صفحات الناس

دمشق مدينة أشباح

null
فراس حسن
فراس حسن من دمشق: نادراً ما تركب سيارة أجرة في مدينة دمشق وتذكر للسائق اسم حي من أحياء دمشق الواقعة خارج سور المدينة القديمة إلا ويباشرك بموال طويل يذكرك فيه بوعورة الطريق إلى الحي الذي تقصده، ولا فرق أي كان هذا الحي أو ذاك فستسمع الموال نفسه في كل مرة تركب التاكسي، ستسمعه بتنويعات تختلف حسب السائق وحسب الحي المقصود.
الأسبوع الماضي كان “أسبوع خير” على مدينة دمشق والتي تعاني منذ سنوات شحاً في الأمطار يهدد بأن تهجر المدينة بعد عقدين أو ثلاثة عقود إذا لم يتم اتخاذ خطوات جدية لإنقاذ المدينة من العطش.
بالتأكيد المطر فرَج عن المدينة بعض الشيء بمفاجأة مفرحة لهؤلاء، لكن الفرحة لم تكتمل كما هي أفراحنا دائماَ، إذ ذكّر المطر المنهمر دون حسبان سكان المدينة ببعضٍ من مشاكلهم الأخرى غير الجفاف، مشاكلهم المرتبطة بتفاصيل حياتهم اليومية وهم في طريقهم إلى العمل أو المدرسة أو موعد غرامي، أو موعد مع الأصحاب حول نفس نرجيلة في مقهى ما، فالمدينة التي غرقت بمياه الأمطار، تحولت شوارعها إلى برك من الماء والآسن والأوحال التي ستبدد بكل سماجة، وبلا شك، كل محاولات التأنق والوقت المكرس لأجله، إن كان لدقائق أو لساعة أو ساعتين لا فرق….
ولأن سائقي سيارات الأجرة في دمشق هم الأعلم بحالها كما هم سائقي السيارات في أي مدينة في العالم، ولأن هؤلاء هم أكثر سكان دمشق تذمراً من حالة طرقاتها، استطلعنا آرائهم في محاولة لجس نبض الشارع الدمشقي، وتقصي تحليلاتهم لأسباب سوء حال طرقات المدينة…..
شوارع دمشق لا تليق بها
أبو أحمد سائق تكسي منذ عشرين عاماً ويعمل على سيارته الخاصة و”الحمد لله”، يعتبر أبو أحمد دمشق مدينة أشباح بسبب شوارعها التي تملأها الحفر والمطبات، ويعتقد أن الشوارع فيها لا تليق بعاصمة مثلها، بل هي أقرب إلى شوارع مدينة مهجورة لعقود طويلة “كأنو ما حدا ساكنها ولا حدا بيستخدم الشوارع فيها إلا بالصدفة”، فمن غير المعقول لأبي أحمد أنك لا تستطيع أن تجد سوى شارعين أو ثلاثة في حي أبو رمانة بالإضافة إلى أوتوستراد المزة، إلا والحفر والمطبات تملأها وتجعل السير عليها راكباً أو راجلاً نوعاً من العقوبة التي تفرضها البلديات على المواطن دون أن تقدم الأسباب، ويضيف “تصور أن في دمشق شوارع لم تكلل بالزفت إلا مرة واحدة في ثمانينات القرن الماضي عندما صدر مرسوم رئاسي بتزفيت جميع شوارع دمشق وحاراتها”، ينهي حديثه قائلاً: “والله مش مقعول الشوارع تتزفت مرة وحدة بالعمر”.
شوارع دمشق فريدة من نوعها
أبو عمار يتحدى بانفعال أن يكون في العالم شوارع مثل شوارع دمشق، “شوارع دمشق ما في متلها بالعالم كلو” عندما قلت له “طول بالك” ملمحاً إلى أنه يبالغ في وصفه لشوارع دمشق وأن هناك ما هو أسوء، مشيراً إلى دول في أفريقيا وضعها يزيد سوءاً عن وضعنا هنا في سوريا حيث يوجد مدن شوارعها لا تعرف الزفت، أنفعل أكثر حتى بدا حديثه أشبه بالصراخ مشدداً على أنه سافر وتنقل كثيراً في عدة دول عربية ولم يرى من سوء الشوارع كما في دمشق، مؤكداً “ما في بالعالم شوارع متل عنا” وعاد ليؤكد مرة أخرى: ” يا عمي سافرت إلى الجزائر والمغرب، وشفت الشوارع بالخليج، يعني أنا ما عم أرمي الحكي هيك”.
أصحاب القرار السوريون آذانهم لـ “برا”
السائق عبد الله يضحك عند توجيه السؤال إليه ساخراً من السؤال نفسه ويعلق:”يا عمي انتو الصحفيين إلكم فنَات عجيبة”، عندما استفسرت عن المقصود، قال:”مالك ومال الزفت يا رجل هناك ما هو أولى”، فبرأي عبد الله أن الحديث عن إشارات المرور التي في غير محلها أو تعمل بشكل خاطئ الأمر الذي يعرقل المرور أكثر أهمية، وكذلك ما هو أهم، الحديث عن الشوارع التي تفتقد لإشارات مرور رغم وجود مدارس في المنطقة ووجود عدد كبير من الأطفال الذين يقطعون الشارع بين السيارات التي تنهب الأوتوسترادات السريعة دون أي اعتبار لسلامة هؤلاء الأطفال، بعد إصراري على السؤال نظر إلي نظرة جدية فاحصة، وسأل:”رح تنشر المقال برا”، سألته مستغرباً “برا!!؟” أجاب: ” ميشان يسمعوا” وأشار بيده إلى الأعلى كيف أفهم أنه يقصد المسؤولين في البلديات والحكومة، عندما استفسرت منه عن كيفية سماع المسؤولين لما يقال وما يكتب إن كانوا لا يقرؤون حتى الجرائد السورية، أجاب:” صحيح, بس إذا صار الحكي برا بيعطوا دانهم”، أخبرته أنني سأنشر المقال على الإنترنت وبالتالي سيستطيع أن يقرأه من في الخارج أكثر ممن هم في الداخل، قال لي :” بالناقص خلي اللي برا يقرؤوا أحسن، بكل الأحوال مقالتك ما بتغير شي”
يسرقون حتى الزفت
عماد وهو شاب في الثلاثينيات من العمر يعمل سائق تكسي منذ سنتين، وهو يعمل موظفاً على التكسي التي يملكها صف ضابط بالشرطة، يرى أن المشكلة في رداءة طرق مدينة دمشق وغيرها من المدن السورية بما فيها الطرق الدولية والطرق بين المحافظات، أن المتعهدين بالاتفاق مع رؤساء البلديات لجان والاستلام “بيسرقوا الدولة” عندما يدفعون رشا لهؤلاء لاستلام طرق غير مطابقة للمواصفات الواردة في عقود التلزيم، فبدلاً من طبقة حصى بارتفاع 30 أو 40 سم يضعون عشرة وأحياناً لا يضعونها نهائياً إضافة إلى استخدام زفت غير مطابق لمواصفات، ويذكر أنه في العام الماضي تم تعيين سيدة رئيسة لبلدية حي جرمانا (يبعد حوالي عشرة كيلو متر عن مركز المدينة وهو واحد من أكثر أحياء دمشق ازدحاماً ونمواً في نفس الوقت)، هذه السيدة لم تقبل الرشا وحاولت إيقاف التعديات على أملاك الدولة ومخالفات البناء وغيرها من الممارسات الغير شرعية، باشرت “الله يوفقها” بتعبيد كافة شوارع الحي، إلا إنها بعد فترة قصيرة استقالت، عندما سألته عن السبب قال:” يا أخي أولاد الحرام ما خلو لأولاد الحلال شي”، عندما رأى إشارة الاستفهام على وجهي، استطرد قائلاً “بسبب الوظيفة خربت علاقتها مع زوجها” طبعاً إشارات الاستفهام على وجهي أصبحت أكثر من ذي قبل، ففهم عماد أنني لم أفهم المقصود رغم أني أسكن في نفس الحي، فشرح لي أن عائلة الزوج ـ زوج رئيس البلدية ـ تعمل في تعهدات البناء وخلافه وبسبب استقامة الزوجة وعدم قبولها للرشا أو التغاضي عن مطالب أقرباء زوجها بمخالفة المخططات التنظيمية للحي، تورط الزوج في خلافات مع عائلته التي كانت تستفيد من الوضع السابق، وانتقل الخلاف بين الزوج وأقربائه إلى خلافات زوجية حادة، ما دفع بالسيدة رئيسة البلدية إلى تقديم استقالتها للحفاظ على وحدة عائلتها وصفاء علاقاتها الأسرية، ينهي عماد أخيراً حديثه في محاولة للتعبير عن عبث محاولة إصلاح الأمور قائلاً “يا أخي عوجا، إذا الزفت بيسرقوه فشو بتستنا؟.
أخيراً وعلى الهامش، أتذكر الحرج الذي أوقعني به أحد السياح اللذين التقيتهم في شوارع دمشق القديمة ذات يوم، عندما سألني بعربية مكسورة قائلاً:” أبداً، ما بفهم، ليش في بمدينة (وقصد دمشق طبعاً) هو أقدم حاضرة فيها سكان بالعالم كل هاد خراب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى