صفحات سورية

أكراد سوريا ومطلب الحكم الذاتي

null
سليمان يوسف يوسف
تمحورت مطالب الحركة الكردية السورية،منذ انطلاقتها في خمسينات القرن الماضي،على:( إزالة الاضطهاد القومي وإلغاء المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية بحق الأكراد السوريين.منح الأكراد حقوقاً سياسية وثقافية واجتماعية.الإقرار الدستوري بالهوية القومية للشعب الكردي في سوريا.بناء مجتمع تسوده العدالة والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان..).باستثناء حزب “البعث العربي الاشتراكي” الحاكم وحلفائه من القوميين العرب في جبهته الوطنية اللاديمقراطية، تكاد تجمع جميع القوى السورية على المطالب الكردية هذه،باعتبارها مطالب مشروعة تندرج في اطار حقوق المواطنة والمبادئ الأساسية ” للإعلان العالمي لحقوق الانسان” الذي وقعت عليه الدولة السورية. لكن يبدو أن الحركة الكردية،أو على الأقل بعض فصائلها الأربع عشرة، مثل حزب(يكيتي)،شرعت برفع سقف مطالبها الى”الحكم الذاتي” لما تسميه بـ”كردستان سوريا”كخيار مناسب لحل قضية الأكراد السوريين.مطلب “الحكم الذاتي” أثار سجالاً حامياً في الأوساط الكردية بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، ومتسائل عن أسباب انفراد حزب كردي بعينه بتبني مثل هذا الخيار المصيري من غير اجماع كردي عليه.
بصرف النظر عن الأسباب(السياسية والتاريخية والوطنية) لرفض السوريين،من غير الكورد،مفهوم أو مصطلح”كردستان سوريا”،أرى أن مطلب الأخوة الأكراد بحكم ذاتي، لمناطق يشكلون فيها أغلبية سكانية، ليس خياراً واقعياً وممكناً، لأكثر من سبب وسبب. في مقدمتها،الوضع “الجيوديمغرافي” حيث ينتشر الأكراد في مناطق متباعدة جغرافياً تفصل بينهما تجمعات كبيرة من العرب والقوميات الأخرى.ثم،رفض الشعوب السورية الأخرى لهكذا خيار،اذا ما عرض للاستفتاء الشعبي. ناهيك عن موقف النظام الرافض بالمطلق لمنح الأكراد وغير الأكراد أية حقوق قومية. ثم الأهم من كل هذا وذاك، ميزان القوى ليس في صالح الأكراد لفرض خيار الحكم الذاتي على الدولة السورية، فهم(أكراد سوريا)الضلع الأضعف في المربع الكردي الإقليمي. في ضوء هذا المعطيات والحقائق، أرى أن طرح خيار الحكم الذاتي للأكراد وتحت أي مسمى سيضر بهم أكثر ما يفيدهم،لأنه سيكون سبباً لمزيد من الشكوك حول النوايا الكردية.وبالفعل في موقف لافت، سارع المحامي (حسن عبد العظيم)، الناطق باسم التجمع الوطني المعارض، الى رفض التعامل مع قضية أكراد سوريا على أساس “كردستاني”وخارج اطار حقوق المواطنة، واعتبر مجرد طرح خيار الحكم الذاتي للأكراد ” دعوة صريحة للانفصال”.بلا ريب، أن موقف عبد العظيم جاء منسجماً ومتوافقاً مع العقيدة السياسية والقومية لحزبه(الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي) ولبقية الأحزاب العربية،لكنه خطوة استباقية من قوى أساسية في المعارضة السورية لتجنب نفسها غضب السلطة، التي ترى في اثارة “مسألة الأقليات” تجاوز للخطوط الحمر الضامنة لوحدة سوريا وأمنها واستقرارها.لهذا من المتوقع أن تأخذ السلطات من مطلب الحكم الذاتي ذريعة اضافية لممارسة مزيد من القمع والاستبداد القومي والسياسي ليس على الحركة الكردية فحسب،وانما على جميع الحركات وقوى المعارضة المطالبة بالديمقراطية والحريات السياسية والحقوق القومية للشعوب السورية.وكردة فعل أولية اعتقلت السلطات الأمنية العديد من قيادات حزب “يكيتي” الكردي،الذي تبنى خيار الحكم الذاتي في مؤتمره الأخير.
لا ننفي المخاوف الوطنية من التطرف والمبالغة في طرح وتناول مشكلة الأقليات في سوريا، التي تعاني من نقص كبير في الاندماج الوطني بين مكوناتها،لكن هذه المخاوف لا تبرر اقفال الباب أمام حلول وخيارات سياسية ومخارج وطنية ديمقراطية مناسبة لاحتواء ظاهرة التعددية القومية والثقافية واللغوية والدينية التي يتصف بها المجتمع السوري،وهي من دون شك ظاهرة تاريخية تشكل غنى حضاري وثقافي واجتماعي لسوريا.كما أنها(المخاوف) لا تبرر اعتقال النشطاء والسياسيين الكورد المطالبين بالحكم الذاتي. لأن الاعتقال التعسفي وزج بكل ذي صاحب رأي وموقف لا يعجب السلطات يتنافى مع المبادئ الديمقراطية وحرية الرأي، فضلاً عن أنه سيولد مزيد من التطرف والتعصب والاحتقان في المجتمع.لهذا، المفيد لسوريا ولنظامها هو محاورة نشطاء الحراك القومي،من الكورد وغير الكورد، والبحث معهم عن خيارات وطنية ممكنة و مناسبة لقضية الأقليات وللمشكلات الوطنية الأخرى،مثل الديمقراطية والهوية الوطنية،التي وقعت ضحية الأفكار الشمولية والعقائد الأيديولوجية لحزب البعث العربي الاشتراكي التي تقوم على استبعاد وطمس هويات وثقافات القوميات الأخرى و فرض العروبة كهوية وانتماء على السوريين من غير العرب.ليس من المبالغة القول،أن سياسات “التمييز القومي” التي اعتمدها حزب البعث منذ انقلابه على السلطة، وتعاطيه السلبي مع الموزاييك السوري،هي المسؤولة اليوم عن وجود مشكلة كردية ومشكلة آشورية ومشكلة أقليات في سوريا.فمن غير المعقول أن تختزل الهوية الوطنية لسوريا بالعروبة وحدها وتهميش أو استبعاد هويات وثقافات شعوب سورية أخرى أصيلة وقديمة مثل الآشوريين(السريان)والأكراد.في ظل هكذا نهج اقصائي لا امكان لانجاز (وحدة وطنية سورية)متينة.وأن حل عقدة ” الانتماء والهوية الوطنية” لن يتأتى إلا بالتخلي عن المشاريع القومية الامبراطورية،عربية كانت أم كردية، وعبر إقرار بأن “سوريا”هي دولة بكامل المواصفات والمفاهيم السيادية ووطن نهائي،وليست كياناً مؤقتاً أو قطراً تابعاً أو جزءاً من أمة عربية مفترضة،وباعتماد “الهوية السورية”- وليس العربية- كهوية وطنية للدولة السورية، وتبنيها كرابطة وطنية جامعة موحدة لكل السوريين، مع حق الجميع في تطوير ثقافتهم ولغاتهم الخاصة.
من حيث المبدأ شكل قانون”الادارة المحلية” لعام 1971 خطوة مهمة على طريق تطوير ودمقرطة “نظام الحكم” في سوريا.لكن من الناحية العملية والفعلية لم يُحدث هذا القانون أي تطور مهم في الحياة السياسية والادارية والقانونية.اذ تم تقنين وتقييد صلاحيات الهيئات المحلية في المحافظات والوحدات الادارية بحيث لا تمس بنية السلطة الأوتوقراطية القائمة على استفراد حزب البعث العربي الاشتراكي بالسلطة كقائد للدولة والمجتمع. صحيح أن “الحكم المركزي”، الذي وضع أسسه وركائزه الفكرية والسياسية والقانونية الرئيس الراحل حافظ الأسد،نجح حتى الآن في تحقيق الاستقرار السياسي وحفظ الأمن في البلاد،لكنه فشل في تحديث الدولة السورية والانتقال بها الى “دولة المواطنة” الحقيقة.لا بل تراجعت المفاهيم والتقاليد الليبرالية التي سادت سوريا في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وزادت مظاهر التدين في المجتمع السوري،حتى غدت الانتماءات القومية والاثنية والى حد ما الدينية هي المحرك الأساسي للحياة السياسية والاجتماعية لكثير من السوريين.وتبدو اخفاقات الحكم المركزي أكثر جلاء في المجال الاقتصادي والتنمية والتعليم والرعاية الصحية ومكافحة الفساد والبطالة،خاصة في المناطق والمحافظات الشرقية،حيث هبط مستوى المعيشة لغالبية سكانها الى دون خط الفقر، رغم انتاجها الوفير من الحبوب والقطن والنفط والغاز،التي تشكل عماد الاقتصاد الوطني لسوريا.لهذا تبدو الحاجة ملحة اليوم لتطوير قانون “الادارة المحلية” والانتقال بسوريا نحو نظم وصيغ أكثر ديمقراطية وحرية وفعالة في الحكم والادارة. تواكب التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسكانية في سوريا التي تجاوز سكانها العشرون مليون نسمة، و تستجيب لظاهرة التعددية القومية والثقافية واللغوية والاجتماعية التي يتصف بها المجتمع السوري.من هذه الصيغة أو النظم”اللامركزية الادارية”، التي تقوم على توزيع السلطات على أسس وقواعد ادارية بحتة، وليست قومية او طائفية او دينية.تمنح الهيئات المحلية في المحافظات أو الأقاليم سلطة اتخاذ القرار على المستوى المحلي وصلاحيات ادارية ومالية يحددها الدستور والقانون تمكنها من ادارة شؤون سكان المحافظة دون الرجوع الى “الحكومة المركزية” التي ينحصر دورها الأساسي في التخطيط والتنسيق والاشراف والمراقبة والحفاظ على أمن المجتمع ووحدة الدولة السورية.يبقى الأهم بالنسبة للأقليات في “اللامركزية” أن تنتخب الهيئات المحلية المدنية،بما فيها المحافظ أو رئيس الاقليم، بشكل ديمقراطي حر ومن أبناء المحافظة ذاتها ومن جميع القوميات دون تمييز أو تفضيل، وأن تتمتع ببعض الصلاحيات السياسية والثقافية،الى جانب صلاحياتها الادارية والمالية، تخولها منح أبناء القوميات الغير عربية،مثل الكورد والآشوريين والأرمن وغيرهم، حقوقاً قومية والترخيص لمؤسساتهم الاجتماعية والثقافية والتعليمية ولأحزابهم السياسية،ليمارسوا كافة نشاطاتهم وفعالياتهم بحرية.بتحقق اللامركزية الادارية الديمقراطية لن يعودوا الأكراد السوريين وغيرهم بحاجة لمغامرات سياسية والمطالبة بحكم ذاتي أو فدرالي.

سليمان يوسف يوسف…
سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى