صفحات العالمصفحات سورية

هل يلعب أوباما دور ريغان أم … غورباتشوف؟

نيويورك – راغدة درغام
يستحق الشعب الأميركي تهنئة النفس وتهنئة الآخرين له لانتخابه باراك حسين أوباما، الشاب الأسود اللون، الرئيس الرقم 44 للولايات المتحدة الأميركية.
تغلب الأميركيون على عنصرية ظنوا أنها قد تستقوي على الديموقراطية، بل أحدثوا انقلاباً على العنصرية بسلاح الديموقراطية. أدهشوا العالم وأنفسهم تلك في الليلة التاريخية والعاطفية حين انهمرت الدموع وسار الشباب في الشوارع راقصين على أنغام انتصارهم ضد التعصب والتقاليد السياسية البالية. قدم الأميركيون إلى أنفسهم هدية التغيير وإلى العالم هدية المفاجأة. أثبتوا أنهم يريدون استعادة العناق مع بقية العالم وليس الخناق مع العالم، وبعثوا رسالة عنوانها الشوق إلى الترحيب بهم والانخراط معهم عالمياً، والتشوق إلى استعادة الهيبة والاحترام للولايات المتحدة – وهذا ما يتوقعونه. يتوقعون أن يكف العالم عن البغض والكراهية لكل ما هو أميركي بذريعة مختلفة أو لأسباب حقيقية – وان يأخذ علماً بالجهوزية الأميركية لبناء أسس جديدة للشراكات والعمل الجماعي. يدركون أن هذا الانقلاب أتى تحت وطأة الخوف من الأزمة الاقتصادية الأميركية والاستياء من رئيس أوقع الولايات المتحدة في حرب العراق المكلفة، إلا أنهم يتوقعون مردوداً وتجاوباً من بقية العالم مع هذا الانقلاب. فالأميركيون رفعوا شعار التغيير لكنهم لم يقولوا إنهم حصراً المسؤولون عن احداثه. فلا مفاتيح التغيير معروفة، وحدوده ما زالت مجهولة، والتوقعات من التغيير قد تؤدي إلى خيبة أمل إذا لم يتنبه كل المعنيين بالتغيير إليها.
الآن وقت الاحتفاء والتمتع بإنجازات الديموقراطية، إنما قريباً – وقريباً جداً – سيبدأ التدقيق في نوعية الحكومة الآتية إلى البيت الأبيض في عهد باراك أوباما. ستبدأ التوقعات التي ستطالب بمساهمات ملموسة وقد لا يطول الزمن قبل وقوع الخلافات أو انزلاق الرهانات والآمال أو ربما تمكن أوباما من إلهام العالم بالالتحاق بمسيرة التغيير بسلاح اليقين والمستطاع والإصرار المدني.
الحظ بالتأكيد رافق باراك أوباما، إنما كذلك العزم والعمل الدؤوب وحسن التدبير هو ما أوصله إلى البيت الأبيض. جاء الحظ على متن الأزمة الاقتصادية بتوقيت توّج الحلم الذي رافق ذلك الشاب المولود لرجل أسود وامرأة بيضاء تربى على أيدي جدته وجده متنقلاً من اندونيسيا إلى هاواي ثم إلى نيويورك وبوسطن حيث حزم شهادات من أهم الجامعات، كولومبيا وهارفرد، وإلى شيكاغو حيث زرع بذور مستقبله السياسي. ثقته العارمة بنفسه أزاحت أي مخاوف عنده من غرابة اسمه، فوضع هدفاً بدا مستحيلاً للآخرين، إنما كان واثقاً من الوصول إليه بسرعة هائلة ومنذ البداية.
الحلقة المحيطة بباراك أوباما والمقربة منه، معظمها من أصدقاء له من ايام هارفرد حيث حصل على شهادة القانون وجزء منها من شيكاغو التي باتت «مدينته» الأميركية، مع أنه ليس من مواليدها.
أحد أهم رفاقه وصانعي استراتيجيته والذي لعب دوراً فائق الأهمية في ايصاله إلى البيت الأبيض رجل اسمه رام ايمانويل الذي عرض عليه باراك أوباما منصب رئيس مكتبه وهو منصب مهم جداً بالتأكيد. رام ايمانويل عضو ديموقراطي في الكونغرس من شيكاغو، وهو رئيس لجنة الحملة الديموقراطية للكونغرس لعام 2006 ويعتبر الرابع بين القيادات الديموقراطية في الكونغرس. وايمانويل من مواليد شيكاغو. أبوه بنجامين، من مواليد القدس، وهو طبيب أطفال، وجده (أب ابيه) كان عضواً في الحركة الصهيونية الإرهابية «أرغون». وفي عام 1991، أثناء حرب الخليج الأولى، تطوع رام ايمانويل كمدني للخدمة في قاعدة عسكرية إسرائيلية.
أحد أهم من ساعد في ايصال باراك أوباما إلى مجلس الشيوخ، عمدة شيكاغو ريتشارد دايلي، له بدوره علاقات وثيقة مع رام ايمانويل وكان قدم الدعم والنصيحة والخبرة إليه، علماً أن سيرة ايمانويل عن حسن جمع التبرعات كانت سمعة كبيرة. فرام ايمانويل المعروف حالياً بقيادته في الكونغرس واستراتيجياته السياسية وقدراته على جمع التبرعات الكبيرة، هو رجل استثمار مصرفي له علاقات قوية مع «وول ستريت»، قيل عنه إنه نجح في جمع التبرعات بسبب علاقاته واتصالاته السياسية. وبحسب قوله إن السياسات الاقتصادية هي التي ستميز سياسات عهد باراك أوباما، أقله في بدايته.
مثال رام ايمانويل هو مجرد مثال واحد على العلاقات الشخصية والسياسية ومع أفراد قد يلعب معظمهم أدواراً مهمة في الإدارة المقبلة. منصب وزير الاقتصاد سيكون في طليعة التعيينات، ويُذكر في هذا الإطار لاري سميرز الذي سبق وتسلم هذا المنصب في عهد الرئيس بيل كلينتون، أو نائبه تيموثي غايشنر أو روبرت روبن، أو ربما يحتفظ بوزير الاقتصاد الحالي هنري بولسون والذي – بحسب رأي البعض – ساهم في ايصال باراك أوباما إلى الرئاسة لأنه لم يتمكن من – أو اختار أن لا يبذل الجهد – للحؤول دون انهيار مؤسسة «ليمان بروثرز» والذي كان مفتاح الأزمة الاقتصادية.
في منصب وزير الدفاع، يزداد الكلام عن الاحتفاظ بوزير الدفاع الحالي روبرت غيتس لأسباب ذات علاقة بالعراق وأفغانستان، وكذلك بتعهدات أوباما ان تتشكل إدارته من جمهوريين وديموقراطيين. وهناك من يذكر السناتور تشك هايغل الجمهوري كبديل عن غيتس.
وزارة الخارجية ايضاً مهمة ومن بين الذين تذكر اسماؤهم لتوليها المرشح السابق للرئاسة السناتور الديموقراطي جون كيري والسناتور الجمهوري ديك لوغار وحاكم نيومكسيكو بيل ريتشاردسون. وتذكر سوزان رايس وغريغ كرايغ لمنصب مستشار الأمن القومي. ويتردد اسم سام نان لأكثر من منصب.
هذه التخمينات في الأسماء ستكون لعبة الأيام والأسابيع المقبلة، حيث يتم تشكيل الادارة الجديدة لتتسلم مهماتها بعد 20 كانون الثاني (يناير)، موعد تنصيب اوباما رئيساً للولايات المتحدة وجو بايدن نائباً للرئيس.
اللافت اثناء اجراء الانتخابات أن استفتاء للناخبين كشف أن الاقتصاد كان في طليعة الاهتمامات الأميركية بنسبة 63 في المئة، وأن حصة العراق من الاهتمامات ليست أكثر من عشرة في المئة، وكذلك حصة الإرهاب لم تتجاوز بدورها عشرة في المئة.
هذه مؤشرات مهمة توحي ربما بشكل الأولويات لإدارة باراك أوباما. فقد بدا في بداية الأمر أن موضوع العراق هو في صدارة الحملة الانتخابية لباراك أوباما ليبني على غضب وامتعاض الأميركيين من الإدارة الجمهورية الحاكمة التي أتت بهذه الحرب. ولكن، وبعدما اندلعت الأزمة الاقتصادية لصالح اوباما وبات الهوس الأميركي منصباً عليها، انزلق موضوعا العراق والإرهاب إلى مرتبة من دون أهمية عند الناخب الأميركي.
قد يقال إن هذا ما أتى به الحظ، إذ لو وقع إرهاب داخل الولايات المتحدة، ولو كان الأمن القومي هو عنوان الانتخابات – وليس الاقتصاد – لربما لم يفز باراك أوباما ولكان الفوز من نصيب المرشح الجمهوري جون ماكين.
ماكين ارتكب أخطاء عدة متتالية، أهمها اختياره سارة بيلين لمنصب نائب الرئيس. ومن أبرز أخطائه أنه سمح للمحافظين الجدد بالعودة إلى الواجهة وهم المعروفون بتوريط الولايات المتحدة في حرب العراق لغايات زئبقية.
اليوم الحزب الجمهوري مبعثر بلا قاعدة ولا روح ولا حيوية، وهذا ايضاً نتيجة أفعال المحافظين الجدد واعتداءاتهم على المحافظين التقليديين في الحزب الجمهوري. لذلك اصبحت الأكثرية في الكونغرس ديموقراطية، وبالتالي كل من الهيئتين التشريعية والتنفيذية في الولايات المتحدة تقع تحت سيطرة حزب واحد، وهذا ليس أمراً ايجابياً بل قد يكون مخيفاً إذا افتقدت الأمور حس المحاسبة والشفافية.
البعض ينظر الى سيطرة الحزب الديموقراطي على أنها مقياس على انتقال الولايات المتحدة من يمين الوسط الى يسار الوسط. هناك من يظن أن لدى باراك اوباما نزعة اشتراكية وأن هذه النزعة ستبني على «التأميم» الذي بدأ في بعض القطاعات المصرفية. انه رجل غامض بالنسبة الى الكثيرين في الولايات المتحدة وفي العالم. أحدهم يقول إنه سيكون رونالد ريغان آخر، اشارة الى الرئيس الأميركي الاسبق الذي أشرف على انتقال الولايات المتحدة من الأزمة الاقتصادية الى الاستقرار والانتعاش الاقتصادي. وأحدهم يقول إنه سيكون ميخائيل غورباتشوف الذي دمر الاتحاد السوفياتي تحت عنوان انفتاحه على الرأسمالية.
الكل يراقب ماذا سيفعل باراك اوباما بفوزه وماذا سيصنع بالحركة الشبابية التي اكتسبت له شهرة وتأثيراً واتباعاً وظاهرة عالمية.
سحر الرجل نفسه وشخصيته القيادية أدتا الى تنشيط جيل الشباب وذهوله بسحر المشاركة في صنع التاريخ. بات عنوان الإلهام والإيحاء لهذا الجيل فحوّل المنافسة بينه وبين جون ماكين الى خيار بين رجل مسن يسير الخطوات الأخيرة في مسيرته السياسية وبين رجل شاب في طليعة مسيرته وتطلعاته القيادية والسياسية. هكذا يصنع القادة، بالإلهام وبالسحر وبالإيحاء وبحشد حماس وولاء الأجيال المقبلة. باراك اوباما نجح في بعث الطمأنينة في الشباب فرفعوها راية نكست مخاوف كبار السن. قال لهم: آمنوا بقدراتكم، فوثقوا بأنفسهم وجددوا إيمانهم بالتغيير على أيديهم.
ولأن أميركا تدخل مرحلة جديدة مع جيل جديد، فهي ربما تصوغ نظاماً جديداً. وهذا يضع باراك اوباما تحت المجهر. مجهر محاسبة الشباب له باللغة الجديدة التي يتحدثون بها معه. فعلى أكتافه تقع مسؤولية من نوع آخر، مسؤولية صيانة افتخار جيل الشباب الأميركي بإنجاز تاريخي، ومسؤولية بناء التغيير الذي وعد به، ومسؤولية الحفاظ على إرث حق الحلم بالفجر الجديد، دائماً.
مهما حلل التقليديون في الولايات المتحدة والعالم، ومهما راهن الساذجون على معادلات تقليدية في العلاقات مع الادارة الأميركية المقبلة، لا شيء في الجيب مضمون في عهد باراك اوباما. فهذه حركة شبابية من نوع آخر يرأسها رجل غامض يسيطر على أعصابه ويكبح جماح دمعة كادت تسقط من عينيه ليلة فوزه التاريخي وصنعه التاريخ. انه يدرك أن هذه بداية هوية جديدة للولايات المتحدة الأميركية كلفه بصوغها جيل فائق الذكاء والعلم والمعرفة. جيل يتحدث لغة الصمت وهو يتخاطب الكترونياً. جيل توقف عن صمت لغته عندما خاطبه باراك اوباما ببلاغة الصوت والرسالة وحسن الالقاء والإيحاء والالهام، فبات جزءاً من مسيرة الوعد التاريخية. باراك اوباما طلب وحصل على هذه المسؤولية.
الحياة     – 07/11/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى