صفحات ثقافية

يوسف عبدلكي يتحدى المسامير بأقلام الفحم

null
عامر مطر
الجلوس في حارة الورد كالجلوس في اللوحة
قيود، وحدة، وفحم: أدوات استعان بها الفنان السوري يوسف عبدلكي لخلق لوحاته المنتمية الى مجموعة “طبيعة صامتة”، التي يرسمها منذ أربعة عشر عاماً، ويعرض الآن آخر ما أنجزه منها في “غاليري دار الأندى” وسط العاصمة الأردنية عمّان.
لا تزال الأسماك بدلالاتها القاسية تظهر مقطّعة، ومثقوبة في بعض أعماله؛ ويبدو أن الفنان لا يريد التخلص من السمكة على رغم حضورها المتكرر في لوحاته، لأنها غير قابلة للاستنفاذ بكل تفاصيلها؛ حدقتاها المفتوحتان حتى بعد الموت، ولمعة حراشفها تستفزه الى حد الرسم.
العصفور أيضاً، يواجه الموت وحيداً، وميتاً وسط فراغ شاسع، أو مع سكين يكبره حجماً. هذا التناقض المذهل في اللوحة، بين رقّة العصفور وقسوة السكين، يجبر المتلقي على الإحساس بعدم موته على رغم موته، وبقدرته على مواجهة الموت سواء من خلال رميه في مركز اللوحة، أو من خلال مقابلته للسكين.
فرشاة رسم مثقوبة. حتى الفرشاة لم تسلم من القمع، فاحتجزت بمسمار. القمع يخنق ويحتجز كل المخلوقات والأشياء في عوالم عبدلكي، حتى أكثرها براءة ومسالمةً.
في لوحة أخرى، تحتجز دبابيس ماسورة ألوان مستعملة، لكن الدبابيس أضعف قدرة من الاحتجاز، وهذا تحدٍّ جديد، أمام عنصر جديد الظهور في عالم طبيعته الصامتة.
شكّل السكين عنصراً مشتركاً في بعض اللوحات، في اختراقه حوض الصبارة، ووحدة قطعة البطيخ، وحبة الرمان. السكين يوحي بفعل يتعدى القسوة؛ هو أداة مرافقة للموت والعزلة اللذين يلازمان عناصر رقيقة، لا يحتاج التعامل الطبيعي معها سكيناً بهذا الحجم.
يمثل كل من العناصر السابقة لوحة سعى الفنان بها إلى أقصى الفحم، وإلى أقصى الضوء، ليصور بلداناً أكثر عتمة من فحمه، وأنظمة سياسية بقسوة سكينه.
الجديد في معرضه هذا، الملمس الخشن للخلفية، كتقنية لم تظهر في أي من معارضه السابقة، عدا ذلك، لا تزال الموضوعات البسيطة تشكّل لوحاته المحمّلة دلالات عميقة.
لكن لماذا يشتغل عبدلكي على العنصر نفسه في لوحات عدة؟ يجيب: “الفن لا يحتمل التكرار بالمعنى الحقيقي، وإذا كان الفنان يتعامل مع العمل الفني بجديّة، فإنه يستطيع أن يوصل في كل عمل رسالة بصرية وإنفعالية جديدة ومختلفة. فالشغل على موضوع واحد يجري بطريقة متجددة، تالياً سيشعر الفنان عند انجازه العمل، بأنه في حاجة الى ايصال إحساس أعمق، أو الوصول إلى نقطة أبعد”.
الفراغ في اللوحات، عنصر أساسي، وشاسع، يشكل بسيطرته على اللوحة لغزاً يختلف من لوحة الى أخرى، لكنه أخذ شكلاً جديداً في بعض لوحات هذا المعرض، إذ ظهر على هيئة ضربات فحم تحيط بالكتل.
على أحد الجدران، علّق لوحة باسم “تحية إلى جواد سليم”، الرائد العراقي الراحل (1921 -1961) ، فيها نصف بطيخة تسند لوحة سليم المشهورة “طفلان يأكلان الرقّي”، وكأن يوسف عبدلكي يرسم النصف الآخر من البطيخة، التي لم يأكلها الطفلان. على جدار آخر، صوّر الوحدة، والعزلة البشرية في إبريق، وكأس شاي.
اشتغل عبدلكي طوال الفترة الماضية على هذه العناصر لأنها مثله؛ معزولة عن محيطها، كالسمكة الملقاة في فراغ اللوحة، والصبارة، والزنبقة. هو الفنان المنفي لأكثر من ربع قرن عن بلده، والحق أن لوحات الفحم هذه، ليست إلا غربته التي تسربت إلى فنّه، إذ خرج من سوريا عام 1980، وعاد إليها للمرة الأولى بعد الغياب عام 2005، وأقام معرضاً ضخماً في خان أسعد باشا، إثرها انضم إلى مجموعة “غاليري أيام” التي تفرض شروطاً على الفنانين، لكنه عبدلكي انفصل منذ أشهر عن الغاليري المذكورة، وهذا أول معارضه خارجها، أما أسباب الانفصال فقد شرح عبدلكي بعضها: “كان يوجد فنانون بمستوى إبداعي عالٍ، وآخرين بمستوى متدنٍّ. يتم الخلط بينهما لأسباب تسويقية، على رغم الفارق الفاحش بين المستويين، وهذا يسيء الى الفنانين المخضرمين، ولا ينفع الآخرين، إذ لا شيء يرفع قيمة اللوحة أو يخفضها سوى أهليتها هي”.
الآن يفكر الفنان في مشاريع عدة حلم بتحقيقها طوال فترة نفيه، ربما يكون أولها رسم الطبيعة، وتضاريسها، وحركة الضوء في بلده. وربما يبدأ بالعمل على فكرة الموت.
الجدير بالذكر، أن غالبية لوحات المعرض بأحجام صغيرة، وقد أنجزها الرسام في باريس، في غرفة صغيرة، استأجرها بعدما استولت عائلة فرنسية على مرسمه منذ ستة أشهر! جاءت أحجام اللوحات بحجم الطاولة الصغيرة. أما القياسات المتوسطة والكبيرة فأنجزها في وقت سابق.
أما الجلوس في مرسم يوسف عبدلكي الدمشقي في حارة الورد، فيشبه  الجلوس في إحدى لوحاته بطريقة ما، إبريق الشاي، والسكرية، والفواكه، والصحون التي يستعملها كالتي يرسمها.
دمشق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى