صفحات سورية

على هامش التدقيق السوري في الاتفاقية: أبعاد الشراكة السورية ـ الأوروبية ومخاطرها

null
منير الحمش
أولاً: مقدمات وخلفيات:
في أعقاب مجموعة من الأحداث والمتغيرات الدولية والإقليمية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أعلن الرئيس الأميركي بوش الأب، قيام نظام عالمي جديد، تميز بوحدانية القطب، وبالإعلان عن الانتصار الأبدي للنظام الرأسمالي. وكانت بداية دعوة الدوائر الرأسمالية والمنظمات الدولية، إلى دول العالم للانضواء تحت راية العولمة، والانخراط بالاقتصاد العالمي الجديد.
وأدت مجموعة من التطورات (التي طبعتها الليبرالية الاقتصادية الجديدة بطابعها الايديولوجي والعملي)، إلى الإعلان عن قيام منظمة التجارة العالمية، لتنضم إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولتصبح هذه المؤسسات الثلاث عناوين التوجه الليبرالي الاقتصادي الجديد الذي شكل جوهر العولمة، كما برزت من جديد أهمية التكتلات الاقتصادية الدولية، ليس فقط من أجل توسيع الأسواق، وإنما أيضاً لحل بعض المشكلات الناجمة عن العولمة.
من جانب آخر، بدأت مفاوضات مدريد للسلام في إطار وعود أميركية، بإحلال السلام وفق قرارات الشرعية الدولية، إلا أن هذه المفاوضات باءت بالفشل، بسبب التعنت الإسرائيلي والدعم الأميركي لإسرائيل والنفاق الأوروبي، ولكن قبل ذلك، بسبب ضعف الموقف العربي وهشاشة النظام الإقليمي العربي.
إلا أن محادثات سرية كانت قد بدأت بين بعض القادة الفلسطينيين وإسرائيل، في (أوسلو) انتهت بتوقيع اتفاقية (أوسلو) في منتصف التسعينات، حيث اعتبرت بداية السلام الفلسطيني الصهيوني، الأمر الذي جعل شمعون بيريز يطرح (مشروع الشرق الأوسط الجديد) بمباركة أميركية.
في هذه الأجواء، وفي العام 1995 بالتحديد، دعت أوروبا إلى مؤتمر في برشلونة، حضرته 15 دولة من الاتحاد الأوروبي و12 دولة متوسطية غير أوروبية.
حضره من الجانب العربي الدول العربية جنوب وشرق المتوسط، باستثناء ليبيا وبإضافة الأردن، إضافة إلى تركيا وإسرائيل. وقد صدر عن هذا المؤتمر (إعلان برشلونة) الذي يعلن عن قيام شراكة كاملة أوروـ متوسطية، وذلك كما قال الإعلان «بجعل المتوسط ساحة مشتركة للسلام والاستقرار والتقدم…»
ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى رمزية تاريخ انعقاد مؤتمر برشلونة، فقد عقد بتاريخ 27 تشرين الثاني (1995) وفي تاريخ 27 تشرين الثاني (1095) أي قبل تسعمئة سنة من انعقاد مؤتمر برشلونة، عُقد في مدينة (كليرمون) بجنوب فرنسا مجمع برعاية البابا، أوربان الثاني حضره رجال الدين والأمراء والنبلاء والفرسان من مختلف أرجاء أوروبا، وألقى البابا في ختامه خطاباً حماسياً دعا فيه إلى توجيه حملة إلى الشرق، وكانت بداية الدعوة إلى حروب الفرنجة، التي امتدت حوالى مئتي سنة، بين الشرق العربي والغرب الأوروبي.
هل هي مصادفة عفوية أن يعقد مؤتمر برشلونة الذي نجمت عنه الدعوة إلى الشراكة الأوروبية بنفس تاريخ انعقاد مؤتمر كليرمون الذي أسفر عن شن حروب الفرنجة التي دمرت وقتلت واحتلت الأراضي العربية؟ أم أن ذلك كان مخططاً من قبل منظمي المؤتمر ليعطي الرمز والمعنى لمن يهمه الأمر؟… هذه مجرد إشارة لا بد من أن توضع في خلفية الموضوع.
ثانياً: أهداف الشراكة الأوروبية وأبعادها:
تريد أوروبا، من طرحها مشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية، تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مستندة في ذلك على مجموعة من الفرضيات:
الفرضية الأولى: تنطلق من المصالح التي تعتقد أنها تتحقق من خلال ربط دول جنوب وشرق المتوسط بها، باعتبار حوض المتوسط منطقة استراتيجية هامة بالنسبة للغرب الأوروبي، فهو المجال الحيوي لأوروبا، الذي يشكل خطوط اتصال سياسية وأيدلوجية وثقافية ولغوية ودينية بين عالمين عالم الشمال المتقدم، وعالم الجنوب المتخلف. ولهذا فإن المشروع يعتبر بمثابة اتفاق دفاع وحماية للاتحاد الأوروبي ضد جميع الفيضانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لبلدان الضفة الجنوبية المتوسطية، وهو في هذه الفرضية يلتقي مع المشروع الأميركي.
الفرضية الثانية: تستند إلى الفلسفة النيوليبرالية في خطابها الرسمي الهادف إلى تحقيق التنمية في دول جنوب وشرق المتوسط، عن طريق تبعية اقتصادية تقتضي الانفتاح الاقتصادي الذي هو الأمل الوحيد للاقتصاديات النامية في رفع مستويات المعيشة. ولهذا فالشراكة تنادي بفتح الأسواق وخلق الظروف المؤاتية للاستثمار الخارجي، وإلغاء الحماية وتحرير الأسعار والخصخصة، وتولي القطاع الخاص المهام الاقتصادية، في إطار تنفيذ عملية إصلاح اقتصادي ومالي واسعة النطاق، تفترض الاعتماد على برامج الإصلاح الموصى بها من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي يرتكز على انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي توصلاً إلى حكومة الحد الأدنى.
الفرضية الثالثة: هي اعتماد واضعي مشروع الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية، على (المجتمع المدني) باعتباره الأداة التي تسمح بتفعيل إعلان برشلونة عن طريق تجاوز حدود السلطة السياسية، والالتفاف عن طريقه حول ما قد يحدث من مقاومة للمشروع في الأوساط الشعبية أو في جهاز الدولة. كما ينظر الأوروبيون إلى المجتمع المدني على أنه المساعد على تحقيق أمرين هامين:
الأول: تقبل النتائج (المؤلمة) للإصلاح النيوليبرالي.
والثاني: تقبل التنازلات المخجلة الناجمة عن عملية السلام والتطبيع مع إسرائيل.
وهكذا تُغَلف الشراكة بهذا الخطاب الناعم حول حقوق الإنسان والديمقراطية، بحيث تصبح مقبولة من المجموعات الاجتماعية بمساعدة ما يدعى بجمعيات المجتمع المدني التي يُغذيها «منتدى أورميد المدني» الذي أنشأته أوروبا لاستيعاب وتشجيع ودعم المنظمات غير الحكومية، وكذلك لإنشاء منظمات جديدة أو شبكات ومراصد وغيرها من المؤسسات التي تهتم ببعض قطاعات السياسة الوطنية، وهذه المنظمات ينظر إليها من قبل الأوروبيين على أنها تأكيد للارتباطات السياسية والاقتصادية عن طريق إدخال هذه الارتباطات في نسيج المجتمع عن طريق جمعياته، إذ لا يمكن الاكتفاء بالاتفاقات بين الدول كما يعتقد الأوروبيون. فوجود «مجتمع مدني حر ويتمتع بالرخاء هو شرط جوهري لنجاح المشاركة في جميع جوانبها…» كما يقول أحد التقارير الأوروبية.
الفرضية الرابعة: وهي فرضية تلخص أهداف الشراكة الحقيقية، من خلال مجموعة من الرهانات:
الرهان الأول: هو الرهان الاقتصادي الهادف إلى تحويل جنوب وشرق المتوسط إلى منطقة تبعية كاملة لأوروبا، وإعادة تأهيل اقتصاديات دولها وفقاً لمتطلبات الاقتصاديات الأوروبية، وجعل هذه المنطقة بمثابة الداعم الخلفي لأوروبا بوصفها القطب الثالث في النظام الاقتصادي العالمي إلى جانب اليابان وشرق آسيا والولايات المتحدة.
الرهان الثاني: يتعلق بالجانب الديمغرافي، ففي مقابل عدم التكافؤ في النمو الديمغرافي بين بلدان الضفتين للمتوسط، يطلب الأوروبيون من بلدان الجنوب، التحكم في تحركات الهجرة، ولعب دور حراس الحدود في الوقت الذي يطلبون فيه فتح حدودهم أمام حركة البضائع والأموال.
الرهان الثالث: وهو الرهان الاستراتيجي، الذي يتضمن جانبين:
الجانب الأول: فصل بلدان الخليج العربي عن الجسم العربي، باعتبارها محميات أميركية.
والجانب الثاني: دمج إسرائيل في المنطق الأورو ـ متوسطي، مروراً بفصل المشرق عن المغرب العربي في انحياز واضح للمغرب، لفك تضامنه إزاء القضية الفلسطينية.
ويكمن خلف هذا الرهان الاستراتيجي إعطاء هوية جديدة للمنطقة جنوب المتوسط وشرقه بدلاً عن هويتها العربية، وهي الهوية المتوسطية التي تتقبل وجود إسرائيل ضمن دول هذه المنطقة مع إعطائها أدواراً مميزة.
هكذا فإن مجموعة الأهداف الأوروبية الغربية بخلفيتها الليبرالية الاقتصادية الجديدة، يمكن أن تتحقق وخاصة:
1ـ تشكيل تكتل اقتصادي ـ سياسي، في مقابل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته إسرائيل بمباركة أميركية، وعدا عن قدرة هذا التكتل على توسيع الأسوق أمام المنتجات الأوروبية وتسهيل حصول مصانعها على مواد أولية رخيصة، فإنه يعزز النفوذ السياسي لأوروبا.
2 ـ قطع الطريق أمام إقامة تكتل اقتصادي عربي في ظل النظام العربي الإقليمي، واستبدال الهوية العربية للمنظمة بهوية متوسطية، وربط البلدان العربية المتوسطية بأوروبا فرادى.
3ـ تطبيع علاقات الدول العربية في المنطقة مع إسرائيل، وتعزيز مركز إسرائيل في المنطقة كدولة ذات امتيازات خاصة، تذليل العقبات التي تحول دون قيام (سلام) بين فلسطين وإسرائيل، وإن كان ذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، ودفع سوريا لقبول (السلام) مع إسرائيل ضمن الشروط الإسرائيلية.
4ـ تعميم ثقافة السوق والاستهلاك، وطبع المنطقة بالقيم الغربية والسلوك الغربي، ما يعتبر تعدياً واضحاً على القيم الوطنية والقومية وتشويهاً مقصوداً للثقافة العربية.
ثالثاً: المخاطر والسلبيات:
1ـ على الصعيد السياسي:
أـ ضياع الحقوق العربية عن طريق مشاريع السلام المطروحة والهادفة إلى قبول العرب بالحلول الإسرائيلية والتطبيع مع المعتدي.
ب ـ القبول بحالة الشرذمة العربية، وإضعاف النظام الإقليمي العربي لحساب المشروع الأوروبي الغربي، بتكريس حالة التجزئة القائمة.
جـ ـ القبول بحالة التبعية المفروضة بالمشروع الأوروبي، والتعامل مع النظام الدولي من خلال التبعية للغرب الأوروبي.
2ـ على الصعيد الاقتصادي:
أـ فرض التوجهات الخاصة بالليبرالية الاقتصادية الجديدة واقتصاد السوق كخيار اقتصادي وحيد، يستهدف إبقاء حالة التخلف في المجتمعات العربية، واستمرار تبعية اقتصاداتها للغرب الأوروبي، من خلال علاقات اقتصادية غير متكافئة يفرضها تقسيم العمل الدولي الجائر، وإضعاف الدولة القطرية, وجلعها ضعيفة أمام مصالح الخارج.
ب ـ الاستعاضة بالتكامل مع الاتحاد الأوروبي عن التكامل الاقتصادي العربي وقطع الطريق أمام التوحد الاقتصادي العربي.
جـ ـ بتحرير التجارة الخارجية المفروض من خلال اتفاقية الشراكة، ستتحول الأسواق المحلية إلى فرص للترويج للبضائع والسلع الأوروبية، ما يهدد المنتجات الوطنية القائمة، ويمنع قيام صناعات جديدة متطورة، ويفاقم مشكلة البطالة، والمشكلات الاجتماعية المرتبطة بها.
د ـ سوف يؤدي هذا إلى تراجع معدلات النمو وإلى تفاقم العجوزات الحاصلة في الموازنات العامة والموازين التجارية، وموازين المدفوعات.
وباختصار ستؤدي النتائج الاجتماعية الناجمة عن تطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية المفروضة بموجب الشراكة، إلى تهديد السلم الاجتماعي والإضرار بالنسيج الاجتماعي.
3ـ على الصعيد الثقافي:
إن تعميم ثقافة السوق والاستهلاك، والقيم الغربية، سوف يؤدي إلى نتائج كارثية على صعيد قيم المجتمع وثقافته وتراثه وعاداته وتقاليده.
رابعاً النتائج:
لم تحقق الشراكة الأوروبية للدول التي وقعت اتفاقياتها ما كانت تأمل به أطرافها، فقد أدت إلى المزيد من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ففي حين أن النتائج السلبية تحققت، فإن النتائج الإيجابية التي كان يؤمل بها بقيت على سبيل التمني.
وقد عقد في باريس في العام الماضي اجتماع موسع لمنتدى باريس الأورومتوسطي، حمل عنوان «اتحاد من أجل المتوسط. ماذا نفعل؟» حضره أكثر من ستين شخصية سياسية ودبلوماسية، ومن المجتمع المدني. في هذا الاجتماع كان الاتفاق يكاد يكون تاماً حول المسائل الرئيسية وهي:
1ـ إن حالة البحر المتوسط ومحيطه حالة سيئة، بسبب الانقسامات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ففيه شعوب غنية وأخرى فقيرة، وهناك فجوة كبيرة بين الشمال والجنوب، وهي من أوسع الفجوات في العالم. وقد قدرها بعض الحضور بـ 1 إلى 10 والبعض الآخر بـ 1 إلى 12. وفي هذا يقول الرئيس الفرنسي ساركوزي: إن الفجوة ازدادت على مدى الـ 15 سنة الماضية، ما يثير مخاطر عدم الاستقرار في منطقة المتوسط وما وراءها.
2ـ تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تقول إن هناك حاجة لتوفير 40 مليون فرصة عمل في بلدان جنوب المتوسط خلال السنوات الـ 15 القادمة للحفاظ على مستوى البطالة في مستواه الحالي.
3ـ الاستثمارات من شمال المتوسط إلى جنوبه تمثل 2% فقط من إجمالي الاستثمارات الأوروبية في ما وراء البحار.
وفي ضوء هذه المعطيات، خرج المؤتمرون، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي، إلى نتيجة مفادها: أن مسار برشلونة (الشراكة الأوروبية المتوسطية) لم تحقق الأهداف المتعلقة برفع مستوى شعوب جنوب وشرق المتوسط، وأن مساعدة جدية واستثمارات أوروبية لم تقدم لتحقيق التنمية.
ولهذا خرج ساركوزي بمشروعه بعنوان «اتحاد من أجل المتوسط» الذي سيلقى الفشل نفسه الذي مُنيت به الشراكة.
أوردنا ذلك لندلل على فشل الشراكة في جانبها الاقتصادي، فضلاً عن فشلها في عدم تحقيق السلام في المنطقة العربية بين العرب وإسرائيل، وعدم تقديم أي مساعدة أو مساهمة فعلية في هذا المجال بسبب موالاة الغرب للمشروع الصهيوني، وبسبب العدوان الإسرائيلي المستمر على شعب فلسطين واستمرار احتلالها للجولان.
لهذه الأسباب رفضت سوريا الشراكة الأوروبية عندما طُرحت لأول مرة، لكنها وإن عادت إلى المفاوضات مع أوروبا لأسباب سياسية معروفة، فإنها تُعيد الآن التدقيق في مشروع الاتفاقية، ولا أعتقد أنها، بعد أن تقف على حقيقة أبعاد ومخاطر الشراكة، ستُقدم على توقيع هذه الاتفاقية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى