صفحات مختارة

في أن النهضة العربية لم تستوعب معنى الحداثة

د. منى فياض
في بحثه المعنون: الإسلام السياسي المعاصر، تيوقراطية من دون مشروع اجتماعي، يشير سمير أمين إلى نقاط عدة، تساعد على فهم إشكالية العالم الإسلامي مع الحداثة والدولة.
بداية على ماذا قامت الحداثة؟ على مبدأ أن البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم فرادى وجماعات، وأنهم من أجل صنعه، لهم الحق في التجديد، وفي عدم اتباع التقليد. وبذلك انطلقت أوروبا نحو الحداثة، فيما لم ينجح العالم الإسلامي بذلك. السؤال لماذا؟ وبأي شروط؟
يختلف الدين الإسلامي التوحيدي، عن الدين اليهودي، في أن الأخير يتوجه إلى شعبه فقط، بينما يتوجه الإسلام، وبكل وعي، إلى الإنسانية جمعاء. وسرعان ما برهنت الفتوحات التي تلت هذه النزعة العالمية. والإسلام في مرحلته المدينية، لم يقتصر على كونه عقيدة دينية فقط، بل أسهم في تنظيم المجتمع؛ لكنه احتفظ بكل العلاقات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع العربي لتلك الحقبة. فهو لم يغير في أشكال تنظيم العمل، أو الملكية، ولا قطع مع العلاقات القبلية، ولم يغير في شرعية القوى السائدة. وقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بتذكير المؤمنين بوجوب طاعة السلطات السياسية. لذا لم يقم الإسلام بقطيعة جذرية، وظل منسجما مع تقليد السلطة البطريركية وخضوع النساء، في سياق منظومة الأديان نفسها التي سبقته، من يهودية، أو مسيحية، أو كونفوشيوسية. ثورة دينية من دون ثورة اجتماعية. وهذه هي ميزة الإسلام، والتي جعلته قادراً على التكيف مع مختلف المجتمعات المنوعة التي بلغها. وهذا ما قامت به الديانة المسيحية أيضاً، وما جعلها مقبولة في تلك الأنظمة القائمة على قانون دفع الجزية.
يطلق سمير أمين على هذا الشكل من التنظيم الاجتماعي نعت «الجزيوي»، وهي صفة عامة في المجتمعات التقليدية. وهيمنة دين ذي نزعة عالمية، مشكلاً غطاء للسلطة السياسية، لا تعني أن النظام الناتج هو نظام تيوقراطي.
لكن هذا الالتزام لا يعني التيوقراطية، لأن السلطات التي تحكم في تلك المجتمعات، لا تقتصر على رجال الدين -كما هو الحال في إيران اليوم مثلا- ففي الأيديولوجيا الجزوية، ثمة ضرورة في ألا يترك الدين للاعتقاد الفردي، لكن يجب أن يؤكد نفسه عبر الكنائس المنظمة الموجودة دائماً حتى ولو ادعت الأديان عكس ذلك، كمثل حالة الإسلام مثلاً. فرجال الدين لديهم دائما مهمة فرض الاحترام «للدين الحقيقي». من هنا كانت الطبقة الحاكمة تحتوي دائما على عنصر رجال الدين. لكن التيوقراطية تعني أكثر من ذلك، تعني هيمنة رجال الدين على السلطة باسم الدين. وهو ما تدعو إليه حركات الإسلام السياسي المعاصرة.
من هنا كان ما لفت النظر إليه أعلاه من أن الحداثة هي عبارة عن رفض ديكتاتورية الدين، الأمر الذي كان يطلق عليه في النظام القديم الأوروبي «الظلامية». وهكذا تمكنت أوروبا من القيام بقطيعتها مع كل أشكال السلطة الجزوية، والتي ميزت السلطات في العالم القديم، من أوروبا إلى العالم الإسلامي إلى الصين والهند. ولهذه القطيعة تاريخ محدد تميز بمحطات أساسية: النهضة، الأنوار، والثورة الفرنسية. وهذه القطيعة تعبر عن نفسها بتأكيد وجود الكائن الإنساني فرديا وجماعياً، وأن يصنع تاريخه بنفسه. وهذا الأمر يبلور مفهوم الديمقراطية. ويتطلب تعريف الديمقراطية تأكيد هذا الفصل بالطبع بين الدين والسلطة، أو الدولة. ما يعني العلمانية.
وما تمكنت أوروبا من القيام به كان نوعا من ولادة جديدة وليس «استنهاضا» لما كان سابقا، وتم إرجاعه للحقبة اليونانية الرومانية التي أرجعت جذور الحداثة إليها. عصر النهضة الأوروبي كان نتاج دينامية اجتماعية داخلية، والحل الذي قدّم للتناقضات الخاصة بأوروبا عبر استنباط الرأسمالية.
لماذا لم يتوصل العالم الإسلامي إلى القيام بقطيعته؟
لا يتعلق الأمر «بخصوصية الإسلام»، إن ما سماه العرب نهضتهم في القرن التاسع عشر، لم تكن كذلك، بل كانت ردة فعلهم على صدمة خارجية أصابتهم. فأوروبا التي سمحت لها الحداثة بالقوة اللازمة لكي تصبح غازية، مارست على العالم العربي تأثيرا متناقضاً من الجذب والنبذ في الوقت نفسه. لقد تعاملت النهضة العربية مع صفتها بشكل حرفي re-naissance، وفكرت أنه بما أن الأوروبيين قاموا بذلك، وعادوا إلى الأصول، فينبغي عليهم هم ذلك أيضا. وهكذا عاد العرب إلى جذورهم، حيث استعادوا عظمتهم. لم تعرف النهضة العربية ما معنى الحداثة التي شكلت قوة أوروبا وقدرتها. بمعنى ما لم تقم النهضة العربية بأي من الانقطاعات المطلوبة، من أجل إرساء الحداثة. ففي حين ساعدت الأوروبيين موضعتهم لجذورهم فيما قبل المسيحية على جعل البعد الديني نسبيا فيما يتعلق بخصوصيتهم، بينما قام العرب في تشبههم بالأوروبيين بإعادة أصولهم إلى الإسلام، ما يستدعي محو كل ما حملته إليهم الحضارات الشرقية القديمة. من المفهوم عندها تفسير عدم التقاطهم لما تعنيه العلمانية، أي الفصل بين الدين والسياسة. الشرط الذي يسمح للسياسة بأن تصبح ميداناً للتجديد الحر، ما يعني الديمقراطية بتعابير حديثة. اعتقدت النهضة العربية أن باستطاعتها استبدال القطيعة بإعادة قراءة الدين منزها من كل الشوائب الظلامية. ولايزال العرب حتى الآن يفتقرون إلى التجهيز اللازم الذي يجعلهم يقتنعون بأن العلمانية ليست «خصوصية» غربية، بل هي شرط الحداثة. كما أن النهضة لم تعرف أن الديمقراطية تعني أيضا القطيعة مع التقليد. لقد اقتصر تعريف النهضة للحداثة عبر مظهرها المباشر الذي أنتجته: التقدم التقني. وبدل ذلك سجنت المجتمعات العربية نفسها في الخطاب الديني.
يستنتج سمير أمين أن النهضة لم تكن لحظة ولادة الحداثة، بل لحظة إجهاضها.
هذا في وقت نجد فيه أن الغرب ينهمك في البحث في عصر ما بعد الحداثة، وعن التسمية المناسبة لها، لأنهم يلاحظون اختلافه عن العصر السابق الذي أطلقت عليه تسمية «ما بعد الحداثة». بينما نواصل الجدل عن الحداثة، وكيف نواجهها أو نتخطاها.

كاتبة من لبنان
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى