صفحات مختارةميشيل كيلو

لغة تجهل ما تصف

ميشيل كيلو
لا تشبه الولايات المتحدة الأمريكية الاتحاد السوفييتي السابق . صحيح أنها، مثله، قوة عظمى عسكرية، إلا أنها تختلف عنه، بعد هذه النقطة، في كل شيء .
في الانتشار العالمي: امتلك السوفييت انتشاراً عسكرياً محدوداً . بينما تمتلك أمريكا انتشاراً كونياً شاملاً، يمكنها، وفي وقت قصير نسبياً، من تعبئة قوى متفوقة تستطيع تنفيذ عمليات عسكرية ضاربة ضد خصوم محليين، أينما كانوا ومهما كانت قوتهم . إلى هذا، تمتلك أمريكا شبكة مصالح كونية حاكمة، افتقر السوفييت إلى ما يماثلها أو إلى جزء منه . وتمتلك شبكة معلوماتية/ تقنية عالمية لم يكن بحوزته مثلها ولم يكن بمقدوره إقامة شبيه لها . ولديها شبكة مالية وتجارية تغطي العالم، بينما عاشوا حالة حصار اقتصادي جعلهم لا يمسكون إلا ب 4% فقط من إجمالي تجارة العالم، مع أنهم كانوا ينتجون 24% من إجمالي إنتاجه . إلى هذا، تمتلك أمريكا اقتصادين مختلفين: واحد داخل حدودها ينتج سلعاً وخدمات قيمتها 12 تريليون دولار، وآخر خارجها ينتج ما قيمته 4 تريليونات من الدولارات، أي ما يفوق إجمالي اقتصاد الصين ويزيد قليلاً على اقتصاد اليابان، فهي إن لم تنافسك في السوق الدولية نافستك في سوقك المحلية . أخيراً، لأمريكا شبكة دولية من الخدمات المتنوعة افتقر السوفييت إلى نظير لها، وكان امتلاكها يفوق قدراتهم المالية والتقنية وانتشارهم العالمي . وللعلم، فإن القسم الأكبر من خدمات الاقتصاد العالمي أمريكي، ويتم تبادل تريليون دولار يومياً في الشبكة المالية الأمريكية، بينما تمكن السيطرة التقنية أمريكا من تقييد قدرة الدول الأخرى على التصرف الحر في مواردها، وتجبرها على قبول ولو جزء مما تقرره بشأن علاقاتها الخارجية .
في التقدم التقني: امتلك السوفييت تقنيات متخلفة نسبياً، اقتصر تقدمها على جوانب معينة من الإنتاج الحربي . بينما تمتلك أمريكا تقدماً تقنياً كاسحاً لا يقارن بتقدم أية دولة أخرى، بما في ذلك الدول الرأسمالية المتقدمة، التي تضع إنجازاتها التقنية في خدمة الصناعات والبنوك الأمريكية، أو تنتجها بتكليف منها . هذا التقدم يغطي الكون بأسره: بحراً وأرضاً وجواً، فيسمع كل ما يقال على نطاق العالم في الاتصالات السلكية واللاسلكية، ويعرف ما يكتب ويقال في مواقع الإنترنت ويهمس في الغرف المغلقة، حتى بين رؤساء جمهوريات وملوك الدول الأخرى وزوجاتهم .
في الانتشار السياسي: امتلك السوفييت معسكراً خاصاً بهم، وأصدقاء في العالم تبين أنهم كانوا عبئاً عليهم أكثر مما كانوا قوى دعم ومساندة لهم . بينما لا تملك أمريكا معسكراً خاصاً ولا تلتزم بسياسة نهائية تجاه أي كان، بل تلاحق مصالحها مع وضد الجميع، فإن خَدمتها سياساتهم عاملتهم بحد أدنى من الحقد واللؤم، وإن لم تخدمها شنت عليهم هجمات لا تعرف الرحمة وعاقبتهم بكل ما في حوزتها من وسائل . ليس في مبدأ أمريكا التحالف مع أحد بدوافع أيديولوجية أو سياسية . . . الخ، وهي لا تنفق مالاً على أحد، إلا إذا خدم مصالحها، وتقلع عن الإنفاق عليه بمجرد أن تنتهي مهمته . كما لا تنساق وراء أوهام أيديولوجية تجرها إلى مواقف مثالية أو إنسانية، بل تحدد أغراضها من دون إعطاء وزن لمصالح وأغراض غيرها، فإن وجدت أن تحقيق مقاصدها صعب، بدلت موقفها وقبلت الأمر القائم ولكن إلى حين، ريثما تخلق ظروفاً تقلب بمعونتها الوضع لغير صالحه . وعلى عكس السوفييت، الذين ضيعوا أنفسهم في تحديد هوية الانتقال الثوري ونمط قيادات البلدان الحليفة لهم، وماتت تجربتهم من دون أن يهتدوا إلى معرفة هوية الذين كانوا يتعاملون معهم وينفقون أموال شعبهم المحتاج إليهم، يعتبر الأمريكيون أن غيرهم إما خصم محتمل أو صديق عابر، ويرسمون سياسات تستهدف حصره بين حدين من الخيارات يخدمهم كلاهما، فلا يقبلون أن يكون للآخر حرية خيار وقرار تجاههم، فإن كانت له حرية كهذه، وجب أن تكون جزئية وعابرة . لهذا السبب، لا تطمح سياساتهم إلى كسب حلفاء، بل تركز على تحييد الآخرين، بحشرهم في أطر تقيد وتعين حركتهم وتجعلهم يتخذون قرارات لصالح أمريكا، وإلا احتوتهم أو كيفتهم مع سياساتها، وإلا تكيفت هي نفسها مع غلبتهم، في الحالات المعاكسة، ولكن ليس من أجل الاعتراف بشرعيتها، بل لجعلها طارئة وعابرة وقابلة للكسر، بمجرد أن تقيم ظروفاً تمكنها من ذلك . بهذا النمط من الممارسة، اعتبرت أمريكا التوازن مع أية قوة أخرى حالة يجب التخلص منها، بينما قامت السياسات الأوروبية جميعها، منذ عام ،1648 على التوازن، فكرة ومفهوما وواقعاً، وجرى السوفييت وراء أوهام أيديولوجية ورطتهم في تصنيفات سخيفة لثوار وهميين صنعوهم من بنات خيالهم .
في الإدارة: كان السوفييت يعتبرون الإدارة أمراً ثانوياً في الإنتاج والعمل الحكومي، في حين يرى الأمريكيون فيها عنصراً جوهرياً من عناصر الإنتاج وأداة مهمة لتغيير الواقع . ومن يعرف كيف تعمل الشركات والمؤسسات الأمريكية، يعرف أهمية الإدارة بالنسبة لمجمل العملية الإنتاجية، وللموقف من العالم والأفكار . وبينما رأى السوفييت العالم بأعين أيديولوجية التقطت منه ما اتفق ونظرتها المسبقة إليه وأهملت ما عداه، فجاء عالماً أيديولوجياً مجافياً للواقع وغريباً عنه، يرى الأمريكيون عمومية العالم في وحدتها، لكنهم يقطعونها إلى أجزاء مختلفة يضعون لكل جزء منها طريقة في التعامل تختلف عن طرائق التعامل مع غيره، فهم لا يؤمنون بنمط واحد من التعاطي مع الواقع أو من السعي إلى تغييره، ويؤمنون بإمكانية تحسين قدرتهم على تغيير طبيعة الأشياء وإن تدريجياً وبطرق مسيطر عليها، ويرفضون الأفكار الكلية الصالحة لكل زمان ومكان، ويفرطونها إلى أفكار جزئية يتعاملون معها بصفتها هذه . بهذه البرجماتية الفكرية والواقعية، تتعامل أمريكا مع البشر والأشياء، فلا فائدة من تذكيرهم بالقيم والمثل العليا، فهم يحتقرونها رغم أنهم لا يملّون من الحديث عن مثاليتهم وأخلاقيتهم .
في نمط الحياة والثقافة: عاش السوفييت حياة تفتقر إلى كثير من المقومات المادية الضرورية، وأنكر نظامهم وجود كائن اسمه الفرد، مثلما أنكر حقوقه وحريته وما يترتب عليهما: الحرية والديمقراطية كنظام حياة وحكم . عاش السوفييتي حياة موحشة، وانسحب من الحياة العامة استجابة لرغبة رسمية ضاغطة . عندما فعل ذلك، أقلع المجتمع عن أن يكون حامل الدولة، وغدت السلطة حاملها الوحيد، فلما انهارت هذه (السلطة) انهارت تلك (الدولة)، وخرج المجتمع والفرد من تحت أنقاضهما، ورجعا إلى النقطة التي سبقت ثورة كانت حلماً جميلاً فصارت كابوساً مرعباً . توجد في أمريكا دولة شمولية كالدولة السوفييتية، لكن سلطتها مراقبة من فوق بتوازن قائم على فصل السلطات واستقلالها النسبي، ومن تحت بحرية أفراد مرتفعي الدخل يعملون في اقتصاد فوائض وعمالة وضمانات . لذلك لا يشعر الأمريكي بالافتقار إلى الديمقراطية ويتوهم أنه يعيش في ظلها . يكمن هنا الفارق بين شمولية الدولة السوفييتية، التي أنتجت المجتمع على صورتها ومثالها، وشمولية أمريكا، التي تضبط السلطة وترى خطورتها، وتترك هوامش حرية وحركة للفرد والمواطن وتعترف بحقوقهما، في غير أوقات الأزمات الاجتماعية الكبرى، النادرة في تاريخ أمريكا المعاصر . بالمقابل، كان الإحساس بالأزمة دائماً لدى المواطن السوفييتي . أخيراً، لا مفر من القول إن السوفييتي، الذي كان يتلقى جرعة يومية كبيرة من التربية والثقافة الإنسانيتين، كان متشوقاً إلى ما يسمى الثقافة الشعبية الأمريكية: ثقافة الجاز والموسيقا الريفية والرقص والمخدرات والرحلات وبرانية العالم باعتباره موضوع ذكريات مصورة، وألعاب الكمبيوتر والعنف . . . الخ . ماذا بقي من الثقافة الإنسانية الرائعة في روسيا اليوم؟ لم يبق الكثير .
أصِل الآن إلى ما أردت قوله من هذه المقارنة المسهبة نسبياً، التي تحتمل تطويلاً لا حدود له: لا يمكن وصف أمريكا وصفاً صحيحاً باللغة الخشبية، التي دأب النظام السوفييتي على استعمالها طيلة سبعين عاماً، وخلت أن مؤتمر حزب الله تبناها في الفقرة الخاصة بالرأسمالية والوضع الدولي . ولا يمكن كذلك الحديث عن أمريكا باللغة التي وصفت الاستعمار الأوروبي . أمريكا ليست الاتحاد السوفييتي وليست أوروبا . إنها كيان مختلف عنهما يعمل بأساليب مختلفة عن أساليبهما، ولن تكون هزيمته ممكنة على يد جهة تتشبه بالسوفييت، تبتلع السلطة فيها الدولة وتلغي الإنسان وحقوقه والمجتمع المدني، مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، وتتنكر للحريات العامة، وتغتصب السجناء وتقتلهم تحت التعذيب، وترفض الخلاف والاختلاف، وتؤلّه الممسكين بالحكم، وتقيس قوة الدولة بما لديها من أجهزة قمع، وتعمل لتحقيق أوهامها القومية بقوة العسكر والأمن، رغم أنها تضعف المجتمع وتقسمه وترميه في هاوية الفقر والخوف والغربة عن الدولة، وتدفعه إلى الجهة المناوئة لها .
لا يمكن هزيمة أمريكا إلا بنظام متفوق عليها إنسانياً وسياسياً: في مجال الحريات العامة والشخصية والحياة العامة، مجال الديمقراطية والمشاركة والعدالة والمساواة، نظام لا تني الهوة تتضاءل فيه بين من يملكون ومن لا يملكون، تقرر أموره إدارة مدنية منتخبة لا عسكره ورجال أمنه السريون، نظام صديق لشعبه لا يسوسه رجل يحاسبه شيخ لا يحاسبه أحد غير الله، فهو نظام تقدم في بلد مواطنين أحرار لا يتباهي ليل نهار بما يمتلكه من صواريخ ومدافع، بل يفخر بتقدمه الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي هو أول وقبل كل شيء تقدم البشر العاديين ومجتمعهم وثقافتهم . بغير هذا، سيحدث حتماً شيء شبيه بما عرفته فيتنام، التي هزمت أمريكا عسكرياً (هل تستطيع إيران تحقيق إنجاز عسكري مماثل؟) لكنها وقعت بسرعة وطوعياً تحت سيطرتها المالية، وتحولت إلى تابع اقتصادي لها .
وصف الحزب أمريكا بلغة لا تقبض على حقيقتها، تتجاهل خصوصياتها وتقفز عن تداخل هيمنتها وسيطرتها مع سياسة واقتصاد ونمط عيش وثقافة العالم المعاصر، وتتغافل عن صعوبة اقتلاعها منه، واختلاف واقعها عن صورته لدينا، التي ورثناها من نظام سوفييتي لم يفهم خصائصها، فكان جهله بها من أسباب انهياره السريع (كان أقصر إمبراطورية عمراً على مر التاريخ)، فالعجب كل العجب أن يصل حزب الله إلى الاستنتاجات عينها، التي كان السوفييت يصلون إليها دوماً: انهيار، أو قرب انهيار، النظام الرأسمالي العولمي عامة والأمريكي خاصة، الذي أدخلته هزائم أنزلناها به في أزمة نهائية، في حين تورق قضيتنا وتزهر وتتقدم . لا شك في أن أمريكا قابلة للهزيمة، وكذلك الرأسمالية، لكن ماركس، أفضل دارسيها باعتراف معظم علماء الاقتصاد، وضع شروطاً ثلاثة لذلك: أن يكون النظام البديل أكثر تقدماً من الناحيتين الاقتصادية والعلمية/ التقنية، وأن يكون عالمياً، نظاماً موحداً وقائماً على نطاق عالمي، وأن يلبي حاجات الإنسان المادية والروحية أكثر مما يلبيها النظام الرأسمالي . فهل يعتقد الحزب حقاً أن النظم المناهضة للرأسمالية المتوحشة هي أقل توحشاً منها؟ وهل الحزب واثق من أن هذه النظم ستقضي على الرأسمالية المتوحشة، لتوفرها على شروط ماركس الثلاثة؟ لو كان الحزب أدان نظم التوحش جميعها، لخلا خطابه من خطيئة لطالما وقع فيها مناضلون من الشرق العربي، توهموا أن أي نظام معاد للرأسمالية هو بالضرورة أفضل منها، فأيدوا كل من هب ودب من أعدائها المزعومين، ثم ندموا أفظع الندم لأنهم لم يصدقوا ما قاله ماركس: ليس هناك ما هو أفضل من الرأسمالية (المدنية البرجوازية) غير الاشتراكية الكاملة (المدنية الإنسانية أو التشاركية)، بصفاتها الثلاث السالفة الذكر . أيها الإخوة في حزب الله، لا تذهبوا إلى الحج والناس راجعة .
أتمنى على السيد، وهو رجل أحس حياله بود شخصي صادق واحترام حقيقي، وأفخر به وبرجاله، أن يتقبل هذه الملاحظات، التي يوجهها صديق يريد لحزب الله: مناط الأمل وموئل الرجاء في الصراع مع العدو، القبض على حقيقة الجهة التي يقاتلها، كي لا يتعرض لهزيمة منكرة كتلك التي نزلت بغيره من أحزاب ودول زماننا . وأتمنى عليه ألا يتمسك بتحليل نظري بينت مجريات الوقائع في السنوات الأربعين الأخيرة كم كانت نتائجه سلبية على تاريخنا المعاصر، وكم أدى إلى نتائج مأساوية ومعاكسة كل المعاكسة لما كان صناعه يدعون أنهم يريدون تحقيقه .
إن معرفة العدو هي أول شروط الانتصار في أية معركة . هذا ما علّمنا إياه حزب الله أيضاً .
ومعرفة أمريكا تتجاوز كثيراً ما قاله برنامج الحزب، وامتلاكها شرط للانتصار، فهل يعقب التحديدات الأولية والعامة جداً، التي تضمنها البرنامج، معرفة حقيقية، تفصيلية، بعدونا الذي نريد جميعاً إلحاق الهزيمة به؟
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى