صفحات سوريةهوشنك أوسي

عن إدمان الاستبداد وخيانة الحريَّة

null
هوشنك أوسي
كثيراً ما يردد ويعيد ويزيد الإعلام السوري مقولة أحد المؤرِّخين الفرنسيين عن سورية، هي: “لكلِّ إنسان في العالم وطنان، وطنه وسورية”. وذلك، للإشارة والتأكيد على عراقة وأصالة الشَّام، وعمقها التاريخي وثرائها الحضاري. وكثيراً ما كانت سورية، وعاصمتها دمشق ضالَّة وتحفة وأيقونة الشعراء والموسيقيين والفنانين التشكيليين…الخ، وقالوا فيها، وكتبوا عنها، وغنُّوا لها، وأبدعوا فيها الكثير الكثير. وكلّ ما قيل وكُتِبَ وغُنِّي ورُسِمَ…، عن جمال الشام، يجاور الحقيقة. لكن، لا أحد يسأل: لماذا يهجرها طيورها من المبدعين؟!. لماذا بعضهم الآن، خلف القضبان، لمجرَّد أنّهم أردوا التعبير عن رأيهم في المطالبة بالديموقراطيَّة والانفتاح والإصلاح والتعدديَّة السياسيَّة والمجتمع المدني والشراكة الوطنيَّة الحقيقيَّة بين المكوِّنات الرئيسة للمجتمع السوري؟!. لماذا كلّ مواطن السوري، هو مشروع معتقل، إنْ فكَّر، مجرَّد تفكير، في انتقاد العائلة المقدَّسة الحاكمة، وطغيان أبناء العمومة والخؤولة لهذه العائلة، على رِقاب العباد ومصادر البلاد؟!. لماذا معدَّلات البطالة والفقر والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في ازدياد جنوني؟!
لماذا المستشفيات والمطارات والملاعب والمنتزهات والمدن والسدود والجسور والشوارع والمعاهد والجامعات والحدائق والجوامع والكنائس والصالات الرياضيَّة والكثير الكثير من المرافق العامَّة والخاصَّة، إمَّا تحمل اسم الزعيم الراحل، أو اسم ابنه أو أمّه؟!. لماذا تماثيل الزعيم وابنه الراحلين في كل مكان؟!. لماذا تجوب فرنسا وربما لن تجد سوى تمثال واحد لشارل ديغول أو لنابليون، أو لا تجد في أميركا سوى تمثال واحد لجورج واشنطن…الخ؟!. لماذا تشتهر بلدان العالم بالمتاحف والعلوم والتكنولوجيا والانفتاح والحفاظ على حقوق النبات والحيوان والبيئة، وتشتهر سورية، والكثير من البلدان العربيَّة والشرق أوسطيَّة بالسجون والمعتقلات، وسطوة وسلطة وجبروت المخابرات، وارتفاع معدَّلات الأميَّة والفقر وانتهاكات حقوق الإنسان والحكم بالإعدام ضدّ المعارضين في إيران مثلاً؟!. لماذا الكتابة لجريدة “المستقبل” اللبنانيَّة، أو الكتابة لجريدة “الحياة” اللندنيَّة، (قبل فترة)، كان سبباً “وجيهاً” وكافياً كي تُعتبر وتُصنَّف في خانة الخونة، أو أقلَّه من المارقين، الذين ينبغي رصدهم ومتابعتهم ودعوتهم للتحقيقات الأمنيَّة، والتعرُّض للتهديد والوعيد!!؟. وعليه، أن ما يجري في سورية والكثير من البلدان الشرق أوسطيَّة هو “حيونة الإنسان” حسب تعبير الشاعر والروائي السوري الراحل ممدوح عدوان. وأن ما يجري في بلاد “الكُفر والفسق والفجور…” في الغرب، هو أنسنة الحيوان!. هنا، يمكننا أن نفهم مقولة العلاَّمة والمتنوِّر الإسلامي الكبير الشيخ محمد عبده، التي ذكرها قبل ما ينوف عن عشر عقود من السنين: “رأيت في الغرب إسلاماً دون مسلمين، وفي الشرق مسلمين بدون إسلام”!.
يقول الراحل ممدوح عدوان: “وماذا لو زارتنا الحريَّة فجأةً، ألن تجدنا متلبِّسين بخيانتها، في اليوم ألف مرَّة”. ليس هذا وحسب، فحين يخرج أو يضطر المواطن السوري للهرب من بلاده، ويشاهد ما قطعته بلاد الآخرين من أميال وأشواط وسنين ضوئيَّة في التقدُّم والتنميَّة، حينئذ، سيعي مرارة وقسوة حقيقة نكبته والفجوة الحضاريَّة التي تفصله عن العالم، ومدى البؤس الذي كان يعيشه، عملاً بالقول التالي: “لا يعرف الأوزّ المنزلي حقيقة مأساته، إلاَّ حينما يشاهد الأوزّ البريّ محلّقاً”. ولن يعرف الأوزّ البريّ فظاعة وبؤس ما يعانيه الأوزّ المنزلي، إلاَّ حين ينظر من الأعلى إلى الأسفل، أو يعايش حياة الأكواخ والأقنان، ويعتاد على التدجين.
ما أنْ يبلغ المواطن السوري سنّ السادسة من عمره، يدخل المرحلة الابتدائيَّة من دراسته، ليصبح أوتوماتيكيَّاً عضواً في منظمة “طلائع البعث” التابعة لحزب البعث الحاكم، والقائد للدولة والمجتمع، بموجب المادة 8 من الدستور السوري. وما أن يصل المواطن السوري إلى سنّ المراهقة، ويدخل المرحلة الإعداديَّة والثانويَّة، أوتوماتيكيَّاً يصبح عضواً في “اتحاد شبيبة الثورة”. وهي منظمة تابعة لحزب البعث. وما أن يصل لسنّ الرشد والنضوج، ويدخل المرحلة الجامعيَّة، أوتوماتيكيَّاً يصبح عضواً في “اتحاد طلبة سورية”. وهي منظمة تابعة لحزب البعث. وما أن يتخرَّج من الجامعة، ينبغي أن يصبح عضواً في إحدى النقابات (محاميين، أطباء، مهندسين…)، إذا أراد ممارسة مهنته. وكل هذه النقابات والمنظمات تابعة لحزب البعث. وهكذا، يفتح المواطن السوري عينيه على ثقافة الحزب الواحد، والشعب الواحد، واللون الواحد، والقائد الواحد، والثقافة الأحاديَّة الجانب، فيصاب بعمى ألوان، وهو يمضي حياته متنقِّلاً من قناة بعثيَّة إلى أخرى، إلى أن يقضي ربُّك أمراَ كان مفعولا.
المواطن السوري، لا يعرف أنه يعيش ضمن حالة الطوارئ والأحكام العرفيَّة منذ 8/3/1963 وحتَّى اللحظة!. ولا يعرف أنَّ عنجهيَة وغطرسة المخابرات السوريَّة، آتيَّة من استمرار وديمومة هذه الحالة “الطارئة” الآبدة!. وعليه، ومنذ 46 سنة، اعتاد المواطن السوري على رؤية نفس الصور، وسماع نفس الكلام، وترديد نفس الشعارات، والهتاف بحياة نفس الزعيم أو من يرثه في الحكم!. لقد اعتاد المواطن السوري على أنَّ أبن الرئيس هو رئيس، وأنَّ أخ الرئيس وعمُّه وخاله وابن عِّمه وابن خاله، ومن يعمل عندهم، وجيران جيرانهم…الخ، كلُّهم رؤساء لسورية!!. لقد أدمن المواطن السوري هذه الحالة، ولم يعد بمقدوره الاعتياد على الجديد!. ناهيكم عن فقدانه القدرة على التغيير!. لدرجة تكوَّنت لديه حالة رهاب شديدة من الحريَّة والديموقراطيَّة!. وإنْ قُلتَ له: ألا يليق بك وببلدك حياة سياسيَّة وديموقراطيَّة حرَّة، يردُّ عليك: “انظر ماذا فعلت الديموقراطيَّة في العراق وفي لبنان”!. وهكذا جواب، معروفٌ منشأهُ ومراميه، وكيف يتمُّ طهيه في مطابخ النظام السوري الإعلاميَّة والسياسيَّة والثقافيَّة، وكيف يتمُّ نشره وتلقينه للناس؟. لكن، في الوقت عينه، وفي هكذا نُظم، من طينة النظام السوري، النظام يكذب على الشعب، فيما يتعلَّق بالصراع مع إسرائيل، وتحرير الجولان، والمقاومة والممانعة، وتأجيل الديموقراطيَّة، ريثما تُحَلَّ كافة الملفَّات والقضايا العالقة…الخ!. وكذلك الشعب أيضاً، يكذب على النظام، بالهتاف “بالرُّوح بالدّم نفديك يا زعيم”!. وحين لا يجد “الزعيم المفدَّى” من يقول له: كفى. بديهي أنَّه سيتحوَّل إلى طاغية. وعليه، الشعوب التي لم تذق طعم الحريَّة والديموقراطيَّة، ولم تجرِّبها، بديهي أنَّها تجهلها. وبديهيٌّ أيضاً بأنَّ من يجهل شيئاً، لن يدافع عنه، ويطالب به. ويحضرني هنا، مثال من ثورة سبارتاكوس، حين سأل أحد سادة العبيد عبدهُ قائلاً: (ألم تكن تعلم أنكم ستفشلون؟. أجاب العبد: بلا. فردَّ السيّد: ولماذا انتفضتم إذاً؟!. أجاب العبد: يكفيني أنني عشت 10 أيَّام حرَّاً).
وبالعودة لحالة البؤس والتدجين لدى المواطن السوري، وإدمانه الاستبداد، نجد أن سورية، أقرب إلى أن تكون أنقاض دولة وبقايا مجتمع. فلا النظام الجمهوري بات جمهوري!. والشعب متورِّط في خيانة النظام الجمهوري التعددي الدستوري!. ولا هو نظام ملكي دستوري، تحظى فيه كافة القوى السياسيَّة بحريَّة العمل ضمن فئات الشعب، وإدخاله وإشراكه بشكل حقيقي في اتخاذ القرار العامّ. ولا الجيش والمؤسسات الأمنيَّة محايدة، وخالية من التوجُّه والتوجيه الفئوي الطائفي. وبالتالي، فولاؤها الوطني منتقص، لصالح جهة أو حزب حاكم، أو طائفة حاكمة، أو أسرة معيَّنة، بحدِّ ذاتها. كلَّ ذلك، هو نتاج وتركة 46 سنة من الاستبداد والقمع والمنع والحظر. وبالنظر للحال المنكوبة والبائسة هذه، فهل من المستغرب أن يترحَّم المواطن السوري على أيَّام الاستعمار الفرنسي لسورية؟!.
مواطن قضَّى زهاء نصف قرن من عمره، ضمن هذا المناخ الموبوء الفاسد، كيف لرئته أن تعتاد على هواء الحريَّة والديموقراطيَّة المنعش!؟. هكذا مواطن، لن تنقع معه، إعطائه الحريَّة والديموقراطيَّة على جرعات ورويداً. بمعنى، لن تجدي الحلول الوسط مع هكذا مواطن، لا يعي شيئاً عن مواطنيّته، وحقوقه وواجباته، التي يمكن اختصارها في مثال “القردة الثلاثة”، يُضاف إلى إليها اعتياده على ترديد وتلقين ثقافة “بالرُّوح بالدّم نفيدك…”، بل يجب منحه الحريَّة كاملة، أيَّاً كانت الأكلاف والنتائج. هكذا مواطن، أدمن الخنوع والذُّلَ والمهانة والفقر والاستبداد، قد اختلط عليه الأمر، فيظنُّ الحزب القائد، هي الدولة، والنظام السياسي هو الوطن. وبالتالي، أي انتقاد للحزب أو الزعيم بالنسبة له، هو طعن في هيبة الدولة، وخيانة عظمى بحقِّ الوطن!. لذا، غالباً ما تكون فكرة أن كل دعاة الحريَّة والديموقراطيَّة في سورية، هم خونة، وعملاء للخارج، وأدوات للمشروع الأميركي _ الصهيوني…، هي الأكثر رواجاً وتداولاً بين أوساط الشعب السوري!.
ثقافة التدجين والترويض والانكفاء عن المسعى التحرري، مستشريّة بين النخب السوريّة ايضاً. وحتّى بين التي تزعم معارضهتا للنظام. فالإضراب الذي أعلنه كوادر وانصار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، المقرّب من حزب العمال الكردستاني، في سجن عدرا الرهيب بدمشق، منذ 30/10/2009، كشف عن بطانة النخب العربيّة المعارضة للنظام السوري. إذ، أمام هذه السابقة البطوليّة الباسلة لتلاميذ القائد مظلوم دوغان، في سجن عدرا السوري، لم نجد مثقفاً أو كاتباً عربيّاً سوريّاً خطّ بضعة أسطر كنوع من التضامن مع هؤلاء المقاومين، والذين من بينهم أكثر من 30 امرأة كرديّة. ناهيك عن أن مقاومي وأبطال عدرا، بإضرابهم، كشفو عن زيف وهشاشة الدكاكين السياسيّة الكرديّة في سورية حيال التعاطي مع هذا الحدث الثاريخي النضالي الجدّ هام، منقادين بأحقاد سياسيّة مزمنة. إذ أن هذا الحدث، يتجاوز في معناه ودلالته النضاليّة والسياسيّة والفكريّة والايديولوجيّة حتّى انتفاضة 12 آذار سنة 2004. أن مقاومات سجن عدرا، أعادت للأذهان مقاومات سجن آمد/دياربكر التاريخيّة سنة 1982، حين أضرم مظلوم دوغان النيران بجسده الهزيل في يوم عيد النوروز 21/3/1982، مطلقاً صرخته التي هزّت التاريخ: “المقاومة حياة”. وثمّ تبعه 4 من المناضلين الأكراد في إضرام النيران بأجسادهم، هم: فرهاد كورتاي، ومحمود زنكين وعاكف يلماز وأشرف آنك. ثمّ تبعهم 4 مناضلين آخرين في الإضراب عن الطعام حتّى الموت، منهم؛ كمال بير (تركي الاصل) وخيري دورموش. وعليه، صرخات هؤلاء الأبطال في سجن دياربكر، تجدد نفسها الآن في سجن عدرا السوري، ونحن صامتون. لكن، لا غرابة أن يسيطر صمت القبور على حشد الدكاكين السياسية الكرديّة في سورية. وجه الغرابة والدهشة، ألاّ نجد مظاهر التضامن مع هؤلاء المضربين عن الطعام في دياربكر وهكاري ووان وباطمان وسيرت وديرسم…الخ، وفي اسطنبول في انقرة أمام السفارة السورية!!!؟. ألم يسمع حزب المجتمع الديمقراطي بهذا الإضراب؟!. ألم يسمع السيد أحمد ترك وكتلة حزبه النيابية في البرلمان التركي بهذا الاضراب؟!. أين انتم، يا أكرادنا في تركيا والعراق وإيران والمهجر، وأبطالكم في عدرا، يواجهون طاغية الشام وجلاوزته بإضرابهم عن الطعام!؟. ألم يتناهى إلى مسامعكم اصوات أبطال عدرا؟!.
وعلى ضوء ما سلف، أن من يتخلّى عن مقاومي سجن عدرا، ويتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم، لا يستحقّ أن يتحدّث عن الحريّة، ولو بكلمة. إنَّ من يرى أنّ وطنه لا يستحقُّ الحريَّة والديموقراطيَّة، فهو في حكم الخائن لوطنه. ومن يخون وطنه، يخونه الوطن. والأوطان بشعوبها. فإذا كانت الشعوب نازعة للحريَّة، وناشطة في سبيلها، تكون الأوطان عمار ونهضة وتنمية وتقدُّم. وإذا كانت الشعوب، تستعذب البقاء تحت نير الاستبداد، وتترعرع في كنف ثقافة القطيع، حينئذ، تغدو الأوطان مراعي وحظائر وسجون وكوارث.
حاصل القول: الحريَّة في الغربة، وطن. والوطن بدون حريَّة، غربة. وأن تَخُنْ الاستبداد ليوم، أفضل من تقضي عمرك في خيانة حريَّتك، التي في نفس الوقت خيانة لوطنك. تماماً، كما يفعل مقاومو سجن عدرا. إذ يواجهون زبانية الاستبداد في دمشق، بصدور عارية، وبطون خاوية، وبإرادة جبال كردستان. ونحن الجبناء، لا نحرّك ساكناً.
كاتب وصحفي كردي
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى