صفحات ثقافية

أين يقف المثقف اللبناني من الانقسام المذهبي وما الدور الذي يمكن أن يلعبه؟

null
غ1-2ف تدهور دور المثقف اللبناني بدأ اولا مع الاجتياح الاسرائيلي عام 82
ناظم السيد
بيروت ـ القدس العربي تبدو الطائفية أزمة لبنان الأصلية. إنها الأزمة التي تظهر في كل أزمة. بهذا المعني فإن الطائفية في لبنان قاعدة خلافية ومنصة ترفع الأزمات إلي الواجهة. الطائفية في لبنان ليست وجهاً فحسب وإنما هي خلفية أيضاً. في الصراع العربي الإسرائيلي تطل الطائفية في لبنان. في الصراع العربي العربي الشائع اليوم. في الصراع العربي الإيراني الذي يتم تظهيره أو تضخيمه. في الصراع اللبناني اللبناني. تظهر الطائفية في لبنان عند كل تحوّل: في الهوي الناصري أيام الخمسينات أو في الميل نحو حلف بغداد في عهد الرئيس كميل شمعون، في الموقف من السلاح الفلسطيني أو الفدائيين مطلع السبعينات، في العلاقة مع الاتحاد السوفييتي أو الغرب، في الانتماء لما يُسمّي الحلف الإيراني السوري أو ما يُسمّي محور الاعتدال اليوم. لكن الطائفية في لبنان تظهر لأقل من هذه المفارق، في تأليف الحكومات، في تعيين المدراء العامين أو الوظائف الأولي، في دورات القوي الأمنية وفي المراكز الثانوية في الوزارات جميعاً.
الحقيقة أن الطائفية في لبنان ليست عارضاً بل هي أصل. لقد قام هذا البلد علي تقاسم طائفي منذ الدولة العثمانية وعلاقتها بالسفارات الأجنبية، منذ تدخل الغرب لحماية الأقليات، منذ نظام القائممقاميتين ثم نظام المتصرفية، إلي صيغة عام 1943 فاتفاق الطائف وأخيراً اتفاق الدوحة الذي أعاد توزيع المقاعد النيابية بين الطوائف بشكل حاد وشبه مغلق.
الطائفية في لبنان بنية. بنية دولة وبنية مجتمع. أمام هاتين البنيتين هل يملك المثقف إرادة؟ هل له قوة التغيير؟ ثم هل يمكن للثقافة نفسها أن تلعب مثل هذا الدور ولو عبر فعل تراكمي بعيد الأمد؟ سؤال متفرّع طرحناه علي عدد من المشتغلين في الحقل الثقافي المتعدد من غير أن نغفل أن مثقفين لبنانيين كثيرين إما عادوا إلي طوائفهم وإما خرجوا من طوائفهم لينضموا إلي طائفة أخري عفواً أو قسراً أو تكسّباً. طبعاً، هناك من يقول إن المثقف اللبناني مطرود من طائفته غالباً، وليس له صوت في هذه الطائفة أو تلك. ألهذا عليه أن يسترد صوته الطائفي ليكون مسموعاً في طائفته، أو يزعم علمانية بالخروج من طائفته مانحاً صوته الليبرالي إلي طائفة أخري؟ مع ذلك، ثمة مثقفون حياديون. وهؤلاء قسمان: الحيادي السلبي المنزوي تحت فكرة أن الثقافة شأن خاص لا علاقة له بالعموم، والحيادي المتورّط في الشأن العام لتصورّه الملتزم عن دور المثقف وفعل الثقافة. عن المثقف ودوره في الأزمات اللبنانية كانت هذه المداخلات.
أن يكون نقدياً لا يعني أن يكون محايداً، والنجاح ليس بالضرورة شرط المحاولة
زياد ماجد
(باحث وكاتب سياسي)
يمكن القول إن أزمات لبنان الحديثة، من الـ 58 والـ 69، ثم حربه الأهلية من 1975 إلي 1991، وصولاً إلي أزمته الكبري المستمرة منذ اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وما أعقبها من انتفاضة استقلال أنهت الوصاية السورية عليه (اللاحقة لاتفاق الطائف )، انطلقت علي الدوام من خلاف حول موقع البلد في الصراع الإقليمي وأحلافه وتعاطي هذه الأحلاف معه، ثم تموضعت في ساحة التنافر الطائفي الداخلي والتنافس علي الأحجام داخل السلطة، ففاقمت كل مرة عجز الديمقراطية التوافقية عن إيجاد حل للخلافات داخل المؤسسات الدستورية، دافعة بها إلي الشارع المعبّأ، ومكتفية بجعل النخب السياسية المتنازعة في موقع الوسيط بين الشارع وبين القوي الإقليمية وشروطها، صداماً أو وفاقاً.
تجاه هذا الوهن اللبناني الداخلي المزمن، وتجاه هذا الانكشاف الوطني للخارج، لم يكن المثقفون اللبنانيون بأكثريتهم محايدين. فقد كانوا في معظم المراحل وفي أكثر الأزمات حاضرين كتابة وبيانات وندوات وبحثاً وأحياناً انتماء إلي تيارات سياسية دفاعاً عن هذا الخيار أو ذلك، عن هذه الفكرة أو تلك، مصطفين علي ضفتي الصراع مباشرة أو علي نحو غير مباشر. وليس الأمر بالمستغرب، طالما أن إحدي مهام المثقف ـ بما هو كائن عضوي في مجتمعه يحوّل معارفه إلي أدوات تفكيك وتشريح للواقع ينتج من خلالها الأفكار ويقرأ الأحداث ويتعاطي معها ـ هي الالتزام بقضايا والدفاع عن قيم.
ولا شك أن الوضع الراهن باستقطاباته يحرّض المثقف علي القول والعمل دفاعاً عن فكرة أو موقف. لكنه أيضاً، وبعد وصول الاصطفاف الشعبي ـ السياسي والطائفي ـ إلي مرحلة غير مسبوقة من التوسع والحدة، يحرّضه ولو من موقع سياسي علي لعب دور نقدي من جهة، وعلي محاولة تقديم خطاب ضنين بالسلم الأهلي وبفكرة تحصين المؤسسات السياسية لتحتضن الخلاف والحوار من جهة ثانية.
ذلك أن انفلات الغرائز في الشارع والنزوع إلي العنف مقتل للمثقف وخنق للثقافة والفكر والإبداع.
علي أن ملاحظات عديدة ينبغي تسجيلها انطلاقاً من السؤال وعطفاً علي هذه المقدمة:
ـ الأولي، أن الخيارين المطروحين للبنان اليوم هما خياران سياسيان بامتياز، بين من يريد الحدود الوطنية مشرّعة علي الصراعات، ومن يحاول إبعاد لبنان عن أهوال المنطقة، ولو انتمي أصحاب الخيارين إلي قوي ذات طبيعة وعقلية طائفيتين.
ـ الثانية، أن الحلول المطروحة لإيجاد تسوية بين الخيارين تقوم علي إعادة توزيع الأحجام طائفياً داخل السلطة، كي لا يتمكن أي خيار من فرض مسلكه علي الخيار الآخر.
ـ الثالثة، أن القوي الطائفية الكبري في لبنان اليوم هي صاحبة مشروعية شعبية وليست فقط أدوات أو مداخل للعبور إلي المحاور الإقليمية.
ـ الرابعة، أن الخطاب السياسي والطائفي السائد بلغ مرحلة خطيرة من الشحن والتخوين يتشارك فيه الجميع، لكنه يأخذ مع حزب الله بعداً خطيراً نتيجة ما فيه من عنف وصور حربية وبعد ديني، قائمة جميعها علي ترسانة مسلحة.
ـ الخامسة، أن القوي السياسية ـ الطائفية (وغير الطائفية) لا تملك مشروعاً ثقافياً ولا تطرح الثقافة كبعد من أبعاد الصراع إلا في بعض البيانات الفضفاضة وبطريقة فولكلورية بعيدة عن المفترض طرحه.
من هنا، تزداد أدوار المثقف وواجباته صعوبة ودقّة. فهو مطالب باستقلالية وبحس نقدي وبتحليل موضوعي وبموقف، وهو مطالب أيضاً بجهد فردي وجماعي لإنتاج أفكار وتقديم بدائل عن السائد. كما أنه ملزم بالتعاطي مع الواقع الطائفي بوصفه واقعاً غير مصطنع أو مؤقت، بل هو ذو قابلية علي الديمومة، وذو قابلية مضادة علي التفكك، وملزم في الوقت عينه برفض الانصياع للسلوكيات السياسية والاجتماعية الطائفية وللعصبيات والعلاقات الأولية .
هل ينجح المثقف في التوفيق بين هذه المهام؟ وهل ينجح في خلق حالة اختراق للاصطفافات الطائفية؟ لا يبدو الأمر كذلك اليوم، ولو أن الكثير من المثقفين هم فعلاً، كأفراد، في مواقع تخترق تلك الاصطفافات. لكن النجاح ليس شرط المحاولة. فالتأسيس لتحصيله يوماً ما، هو السعي الدائم لبقائه (أي بقاء المثقف) ـ من موقع سياسي محسوم أو بغيره ـ حراً، نقدياً، مسمياً الأمور بمسمّياتها ومقدّماً لأفكار تؤسس لاختلاف ولتغيير ولرحابة أفق. والأهم، أن لا يتذرع بشتم الطائفية لينسحب من واجباته ومن وظيفته التغييرية.
موقف المثقف اللبناني ودوره
أحمد بزون
(ناقد أدبي وتشكيلي)
لا يميز المثقف اللبناني نفسه، اليوم، عن سواه من أطراف الصراع اللبنانية، إلا نادراً، فالمد الطائفي جرف معه العديد من المثقفين، بعضهم انغمس في الأطر الحزبية الطائفية وجرفته الحساسيات الطائفية، والبعض الآخر وقع في مكيدة اعتبار الصراع سياسياً لا طائفياً، وقلة قليلة بقيت علي الحياد.
نعم، الصراع في لبنان له وجهه السياسي، لكن القيمين علي السياسة يستخدمون الطائفية من ألفها إلي يائها. إنها مرحلة من الصراع الوسخ في لبنان، الصراع الذي لا يجوز لمثقف وطني أن يكون طرفاً فيه، أو طرفاً في سجالاته المحتدمة.
المرحلة التي نعيشها في لبنان، التي هددت وتهدد بنشوب حرب أهلية قذرة، لا مصلحة للمثقفين التغييريين التقدميين الحضاريين أن يكونوا طرفاً محارباً فيها، ولا أن يكونوا من حطامها، ولا في أصل سجالاتها، إنما يمكنهم أن يبنوا عماراتهم الفكرية والسجالية ضدها، ويعملون ما استطاعوا مواجهتها. تختلف سجالات المثقفين اللبنانيين اليوم عنها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الصراعات المحتدمة ذات طابع سياسي وفكري مرتبط بالصراع الإقليمي والدولي. وعندما كان السجال يتخذ طابعاً سياسياً وفكرياً وأيديولوجياً محموماً، بين معسكرين في العالم، يتصل بطبيعة الأنظمة، لا بمصالحها المباشرة. حينها كان النشاط الثقافي يتسع علي هامش الصراعات السياسية المحتدمة، علي المستوي المحلي (بين اليمين واليسار)، وعلي المستوي الإقليمي (الصراع العربي الإسرائيلي وما يستتبعه)، وعلي المستوي الدولي (بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي)… لكن طول أمد الحرب الأهلية اللبنانية وتعقد الصراع وبروز الاتجاهات التقسيمية، كلها أحدثت تحولاً في بعض مناحي الصراع الثقافي، إذ رأيناه يتجه، محلياً، نحو الغرق في ثقافات أكثر ضيقاً، ثم أكثر اتجاهاً نحو ثقافات طائفية ومذهبية، ما أغرق عدداً كبيراً من المثقفين في البحث عما يمكن أن يساهم في تلميع صورة الطائفة التي ينتمون إليها، بعيداً عن الحقائق الدينية والموضوعية، ما أدي إلي تدهور في موقع بيروت ودورها الثقافي.
هذا التدهور في دور المثقف اللبناني بدأ، أولاً، مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، العام 1982، وأجواء الهزيمة التي أشاعها، لتضاف إلي هزائم سبقت، فيشكل تراكمها جواً من الإحباط النفسي الذي وصل صداه إلي نفوس المثقفين العرب، ما أقعد العديد من النشاطات الثقافية، وزاد من هجرة المثقفين اللبنانيين إلي عواصم ثقافية أخري في العالم، كباريس ولندن وقبرص، وسواها من العواصم البديلة، ثم بعد ذلك إلي الخليج العربي. وقد استمر التدهور مع انهيار الوضع الاقتصادي اللبناني وتراجع القدرة الشرائية لدي المثقف، الذي كان يصرف مبالغ لا بأس بها علي أموره واهتماماته الثقافية من قبل، ما جعل عقد النشاط الثقافي وعقد المثقفين ينفرط حلقة بعد حلقة.
وعندما عادت مليشيات الحرب الأهلية الطائفية للتمركز في السلطة والتوسع علي حساب اليسار المهزوم، كان ذلك علي حساب عودة المثقفين اللبنانيين لسابق دورهم، إذ بقي السجال الثقافي التقدمي غائباً أو نائماً، ولم تقم له قائمة.
الآن ورغم مرور ما يقارب عقدين من الزمن علي انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لم تستعد العاصمة بيروت عافيتها الثقافية، ولم يعد السجال الثقافي الذي كان يضج في بيروت ذات يوم إلي سابق عهده. ذلك أن الساحة احتُلت بصراع من نوع آخر، قوامه بحث كل طائفة عن قوة تمثيلها وحضورها في سلطة ما بعد الحرب.
بعض المثقفين انتمي إلي هذه الأحزاب الجديدة الطائفية الجوهر، السياسية التسمية والمظهر، أو انتمي إلي مؤسساتها الإعلامية تحت ضغط الظروف المعيشية الصعبة، أو ضغط الإغراءات المالية أو السلطوية. ومن أجل أن تكتمل اللعبة أحياناً كان علي الطرف الطائفي أن يبرر لا طائفيته باستخدام مثقفين من طوائف أخري، وكان علي المثقف إقناع نفسه بلاطائفيته فيحتل مكاناً مفسوحاً له في مؤسسة طائفة غير طائفته.
كانت الأمور أقل حدة قبل سنة ونصف، وكانت إمكانية التهرب من أي تهمة، ممكنة، لكن هذا الأمر لم يستمر، فكانت الشرارات الأولي التي من شأنها أن تشعل حرباً طائفية في لبنان، كفيلة بتوضيح الصورة وفضح المصالح الطائفية لكل طرف. في هذا المفصل التاريخي، كان علي المثقف اللبناني إما أن يلتحق بطائفته، وإما أن يكابر ويبقي في المكان الذي سبق والتحق به، ويحافظ، في الوقت نفسه، علي وظيفته في مؤسسة طائفة أخري، يضرب بسيفها، أو يتلطي تحت خيمتها إلي أن تنجلي غمامة الحرب أو يقضي الله أمراً. وهو هنا، ما عليه إلا أن يخون طائفته مع طائفة أخري.
قلة هم المثقفون الذين اعتبروا أنفسهم خارج الصراع المحتدم. يمكن للمثقف أن يبدي رأياً في موقف هذا الطرف أو ذاك، لكن أن يكون بالمطلق مع 8 أو 14 آذار/مارس، فهذا، لا شك، وقوع في فخ الصراع الطائفي الذي يقضي علي مستقبل لبنان، وهذا، بالتالي، نسف لأي دور يمكن للمثقف اللبناني أن يلعبه من أجل تصويب الصراع وسحب لبنان نحو خلاصه. لبنان اليوم في أسوأ حالاته الطائفية، يعيش أسوأ أنظمته علي الإطلاق، ودور المثقف لا يستقيم إلا بقيام أحزاب علمانية علي أسس جديدة.
شرط الخروج من التبعية إلي الدور
نديم جرجورة
(ناقد سينمائي)
لا أرغب في تنظير لا طائل منه. فاللحظة الآنيّة محتاجة إلي تكثيف نقدي في قراءة المشهد، في حين أن الواقع اللبناني بات اليوم أكثر تطلّباً لـ تورّط ثقافي سجالي موضوعي وسوي، ينهل من التحوّل الخطر الذي ألمّ بالبلد وناسه منذ جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط/فبراير 2005 (علي الأقلّ، كي لا أعود بالزمن إلي محطّات صداميّة خطرة ومتفرّقة وعنيفة) ما يُعين علي مقاربة المرحلة المقبلة الناشئة من انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية.
غالب الظنّ أن اللحظة الآنيّة محتاجة إلي تحرير النص الثقافي النقديّ من ارتهانه المطلق للخطاب السياسي اللبناني الذي انزلق إلي أسفل الدرك بسبب احتدام النزاع المذهبيّ اللبناني، خصوصاً مع اندلاع الحرب الإسرائيلية علي لبنان واللبنانيين في صيف العام 2006، ذلك أن المأزق الأخطر الذي سقط فيه الاشتغال الثقافي النقدي كامنٌ في التبعية البائسة لمثقفين لبنانيين ارتضوا، بحجج متفاوتة (وبعضها غير مقنع أو غير منطقي)، الخضوع لسطوة زعيم القبيلة المذهبية أو العائلة الطائفية أو الجماعة المستمدة قوتها المحلية من وصاية إقليمية أو دولية، ومن سطوة مالية أو إيديولوجية دينية أو أمنية عسكرية. لكن هذا لا يكفي. إذ ان الاتفاق الحاصل في الدوحة أدّي إلي نوع من تخفيف باهت لحدّة السجال العنفيّ في الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي، من دون أن يدفع المثقف اللبناني إلي طرح سؤال أخلاقي علي نفسه أولاً: أين هو الخطّ الفاصل بين السياسي والثقافي؟ وبالتالي: ما هو الدور المنوط به في الفترة المقبلة؟ وهل سيبقي رهينة بأيدي سياسيين ذوي مصالح ضيّقة وخاصّة بهم، أم انه ساع إلي الانقلاب عليهم وإطلاق ورشة عمل وطنية حقيقية من أجل صوغ عقد أخلاقي وإنساني جامع للّبنانيين بتعدّدياتهم وتنوّعاتهم؟
إن الإجابة علي الأسئلة السابقة كفيلة بتوضيح الحيّز، الجغرافي والمذهبيّ والفكريّ والثقافي، الخاصّ بهذا المثقف أو ذاك كفيلةٌ بتسليط الضوء علي حدود النزاع السياسي وتأثيراته القاتلة علي الثقافة والمثقفين المنخرطين بقوّة وحماسة في تقريع الآخر وتخوينه واتّهامه بأبشع النعوت، جاعلين الكتابة أشبه ببيان أحزاب شمولية وأجهزة أمنية، كفيلةٌ بإنقاذ الفعل الثقافي من السياسة، واستعادة الدور النقدي والسجالي، من أي موقع أو فكر أو انتماء، القادر وحده علي المشاركة الفعّالة في بناء دولة وتحصين مجتمع وتحريرهما من بشاعة التواطؤ مع العائلات السياسية والطائفية علي حساب الوطن والديمقراطية والكلمة والإبداع. المثقف اللبناني المتحرّر من النزاع المذهبيّ الحاقد واللغة العنفية القاتلة مطالبٌ بمناقشة موضوعية جادّة تطال شتّي العناوين والقضايا، بعيداً عن أي عقَد أو أحكام مسبقة أو استقالة من مواجهة المحرّمات كافة، مطالبٌ بطرح الأسئلة كافة، المتعلّقة بالحياة اليومية، بهدف إحقاق العدالة الإنسانية وتفعيل النقاش الديمقراطي السوي، مطالبٌ بمقارعة أشكال الظلم والفساد كلّها، والتمرّد علي الخطاب المناهض لمشروع الدولة والتطوّر والحداثة. وإذا أراد مثقفون لبنانيون الاندماج أكثر في لعبة المصالح السياسية والطائفية الضيّقة، (هذا حقّ طبيعي لهم) فإنهم مطالبون بلغة نقدية أسلم وأهدأ، بدلاً من البقاء في دائرة البشاعة الخطابية وتحويل الكلمة إلي أداة قتل وإرهاب.
الاختبار المقبل صعبٌ. التحدّي أصعب. لكن الأخطر منهما كامنٌ في موقف المثقف اللبناني إزاء الحدث اللبناني بتشعّباته الداخلية في المجالات كلّها وبامتداداته الإقليمية والعربية والدولية، وكامنٌ أيضاً في الدور الذي سيلعبه، سواء انتمي إلي عائلة مالية اقتصادية، أو انخرط في صفوف الجهاد الإلهي، أو وجد في الجماعة الأمنية العسكرية ملاذاً له، أو انتصر لحريته المطلقة ساعياً بها ومعها إلي العمل الدؤوب من أجل حرية المجتمع والفرد.

الأصل السياسي للطائفية
إلهام منصور (روائية)
منذ 1943 ونحن نعيش في ظل نظام طائفي أو في ظل طائفية سياسية حيث يتقاسم زعماء الطوائف كل مراكز السلطة والقرار مع ما يتبع ذلك من اقتسام مغانم وهدر لأموال الدولة والشعب. هذا النظام استمر طويلاً قبل أن يجنح نحو عدم التوازن إذ استأثرت طائفة محددة علي كل مقومات الدولة وهذا ما سمي في حينه بالمارونية السياسية التي حاولت تهميش الطوائف الأخري لصالحها وصالح مكتسباتها وأدي بالبلاد إلي مشاكل عديدة كان أهمها أحداث 1975 التي قسمت الحجر والبشر وأنهكت العباد بحرب أهلية ذهب ضحيتها الآلاف من الضحايا والشهداء قبل أن يعود اللبنانيون إلي رشدهم ويتفقوا في الطائف علي أسس جديدة أنهت حالة الحرب ووضعت صيغة جديدة لإنقاذ البلد والشعب من طاحونة الحرب.
أتي اتفاق الطائف بمقولة المشاركة الحقيقية إذ أضعف صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً لكي يقرر ما يجب أن يكون. لم يدع هذا الاتفاق أنه الحل بل قال إنه محطة علي طريق الحل وبالتحديد حل مسألة الطائفية السياسية ، أساس كل العلل في لبنان . وفلسفة اتفاق الطائف هي أن تؤمَّن المشاركة الفعلية لإيجاد الثقة بين الطوائف وقد نص علي ضرورة تأليف هيئة خاصة للعمل علي إلغاء الطائفية السياسية بعد أن تكون تأمّنت المشاركة الفعلية التي هي الخطوة الأولي في سبيل إيجاد المواطنة الصحيحة في بلد مركب طائفياً كلبنان لأن إلغاء الطائفية السياسية لا يمكن له أن ينجح إلا في ظل المواطنة الصحيحة.
لكن للأسف حصل انقلاب علي الطائف وهذا الانقلاب الذي كتب عنه ووثق له كتاب ألبير منصور سنة 1992 حول الموضوع دفع بالبلد إلي الجنوح مجدداً وحصلت هيمنة علي القرار وهذه المرة كانت هيمنة سنية تعاملت مع الواقع كما تعاملت قبلها المارونية السياسية واستمر الوضع حتي استشهاد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان حيث وقع البلد في التخبط من جديد، تخبط بين فريقين، أحدهما يريد الاستئثار بالسلطة والآخر يطالب بالمشاركة التي تعيد البلد إلي الأسس التي نص عليها اتفاق الطائف ولم تطبق. هكذا شل البلد لمدة ثلاث سنوات قبل أن يجتمع الفريقان في الدوحة ويتفقا علي صيغة جديدة تؤمن المشاركة من جديد مع إقرار قانون للانتخابات ليس هو القانون الذي يتطلع إليه اللبنانيون الذين يطمحون إلي بناء دولة قادرة وتمثل كل شعبها. ونأمل أن يكون اتفاق الدوحة تلك المحطة التي أرادها اتفاق الطائف والتي يأتي من بعدها تثبيت المواطنة الحقيقية التي من دونها لا إلغاء للطائفية السياسية وبالتالي لا دولة بل مزرعة أو مزارع تقودها شريعة الغاب التي تجرنا كل بضع سنوات إلي التقاتل والحروب.

دور المثقف
غسان جواد
(شاعر وصحافي)
من الصعوبة في مكان إلقاء مهمة اختراق حدود الطوائف علي عاتق المثقف، ومحاولة تحميله مسؤولية عبور الكتل الاجتماعية الكبري واختراقها نحو مواطنية متوازنة، حيث تمنع البنية الطائفية القائمة أي محاولات للتغيير من ضمن النظام والصيغة.
الكتل الاجتماعية الوازنة والفاعلة والناظمة لعلاقات المواطنين بالدولة هي الطوائف. هذه الكتل الكبري تتحرك ضمن النظام السياسي محمية بمكتسبات وحقوق يكفلها القانون والدستور والميثاق، مدفوعة بشعور أقلوي جماعي مبني علي عصبية طائفية وخوف من الآخر (يرتفع وينخفض علي إيقاع نظام الخطاب الجماعي ومصالحه). وبناء علي هذا الواقع، تبدو حركة الكتل الاجتماعية الطائفية ثقيلة ورافضة لأي نقد أو تشكيك، تنتج دورتها الحياتية والثقافية الخاصة، تنظم علاقتها بالدولة بحسب ظروف الصيغة ومعطياتها وتظهّر من خلال تموضعها الطائفي عقداً اجتماعياً موازياً لهذه المفاهيم تكون الدولة صورة مطابقة له. ترسم حدود علاقاتها بعضها ببعض بالخوف والرغبة في الغلبة، الامر الذي يجعل مصلحة الطائفة والفرد فيها وعلاقتهما بالدولة مسألة متصلة بجملة من المسارب المؤدية حكماً نحو تأمين مصلحة الجماعة علي حساب الفرد، وذلك في سبيل حماية المكتسبات وتحصيل المزيد منها. وبالتالي يصبح الفرد الذي يطمح للتغيير والذهاب نحو المواطنة خارج هذه الكتل حكماً، لأنه يتناقض مع مصالحها ويفرط فيها، فترذله وتخرجه من دائرة ملاكها الطائفي المعنوي.
شهد لبنان نموذجين مجّربين للمثقف وعلاقته بالنظام والصيغة: نموذج قبل بالجماعة ـ الطائفة وعمل ضمن مفاهيمها، تعايش معها وجهد في إنتاج قراءات ونظريات تحميها وتثبت حقوقها وتؤكد شرعيتها. المثقف المسيحي منذ مطلع القرن العشرين هو نموذج لهذه الفئة من المثقفين المتصالحين مع الصيغة كما هي ومن غير تغيير جذري، أمثال ميشال شيحا ويوسف السودا وشارل قرم وشارل مالك وسعيد عقل وغيرهم من الأسماء التي عملت من خلال الأطر المكونة للصيغة وتعاملت معها كشرعية تاريخية وواقع نهائي وأفضل وأكثر قابلية للعيش وحماية الصيغة.
النموذج الثاني هو النموذج اليساري ذو النزعة العلمانية بغالبيته الإسلامية، وقد رفض هذا النموذج هذه الصيغة وحاربها وحمّلها مسؤولية الأزمات المتتالية في تجربة الكيان، غير أنه عجز عن تحقيق خروقات تذكر في إصلاح النظام والصيغة، ولا نبالغ إذا قلنا بأن الصيغة التقليدية انتصرت علي المثقف الداعي إلي نسف الصيغة والشروع في بناء دولة بعناصر تنطلق من الفردية نحو المواطنة من دون المرور حكماً بالطائفة والجماعة. (أسباب الفشل كثيرة وأهمها استنفار وتحالف الكتل الطائفية في وجه أي تغيير جدي). ولكل من النموذجين وتجربتهما حواش وظروف ومعطيات. وقد فشلا معاً، كلاهما من موقعه في إثبات ملاءمة ما يطرحانه من نظريات شأنها تحصين أو تحسين الكيان.
والحال هذه، يصعب تحديد دور المثقف بوصفه جزءاً من أقليات خارجة من طوائفها، طالما أن النظام السياسي لا يتيح التغيير علي أسس فردية ومفاهيم ثقافية لا تتبناها الجماعة. وكل نظرية ورؤية للصيغة، تحتاج إلي آليات تنفيذية وفاعلية ودينامية وهي غير متوافرة في النظام الحالي.
في وسع المثقفين العيش كأفراد والاكتفاء بتوجيه النقد ومراكمة هذا النوع من الإنتاج الثقافي النقدي. وفي وسعهم العمل كوعّاظ ومبشرين حالياً علي الأقل. وذلك إلي حين تأمين رأي عام يتبني طروحاتهم للتغيير. وإلي ذلك الحين لماذا لا يكتفون بالمحافظة علي نقائهم من غير الانزلاق إلي دائرة التأثر المباشر بحراك القوي الطائفية؟؟
في الأزمة الأخيرة انزلق بعض المثقفين نحو خطاب طائفي يخدش النقاء المفترض لمنظومة التغيير.
المثقفون طائفة إضافية
قزحيا ساسين
(شاعر)
لا شك في أن الثقافة تساعد صاحبها علي الخطو نحو الآخر. فهي تعزز فيه حضوره الإنساني الذي يجد متعة تحقيق الذات في الانفتاح والتفاعل مع كل مختلف. وفي النظر إلي الواقع اللبناني لا بد من الاعتراف بأن لبنان ذو تركيبة طائفية صعبة يعيش المثقف في ظلالها أزمة من يجد الطرح المناسب ولا يستطيع إيجاد من يلتزم به للسير نحو مجتمع مدني علماني يلتزم بالإنسان في ضوء كفاءته وقدرته علي العطاء فقط.
ليس من السهل علي الثقافة مواجهة الطائفية لأن لهذه الأخيرة أيضاً ثقافتها ومثقفيها ولها معطيات كثيرة تمدّها بالقدرة علي الثبات والاستمرار. واللافت أن نسبة كبيرة من المثقفين اللبنانيين الذين تأثروا بتوجهات عقائدية سياسية وفلسفية تدير ظهرها للذين لم يستطيعوا التوسع لبنانياً وظلوا ضمن دائرة عددية معينة، لأن الواقع اللبناني المتدين في أغلبيته لا يتقبل فكرة الاستقالة من الدين. وفي تصوري أن الحل لا يكون بالنقيض ولا يجوز أن تكون الثقافة أداة لقتل الله بشكل من الأشكال، وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن الناس لا يغيّرون جلدهم بسهولة. أتصور أن الثقافة لا تتعارض مع الإيمان، وإن تعارضت فمن حقها ذلك. غير أن البنية الطائفية اللبنانية تحتاج إلي ثقافة تتبني خلفيتها بشكل حضاري وتوفيقي وصولاً إلي تغييرها ببناء دولة كفاءات مرتكزة علي صيغة تحترم خصوصيات الطوائف وتلغي خوف الواحدة من الأخري.
في لبنان اليوم مجتمعان، الأول طائفي وهو الأكثري، وله فلسفته وثقافته، ولم يستطع الخروج من مسار التصادم الذي يمسي بين ليلة وضحاها دموياً. الآخر ثقافي، وهو خارج السلطة علي المستوي التمثيلي يمارس حضوره من خلال الصحافة والمؤسسات الثقافية والسياسية، وله آفاق إيجابية تحتاج إلي التفعيل. هذان المجتمعان يكادان أن يكونا منفصلين أحدهما عن الآخر، وربما يتمايزان ويختلفان إلي حد التعارض. وبكل تأكيد فإن الرهان علي المثقفين وحدهم ليخرجوا المجتمع الطائفي من لعنة القطيع، لكن تركيبة لبنان الحالية التي هي مرهونة دائماً لمنطق التسويات، من صيغة 43 مروراً بالطائف وصولاً إلي اتفاق الدوحة الأخير، ليست قابلة للحياة السليمة، فنحن في حاجة ماسة إلي صيغة جديدة، ولنعترف بوضوح وصراحة أن لبنان لا يزال حتي اليوم يحاول أن يكون وطناً، ويحاول أن يخطو، متعثراً دائماً، نحو مفهوم الدولة.
إن الثقافة ضرورة ملحة لبلورة لبنان الوطن والدولة، لكن المشكلة في رأيي، تجتاز الثقافة. فالمثقفون في ظل هذه التركيبة الطائفية عاجزون عن مواجهة الطائفية وباتوا طائفة إضافية لا أكثر ولا أقل، وهم قادرون علي الفعل المحدود بالتراكم، وليس لهم الفعل المباشر بما أن صناديق الاقتراع طائفية حتي العظم.
المطلوب أن نصل إلي دولة لبنانية تسير بقوة ذاتية ترتكز علي المؤسسات أولاً وأخيراً بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية التي تتسلل من خلال الخلافات الطائفية ليبقي أماننا وسلامنا دائماً رهن تسوية ما. وحين يتم حل جذري للأزمة اللبنانية يصبح دور الثقافة والمثقف أكثر نفعاً وتأثيراً. إن لبنان، اليوم، كناية عن مجموعة طوائف كل منها يسعي إلي تعزيز حضوره، وهاجس العدد مسيطر علي الجميع، وبات الصراع الأكبر بين الطائفتين الشيعية والسنية الأمر الذي يوحي بأننا علي مشارف لبنان جديد تتحكم به طائفة واحدة وهي التي تستطيع الحسم عددياً وربما عسكرياً. أمام هذا الواقع نستطيع أن نلمس حقيقة كم هو دور المثقفين ضئيل رغم أنهم حاجة وضرورة وصمّام أمان.
نحن في لبنان مثقفون أيتام، لا اتحاد كتّاب غير مسيس، ولا ناديَ ثقافياً يتسع للجميع، ولا نقابة صحافة متجددة… من نحن علي مستوي التأطير والمفهوم المؤسساتي؟ نحن أفراد مبعثرون، كلٌّ يغني علي ليلاه. فلماذا لا يسعي المثقفون إلي مؤسسة فاعلة تؤويهم وتشكل حضوراً مركزياً فاعلاً؟ نعم، يجب أن تعبر الثقافة جدران الطوائف، لكن يجب ألا ننسي أن أزمة لبنان لن تحلها الثقافة وحدها.
المثقف اللبناني بين الشيء ونقيضه
جهاد الترك
(ناقد أدبي)
قدر المثقف في لبنان من قدر لبنان. معادلة قد تنطبق، بشكل أو بآخر، علي جمهرة المثقفين في غير بلد عربي أو سواه علي الرقعة الإقليمية والدولية. ومع ذلك، قد تبدو هذه المعادلة لبنانية بامتياز أكثر منها أي أمر آخر. قد تعزي هذه المسألة، علي الأرجح، إلي الموقع الجغرافي لهذا البلد الصغير، لكونه معرّضاً، بحكم الضرورة، لتداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، والقادمين الجدد إلي أمجاد الأمبراطوريات القديمة مثل إيران، والمهرولين إلي المنطقة لإحلال نماذج متقدمة لكن متسرعة من الديمقراطية الغربية، ناهيك بالاحتمالات القديمة الجديدة التي تجعل من لبنان مختبراً جاهزاً لإطلاق الشعارات والحروب الصامتة أو الصاخبة والفقاعات السياسية الخبيثة والحميدة. ثمة عناصر أخري يتعذر حصرها تساهم في تكوين قدر المثقف في لبنان، قد لا تبدو عصية علي من يهمه الأمر. وعلي الرغم من هذه المنظومة الواسعة التي تشكل الفكر السياسي للمثقف في لبنان، ثمة ما يحمله علي العودة بمفاهيمه إلي نقطة الصفر. قد تبدو الطائفية، في هذا السياق، علة العلل، خصوصاً بعدما تشظت وتبعثرت لتتخذ أشكالاً مذهبية هي أقرب إلي التعبير عن هوية الخوف أكثر منها هوية سياسية معاصرة أو حديثة. قد ينحاز المثقف إلي جاذبيته الطائفية أو المذهبية ليصبح ناطقاً رسمياً باسمها، أو مرتزقاً، بالغريزة، يزعم أنه ينبري للدفاع عن حقها في الوجود علي مساحة الوطن. يفعل ذلك وفي ظنه أنه يحمي العيش المشترك، والوحدة الوطنية، والديمقراطية التوافقية، والتعدد الطائفي والمذهبي الذي يضفي علي لبنان صيغة فريدة من نوعها في المنطقة والعالم. قلة أو كثرة، لا فرق، تدرك في العمق أن الوطن اللبناني المتأرجح بين الجحيم والجحيم، بين الهاوية والهاوية، بين حرب أهلية وأختها، يصعب بناؤه علي هذه القاعدة الهشة. يعلم هؤلاء المثقفون المرتهنون لمرجعياتهم الطائفية والمذهبية بغريزة الخوف علي المصير، أن دورهم في إقامة دولة القانون والمؤسسات، مهدور علي هذا الصعيد، أو مجاني في أسوأ الأحوال، أو انتحاري في معظم الأحيان. ومع ذلك، كلما لاحت بارقة أمل لفك الارتباط مع سلطاتهم الدينية والمذهبية، عادوا القهقري إذا ما ظهرت في الأفق عاصفة هوجاء علي وشك أن تحيل التركيبة اللبنانية مشروعاً محتملاً أو حقيقياً لحرب أهلية.
علي هذا الأساس، لم يكن مقيضاً لاتفاق الطائف أن يسفر عن تسوية تفسح في المجال أمام المثقف اللبناني ليخرج من عقدة الخوف، وبالتالي من إحساسه العميق بالاضطهاد الديني والمذهبي من قبل الطوائف الأخري. ظلَّ هذا الاتفاق، علي الأغلب، رهينة الرعب المتبادل بين سائر المذاهب والطوائف رغم أرجحية إطاره القانوني. والأخطر أن هذا الاتفاق وسواه قد يتحول لغماً موقوتاً في حال لم يكن ثمة قرار حاسم بالحد من تطلعات اللاعبين الجدد والقدامي علي الساحة الإقليمية لتحريك أدواتهم العقائدية والحزبية في لبنان. بدت محاولة السيطرة علي العاصمة بيروت، في الأحداث الأخيرة، تعبيراً عن السيناريو المذكور. مرة أخري، أثبت هذا المشهد المضطرب الذي يذكر بقيام الساعة، سهولة انزلاق المثقف إلي خنادق متطرفة قد لا ترضي نزعته الثقافية بقدر ما تلبي حاجته إلي الحماية الغريزية من بطش الطائفة الأخري أو المذهب الآخر.
الخشية، في هذا السياق المحموم بأشكال العنف، من أن يلجأ المثقف اللبناني، علي الدوام، إلي محاولة تعميم قناعاته المذهبية أو الحزبية الضيقة علي سائر الفئات والشرائح التي يتشكل منها الوطن اللبناني. إحساس مرضي مرده إلي طبيعة هيمنة الأيديولوجيا علي الفكر خصوصاً في بيئة متفجرة كلبنان.
مسكين هو المثقف اللبناني الذي دفعته أقداره إلي أن يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. يريد علمنة الدولة لإنقاذ الدولة من التشرذم، ثم يهرع إلي نقيضها خوفاً علي مصير مهدد. قلة هم أولئك المثقفون الذين يتحاشون هذا المنزلق. وربما هم كثرة صامتة أو صاخبة، غير أنها تعيش هاجس الإخصاء والإقصاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى