صفحات ثقافيةعارف حمزة

الخوف من النافذة

null
عارف حمزة
لم تكن النافذة تشكـّل لنا فكرة كبيرة ومهمة وصائبة، أو نظرة عميقة على الأقل، نحن سكـّان القرى البعيدة، التي تحوّلت فجأة إلى مدنٍِ لسبب يتعلق بزيادة النسل والعمران وليس لنوعية ذلك العمران. فكنا نسكن، حول أشهر شارع في الحسكة، شارع المحطة أو شارع العشـّاق كما كان يحلو للمطربين والمهاجرين، في “بيوت عربية” أو أرضيّة. بمعنى أنـّها تحتوي ” فسحة سماويّة “، تـُبعد الغرف عن الباب وعن بعضها البعض، وفق سجلاّت المصالح العقارية. هذه الفسحة السماوية كانت تـُشكـّل النافذة الأكبر التي تطلّ عليها السماء ولا يتمّ حجبها بالخرق أو الخزائن أو الأصوات المكتومة. فسحة كان لا بدّ للمعماريّ القروّي البدائيّ أن يؤلـّفها ويرميها بين الغرف، ليس حبا ً بالفسحات ولا بالسماء، ولكن لأنـّه لم يكن يعرف سوى ذلك التصميم الصارم والوحيد لجميع البيوت المتشابهة هناك.
لم نكن نعرف ماذا نفعل بالنافذة الوحيدة المطلـّة على الشارع. لم نكن نعرف بماذا نستخدمها. أو لماذا شقـّوا بطن الجدار هكذا ليضعوا عينا ً كبيرة مغلقة أو فما ً كبيرا ً مغلقا ً على الدّوام. إذ لم تكن مخصّصة للنظر منها إلى الشـّارع. وإذا رفع أحدهم الحجاب عنها ونظر منها سيجدُ أحدا ً، من الداخل أو الخارج ينهره بغضب: “عيب يا ولد”. وليست كذلك مكانا ً لمراقبة المارّة أو الجارة التي تسكن على الضفة الأخرى من الشارع المهمل. ربما يمكن استخدامها، إذا كان باب البيت، الذي يكون عادة من دون جرس أو بجرس معطـّل، مقفلا ً، في أن ينقر على زجاجها الأخ أو الأخت كي ينتبه أولئك الذين في الغرفة الصغيرة ويكفّ الأولاد المتصارعون عن القتال والضجيج الذي كانوا يصنعونه ويمكن سماعه من آخر الشارع.
عندما جاء المستأجر الجديد، مع زوجته وابنه الوحيد، كي يسكن في البيت الملاصق لبيتنا فأن أول ما صنعه هو تأليف إشارة (X) كبيرة، من خشبتين غليظتين، وضعها على النافذة الوحيدة للبيت. تلك الإشارة التي بدا وكأنها شطبت كل البيت لأنها، بهذا الحرف بالذات، قد ألغت النافذة. وبسبب شكوكه النبيلة، وخوفه على زوجته عندما يذهب لمحله في سوق الجزّارين في سوق الهال، قام بعد ذلك بعشرين يوما ً بإغلاق تلك النافذة اليتيمة بالإسمنت! وكنـّا نحن، أطفال الحي الأشرار، نساعده في صنع تلك “الجَبـْلة” من الإسمنت الأسود كي ندفن زوجته حيّة في البيت.
كنا نفكـّرُ أن هناك خطأ ما في بيوتنا التي تملك النوافذ وليس في سلوكه. بأن هناك خطأ في عمل ذلك المعماري المعتوه. إذ ما معنى وجود نافذة لا ننظر من خلالها؟ ما معنى وجود ذلك الشيء الذي ليس بالإمكان استعماله أبداً؟
كان يمكن أن تولد حرب وتـُشعل حرائق إذا عدنا إلى البيت ورأينا من آخر الشارع ولداً قد تعلـّق بالقضبان الحديدية لنافذتنا الوحيدة وينظر إلى الغرفة السحرية. وكان ذلك الولد، بمجرد أن يرانا، يهرع إلى بيته ويختبئ بسبب فعلته الشنيعة. وبمجرد أن كنا نقول لوالده، وفي العادة يكون غاضبا ً ويريد أتفه سبب كي يربّى العائلة كلها من جديد، “هل ترضى أن يفعل ذلك أحدنا ويتفرّج على بناتك. على عرضك؟”. حتى ينال ذلك الولد أكثر مما كنـّا سنعطيه من الصفعات والركلات والشتائم، التي ستنال العرض قبل كل شيء، وتمزيق الثياب التي كانت قابلة للتمزّق أصلا ً بسبب الركض أو الريح… وكل ذلك بسبب نظرة “إلى” نافذة.
لا أدري لماذا كان يحلو لي أن أدرس عند نافذة الغرفة عندما كنتُ طالبَ ضابط في حرب البكالوريا. كنت ُ أظن أن ذلك شيء عاديّ طالما أنني ما زلتُ في البيت وأنا أدرس مقابل نافذتنا الوحيدة.
– بهذه الطريقة أنت لا تريد أن تنجح. قال لي والدي.
– لماذا؟. سألته ببراءة طالب يخاف أن لا ينجح.
– بهذه الطريقة أنت تريد أن تتزوج أو تدخل السجن أو المشفى!
ومن يومها صدّقته. فأنا كنتُ أريد أن أنجح بالفعل. بأن أهرب إلى مدن ٍ كان يأتي منها الأصحاب بنوافذ واسعة في صدورهم و-بالضبط- في قلوبهم. ولا أريد أن أدخل إلى السجن الذي لا بدّ أنه يخلو من كلّ نافذة مهما كانت صغيرة ولا نفع لها، ولا إلى المشفى الذي يقف عند نوافذه المرضى والمرافقون كي يدخـّنوا ما شاؤوا من التبغ الأسود ناظرين، بعيون ٍ غائمة، إلى الممرضين الذين يأخذون الأمل في سيارة إسعاف إلى مشفى آخرا! وكل ذلك بسبب نظرة من نافذة.
لذلك نحن عشنا طفولتنا من دون نوافذ. وذهب هذا الماضي الثقيل، أو ذلك العيش التافه، معنا إلى البيوت التي سكناها في المدن الأخرى. وفي تلك المدن لم نعرف ماذا نفعل أيضاً بتلك النافذة الوحيدة. فأصدقاؤنا الذين استأجروا بيوتا ً في حلب، أثناء الدّراسة الجامعية، لم يكن بإمكان أحد منهم فتح النافذة لأنه سيجد زوجا ً، أو أخاً، غيوراً يسدّد عليه بإتقان وحقد سهام غضبه ووعوده الضّارية. فكان على أحدهم أن يفتح النافذة، إذا كان يريد تهوية الغرفة مثلاً، ثم يهرع إلى الغرفة الأخرى أو الحمّام ويبقى هناك حتى يأتي الهواء الجديد وينقر على كتفه كي يذهب ويغلق تلك النافذة البغيضة.
أما نحن الذين سكنـّا في المدينة الجامعية فكانت نافذة الغرفة، الوحيدة أيضاً، لا تـُعطينا اللياقة اللازمة كي نذهب ونطلّ منها. لأننا سنطلّ على أكوام من الزبالة في أسفل البناء. إذ كان الكسل وحبّ العلم يجعل الزملاء الجيران، الذين تحولوا الآن إلى أطباء ومهندسين ومحامين ورجال علم، يرمون بضاعتهم اليومية من النـّافذة العالية المطلـّة على أمعاء من أكياس البلاستيك والنايلون.
في مدرجات الكلـّية في الجامعة لم تكن هناك نوافذ. وإذا كانت ثمّة نوافذ فإنـّها تكون مرتفعة وقريبة من السقف، ربّما كي لا نهرب منها أثناء المحاضرات، حيث لم يكن بإمكان حتى الملائكة أن تنظر منها.
والآن ماذا تعني كلّ تلك النوافذ التي رمى منها الشعراء ورودهم إلى الحبيبات؟ أو التي تنتظر فيها حبيبة كي يأتي حبيبٌ ويعوي تحت تلك النـّافذة الحبيبة أيضاً، بينما ريح أيلول تدفعه وتدفعه أكثر إلى النسيان؟ وإذا ذهبت الحبيبة، أو استطاعت أيّة ريح ٍ أن تدفعه، هل سيبقى يذهب إلى تلك النافذة ويحبّ النافذة ويعوي، من أجلها لا من أجل الغائبة، كجرو ٍ نادم؟
كيف نكتب عن نافذة أحببناها، لا بل عشقناها، في الرّوايات والأفلام والمقاهي والمدن الغريبة التي لم نجهد قليلا ً كي نعرفها، ولم تملك هي قلبا ً أو وقتا ً كافيا ً كي تعرفنا… ولم نستعملها أو نطل منها على أي شيء قد يخصُّ حياتنا القصيرة على أية حال؟ كيف نكتب عن نافذة لم نجعل سقاية الورد في الأصيص البازلتيّ الملاصق لها سببا ً كي نسرق نظرة أو نتلقى طعنة لذيذة وشافية في القلب؟
الروائيون قد يشاهدون الأمر بشكل ٍ أفضل. لأن الشعراء لطالما شاهدوا النافذة على أنها نافذة الحب، أو نافذة الأمل، أو الحياة المرتجاة نفسها.. وإذا كان الأمر كذلك فلا شك بأن النافذة مخيفة، طالما كان الحب قليلا ً ودائما ً ما يحمل في قلبه الفقد أو الهجران. والأمل ضعيفاً ومفقوداً. ولطالما كانت الحياة نفسها في هذه الحياة العطنة قاسية ومخيفة جداً… والآن، كيف نكتب عن نافذة نعاملها كعدوٍّ. كخصم ٍ جريءٍ لا نفهمه ولا حتى نـُفكـّر فيه؟ عن نافذة نخاف منها حتى لو كان ظهرنا إليها؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى