ‘الحركة التصحيحية’ إنتاج وإعادة إنتاج أخلاقياتها، في السجون والمعتقلات، كما في مزرعة النهب والسلب، وفي ساحات الرقص على حبال تشدّها ‘الممانعة’ تارة ويرخيها ‘الاعتدال’ طوراً…

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى