صفحات مختارة

فرسان البؤس النهضوي: أسامة بن لادن، أبو مصعب الزرقاوي، ومنتظر الزيدي

خالد غزال
مقدمة
في مطلع كتابه “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” يطالعنا كارل ماركس بهذه الفقرة :”يقول هيغل في ما يقول، إنّ جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرّتين. وقد نسي أن يضيف : المرّة الأولى كمأساة، والمرّة الثانية كمسخرة. كوسيديير مكان دانتون، لويس بلان مكان روبسبيير، “جبل” أعوام 1848-1851 مكان “جبل” أعوام 1793-1795، إبن الأخ مكان العم” (ص10). هذا في فرنسا القرنين الثامن والتاسع عشر. أمّا في العالم العربي نسخة القرن الحادي والعشرين، فقد استبدلت قيادة جمال عبد الناصر لمشروع القومية العربية بجلباب أسامة بن لادن، واستعيض عن قادة العراق من أمثال رشيد عالي الكيلاني وكامل الجادرجي بحذاء منتظر الزيدي، وحل أبو مصعب الزرقاوي مكان يوسف العظمة. هكذا استبدل رجالات الاستقلال وقيادات الحركة الوطنية والاجتماعية، ومعهم بعض من رواد النهضة، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، علي عبد الرازق، طه حسين.. وغيرهم، برجال صنعتهم حال الانحطاط والانهيار في أرجاء الوطن العربي، فملؤوا الفراغ، ونصبوا أنفسهم أولياء على الشعوب العربية. يزداد المشهد الراهن مأساوية عندما يفرض الفرسان الجدد أنفسهم أبطالا للمرحلة الجديدة من تطور العالم العربي، وتقبل بهم الشعوب العربية وترى فيهم قادة منقذين ومخلصين، وتمنحهم تأييدًا لم ينله أبطال المرحلة السابقة من التاريخ العربي. فمن هم أبطال المرحلة الراهنة، وما هي مشاريعهم الإنقاذية، ولماذا يحتلون هذا الموقع الجماهيري الاستثنائي في النضال العربي؟
أسامة بن لادن: من نتاج المخابرات الأميركية
منذ أكثر من عقد من الزمن يحتل تنظيم “القاعدة ” المكان الأول في سياسات عدد من الدول لجهة التصدي للأخطار التي يمثلها هذا التنظيم. كما تحتل القاعدة موقعاً مركزياً في الإنتاج الإعلامي ولدى دور النشر التي تسلط الضوء من جوانب متعددة على طبيعة التنظيم في أيديولوجيته واستراتيجيته وسياسته ونوعية قيادته..وهو تنظيم أنشئ في أفغانستان عام 1988. وعندما نقول القاعدة، فإننا نشير في الأساس إلى أسامة بن لادن وهو اليوم أكثر الزعماء شعبية في العالمين العربي والإسلامي، حتى باتت صفات القداسة تلحق به. ينتمي بن لادن إلى أسرة سعودية ثرية، ارتبطت مبكرًا بعلاقة تجارية مع المؤسسات الأميركية في الولايات المتحدة، وخصوصاً منها عائلات ذات مواقع رئيسة في السلطة الأميركية. لعبت المخابرات المركزية الأميركية، وبدعم من العائلة المالكة في المملكة العربية السعودية، الدور الرئيسي في بناء تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وقدمت له الدعم المادي واللوجستي، وزودته بأحدث الأسلحة، لخوض حرب عصابات واستنزاف ضد الإتحاد السوفياتي الذي كان يحتل أفغانستان منذ العام 1979. واستمر الدعم والاحتضان الأميركي إلى حين خروج الجيش السوفياتي من أفغانستان مطلع التسعينات من القرن الماضي.
بعد انتهاء مهمة مقاتلة العدو السوفياتي، بدا أنّ وظيفة بن لادن ودوره قد استنفدا، بعد زوال المكان الذي كان علة وجوده، ولم تعد الإدارة الأميركية ترى فيه حاجة كما كان سابقا. تحوّل بن لادن في هذه الفترة إلى مناهض للولايات المتحدة وللنظام السعودي في الوقت نفسه. بعد أن اعتبر بن لادن أنه حقق انتصاره على “الكفار” من الشيوعيين في أفغانستان، رأى أنّ كفرة آخرين يجولون في المنطقة العربية، تمثلهم الولايات المتحدة الأميركية والبلدان الأوروبية ذات الانتماء المسيحي، فاستبدل العدو الشيوعي بالإنسان المسيحي، وهو أمر لا يقع خارج المنطق الأيديولوجي الذي يعتنقه بن لادن، وفق الترسيمة الدينية التي ينطلق منها في تصنيف المجتمع “بدار سلام” تضم المسلمين و”دار حرب” تضم غير المسلمين من الكفار.
ينظر كثيرون من مؤيدي القاعدة إلى بن لادن بصفته رمز الأمل في إعادة الكرامة والعزة والخلاص من الغرب، وجواباً عن الإحباط الذي أصاب العرب نتيجة الهزائم المتتالية أمام العدو الغربي والصهيوني الذي بات يحتل قسماً واسعاً من البلاد العربية بما فيها الأراضي المقدسة. قال فيه رجال دين من المملكة العربية السعودية أقوالاً تختزل النظرة العربية إليه، وذلك قبل أن يتحول إلى عدو للمملكة. وصفه الشيخ حمود الشعيبي بأنه “مجاهد مؤمن يقاتل على منهج الكتاب والسنة بحذافيره”. وقال عنه عبد الله عزام أحد قادة الحركات الأصولية: “والله أشهد أني لم أجد نظيرًا له في العالم الإسلامي، فنرجو الله أن يحفظ له دينه وماله وأن يبارك في حياته”. أمّا الشيخ سعيد الزعير فيقول: “الأمة تحتاج إلى رجال كأمثال أسامة، فإن شئت ترى إلى الرجال فانظر إلى أسامة”. فيما يقول القائد الأفغاني حكمتيار عنه :”الشيخ أسامة هبة من الله عز وجل، وهبها الله للجهاد الأفغاني، انه حقاً أمير المجاهدين”. (الاقتباسات من موسوعة ويكيبديا).
بالنسبة للأيديولوجيا التي ترشد بن لادن وتنظيم القاعدة، فإنها الإسلام في تفسيره السلفي، فقد أفتى علماء مسلمون أنّ الجهاد جزء لا يتجزأ من الإسلام استنادًا إلى النص القرآني القائل: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا هو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون “. وقد طوّر بن لادن فتوى الجهاد بحيث باتت تطال الاحتلال الأجنبي والنظام الجائر استنادًا إلى الآيات الداعية إلى قتل الكافرين. خلال السنوات الماضية أفصح بن لادن أكثر عن أهداف تنظيمه الرئيسية، فإذا هي إعادة إحياء الخلافة الإسلامية والمجد الغابر للمسلمين. تأثر بن لادن بعدد من المدارس الفكرية السلفية وعلى الأخص بسيد قطب وعبد الله عزام ورفيقه أيمن الظواهري.
ترتكز التعبئة الأيديولوجية لتنظيم القاعدة على إعلاء قضية الشهادة. فالإيمان بالشهادة تجعل الأمة الإسلامية قريبة من تحقيق أهدافها الإستراتيجية كما تضمن للشهداء الدخول إلى الجنة، وهو العنصر الحاسم في التعبئة للمنضوي في الجهاد، حيث ينص القرآن صراحة على وعد بحياة أفضل. هكذا يرتاح المهاجمون الانتحاريون إلى أنهم غير ذاهبين إلى الموت بل أنهم منتقلون إلى حياة في الجنة ملؤها الرفاه والنعيم.
مثلت المملكة العربية السعودية الحاضنة التي رعت تنظيم القاعدة في نشأته، وتمثل اليوم طليعة الأنظمة العربية المتصدية لنشاطه الإرهابي بعد أن بات تهديدًا للنظام فيها. على رغم الحرب المستعرة ضد القاعدة في المملكة، إلاّ أنّ التنظيم ما يزال يحظى بدعم شعبي واسع يعيده باحثون إلى جملة عوامل من بينها النظام التربوي وكيفية فهم الدين، والنظرة إلى سائر المذاهب، كما يربطه آخرون بسلوك العائلة المالكة وعلاقتها بالأميركيين. فالنظام السعودي الذي ساهم في صنع القاعدة في الثمانينات ضد الشيوعية، وجد نفسه في التسعينات أمام حوالي 45 ألف سعودي قدموا من أفغانستان يحملون ممارسة وفكرًا جديدين قياساً على التقاليد السعودية. هكذا انفجر تناقض بين نظرة بن لادن للواقع السعودي الذي رأى أنّ الأرض المقدسة في مكة والمدينة قد تدنّست وهي ترزح اليوم تحت نير احتلال مزدوج أميركي – إسرائيلي، مما يجعل السعودية أرض جهاد على غرار أراضي “الصليبيين”.
بخلاف المديح الذي ناله بن لادن سابقاً من القيادات السعودية، الدينية منها والسياسية، فإنّ حملة تشهير تصيبه اليوم على يد رجال الدين أنفسهم. فالإمام ابن باز يقول عنه:”إنّ أسامة بن لادن من المفسدين في الأرض، ويتحرّى طرق الشر الفاسدة”. ويقول عنه العلامة الفوزان وعن تنظيم القاعدة: “هم خوارج بلا شك، فعلهم هذا فعل الخوارج، بل هو أشد من فعل الخوارج”.
منذ بداية هذا القرن بدأت القاعدة تشكل هماً وقلقاً للبلدان الأوروبية التي تحوي جالية إسلامية تصل إلى حوالي 32 مليون مسلم. وازداد القلق بعد تفجيرات مدريد عام 2004 وتفجيرات لندن عام 2005 . وعلى غرار السعودية انتشر آلاف العرب الأفغان في البلدان الأوروبية مستفيدين من السياسات الليبرالية الخاصة بالهجرة واللجوء. أمّا بالنسبة إلى أهداف القاعدة واحتمالات مستقبلها، فهي تقوم على استراتيجية طويلة الأمد عمادها أيديولوجيا إسلامية متزمتة، وقوة أساسها انتشار المسلمين في العالم، ثم القدرة على استخدام شبكة الإنترنت. تقوم الإستراتيجيا العسكرية على اعتقاد بأنّ انهيار الولايات المتحدة الأميركية سيساعد على إسقاط الأنظمة العربية بما يسمح بإعادة الخلافة الإسلامية. وفي المجال السياسي – “الفكري”، تسعى القاعدة من خلال ضرب الأميركيين وحلفائهم إلى إثارة “صراع بين الحضارات”. أمّا في الاقتصاد فتسعى القاعدة إلى استنزاف العالم الغربي والأميركي خصوصاً عبر ضرب آبار النفط.
بصرف النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية لنشوء القاعدة، فإننا أمام تنظيم إرهابي وتكفيري يمارس العنف الأعمى، وليس له برنامج سوى القتل العشوائي الذي يطال المدنيين والأبرياء أكثر بكثير مما يطال قوات العدو. تطرح ممارسات القاعدة تحديات على المؤسسة الدينية الإسلامية. يصرّ بن لادن وأتباعه على أنّ ممارستهم تستند إلى النص القرآني في محاربة الكافرين والمشركين، ويدلل على ذلك باستحضار آيات التكفير والعنف التي نزلت في مرحلة تاريخية من نشر الدعوة الإسلامية. تصدى عدد واسع من علماء الدين لبن لادن مؤكدين على أنّ الإسلام يرفض الإرهاب والعنف، لكنّ أحدًا لم يجرؤ في مواجهة بن لادن على القول بأنّ آيات التكفير قد تجاوزها الزمن وهي ليست صالحة للاستخدام في الزمن الراهن. أي أنّ المؤسسة الدينية ما تزال تصر على أنّ النص الديني خصوصاً القرآن نص صالح لكل زمان ومكان، من دون التمييز بين آيات الأحكام التي تلحظ العنف، وبين الآيات ذات الأغلبية الساحقة في القرآن ذات البعد الروحي والإنساني والأخلاقي والمتضمنة ما يناقض الكثير من آيات الأحكام، وبالتالي ترفض أي قراءة تاريخية لهذا النص. لذلك تبدو حجة بن لادن أقوى في إصراره على توافق ممارسة القاعدة مع النص الديني.
منذ تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، يحتل بن لادن الموقع الأول في التأييد الجماهيري في العالم العربي خصوصاً وفي العالم الإسلامي عموماً. لم يسبق لزعامة عربية أن نالت الحظوة التي أعطيت لبن لادن، بما فيها شعبية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في أيام العز وصعود المشروع القومي العربي. كما لم يسبق للعالم العربي أن احتفى بالقتل العبثي الذي ينفذه تنظيم القاعدة خلال السنوات التي تلت تفجيرات الولايات المتحدة كما عبر عن الفرحة الكبيرة بعد التفجيرات، وهي مسألة تفتح على العقل العربي والمآل الذي انحدرت إليه السياسات والمشاريع النهضوية والتحديثية في المجتمعات العربية.
منتظر الزيدي: الحذاء رمز الكرامة العربية
في مؤتمر صحفي كان الرئيس الأميركي بوش يعقده في بغداد بتاريخ 14-12-2008، عمد الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي يعمل مراسلاً لقناة “البغدادية” إلى رمي الرئيس الأميركي بحذائه. بدا المشهد استثنائياً خصوصاً أنّ المؤتمر كانت تنقله وسائل الإعلام المحلية والعالمية ويبثّ في كل مكان من العالم، مما جعل رمي الحذاء مادة إخبارية دسمة، ومصدر تعليقات وتحليلات متنوعة ومتناقضة، بين مؤيد ومناهض للخطوة التي أقدم عليها الزيدي. ولا تزال هذه القضية مدار نقاش وتعليقات في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة في مجمل العالم العربي، تدبّج في شأنها المقالات وتكتب القصائد وتكاد المهرجانات تحيى احتفاء بالحدث “الجلل”، بحيث تحول الحذاء إلى قضية القضايا في الزمن الراهن. تستحق ردود الفعل التي حصلت والتي تستمر تباعاً في التعبير نقاشا حول دلالاتها ومعناها ربطاً بواقع العالم العربي والمستوى الذي وصل إليه هذا العقل العربي في طرح ومعالجة قضاياه.
من أجل وضع كل أمر في نصابه، لا بدّ أولا من تحيّة ذلك الصحفيّ الذي تجرّأ ورمى الرئيس الأميركي بحذائه، وهو رئيس يستحقّ أن يرمى بأكثر من حذاء. إلى هنا، الأمر مقبول، بل ومرحّب به. لكنّ ما تبع رمي الحذاء من فورة “قومية عربية” تمجد الحذاء بعدما نسيت صاحبه، وتعتبر أنّ الحذاء يشكل مرحلة جديدة في تاريخ النضال العربي ضد الاستعمار والامبريالية، لأمر يدعو إلى الاستهجان والهلع من مستوى العقل العربي وحدود الفكر السائد. من المعلوم أنّ العرب يعانون وطأة الهزائم التي أصابتهم، وكانت الولايات المتحدة الأميركية أحد عوامل الهزيمة، ومعلوم أيضاً هذا العجز العربي عن مواجهة الموجة الاستعمارية هذه والخروج بالوطن العربي من مستوى التخلف الذي يقيم فيه. كما أنه معلوم أنّ العرب “ينعمون” بانقساماتهم وتشتتهم بما يمنع عنهم مصادر القوة والفعل في مواجهة هذه المشكلات. لكن ما ليس مفهوماً أن يتحول “الحذاء” إلى عامل تعويض لهذا النقص، إذا ما استخدمنا تعابير التحليل النفسي، وأن يتحول هذا الحذاء إلى دافع سيكولوجي نتمكن بواسطته من اختراق المعضلات المستعصية التي تلف مجتمعاتنا العربية. فهل بات الحذاء سلاحاً جبارًا في معركة العرب والعروبة لاسترجاع حقوقهم؟ وهل تحول الحذاء إلى عنصر مقرر في الطريق إلى الحداثة والحضارة، حيث سنتمكن عبره من استعادة هيبتنا ومجدنا الغابر؟
إنّ ما يدعو إلى الذهول هو طبيعة الكتابات التي تتناسل من أصحاب فكر وعقائد ومفكرين، ممجدة الحذاء في وصفه العنصر الذي أعاد للعرب كرامتهم المهدورة ومجدهم الغابر، بعدما انتصر الحذاء على الامبريالية الأميركية. لا شك أنّ العقل العربي وصل إلى الدرك الأسفل من العقم والتجمّد والجهل، حتى يصدر ما يصدر من كتابات تكاد “تؤلّه” الحذاء، وبعد أن بات من المقدسات التي سيصبح ممنوعاً بعد اليوم استخدامه في الشتم والتجريح. فكما تسبب التخلف العربي في إدخال رموز مادية وإضفاء القداسة عليها، وتحوّل الحديث السلبي عنها إلى مس بمقدسات دينية، سيدخل الحذاء في سياق هذه المقدسات، وسيتحول رمزًا للمديح والتبجيل في حياتنا اليومية.
نشكو نحن العرب من النظرة الدونية التي يتعاطى فيها العالم الغربي مع قضايانا، عندما يتخذ موقفا عنصريا من الشعوب العربية، وهو موقف مستنكر بالطبع ويعبر عن خلافات سياسية وعقائدية مشروعة. ولكن مواجهتنا للغرب وللعالم المتقدم من خلال رمي الأحذية سلاحاً في مواجهة هذا الغرب ستسبب أكثر من استهجان وتزيد من العداء العنصري ضد العرب، وهو أمر لا يحق للعرب أن يفاجئوا به. يحتاج العرب إلى العلم والتكنولوجيا والتقدم الحضاري بمستوياته المتعددة، كما يحتاجون الى احتكاك بالحضارات الأخرى والتلاقح معها والإفادة من منجزاتها، والصراع في الوقت نفسه مع تلك النظرة الدونية التي يتم من خلالها التعاطي مع العرب وحضارتهم وتراثهم الفكري. لا يشكل رفع الحذاء سلاحاً في هذه المواجهة بمقدار ما يقدم دليلاً جديدًا على المستوى الفكري والعقلي المتجذر في جهله وتخلفه عن هذا العالم الغربي، وهي نظرة ظالمة جدًا لا يستحق العرب أن ينعتوا بها، لأنها لا تعبر عن الواقع الحقيقي لحال المجتمعات العربية التي تحمل كثيرًا من مظاهر الفعل والعمل لتجاوز واقعها المتخلف وتسعى نخب منها لتقديم صورة مغايرة عن التراجع العربي قياساً لما وصلت إليه المجتمعات المتقدمة.
من المحزن والمؤلم حقا أن يصل العجز العربي على جميع المستويات، ومنه الآن المستوى العقلي إلى تحويل الرمزيات القومية الأساسية في النضال ضد المشروع الصهيوني لاستعادة الحقوق في فلسطين، بحيث يطغى “الحذاء الرمز” على القضية الرمز. ومن المؤسف أيضاً أن لا يعود لدى العرب من وسائل تعبير في مقارعة الخصم والعدو سوى التهديد برمي الأحذية التي بات المروجون لها يعطونها مفعول القنبلة النووية التي سنسحق بواسطتها أعداءنا، فهل سيأتي يوم كما هو حاصل اليوم من فورة “حذائية” يصبح فيه هذا الحذاء من رموزنا الاستقلالية، وهل سنرى من يطالب بتخصيص كراسي في الجامعات للحذاء وأهميته عند العرب؟ وهل ستبدأ الأناشيد الوطنية بتمجيد الحذاء في وصفه رمز البطولة والنخوة العربية المفقودة بعدما أصاب العرب من “الخصاء” المتزامن وأورثهم عجزًا لا فكاك منه؟ وهل سنرى من يطالب بتغيير الأعلام والرايات أو تعديل الرموز التي تحويها ليدخل الحذاء رمزًا أساسياً فيها يكلل هاماتها ويؤشر إلى مجد شعوبها؟ كثير من الأسئلة المحرجة تتوارد إلى الذهن عندما تصفعنا صبيحة كل يوم تلك المقالات والقصائد الممجدة بالحذاء وفضائله وما تسبب من عزة وشموخ في عالم عربي سحقته إهانات الذل بعدما باتت الهزائم مشهدًا متكررًا في حياته.
منذ سنوات صرخ الكاتب السعودي عبد الله القصيمي صرخته المشهورة :”العرب ظاهرة صوتية”، وقامت الدنيا ضده ولم تقعد لأنّ إهانة وجهت إلى العقل العربي. لو كان القصيمي حياً اليوم لغيّر من شعاره وأطلق شعارًا يقول فيه إنّ العرب “ظاهرة حذائية”، وبالتأكيد لن يواجه هذه المرة بالاستنكار الذي ووجه به سابقاً، لأنّ ما أصاب العقل العربي من عقم بات يسمح بتقبّل كل الإهانات حول مستواه وحدود إدراكاته، على ما يشير المتنبي في قوله: “من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام”.
في قراءة موضوعية لحدث الحذاء، قدم الكاتب السوري ياسين الحاج صالح تحليلاً مطولاً لما حصل برمزياته ودلالاته، والخلفية التي يعبر عنها في مقال نشرته جريدة المستقبل البيروتية بتاريخ 27-9-2009 تحت عنوان “حول مسألة الزيدي وحذائه: اعتلال الروح العربية”، فيقول :”نتكلم على تفاعل شعبوي لأنه يبدو أننا بالفعل حيال موقف واسع الانتشار، العناصر الانفعالية والعاطفية فيه جلية لا تخفي نفسها، والمنحازون إليه هم من يجنحون عموماً إلى مواقف ولغة شعبوية ويفضلون منابر شعبوية، وإن توزعوا أيديولوجياً إلى قوميين عرب وإسلاميين وشيوعيين. وتصدر مختلف تنويعات هذا الموقف عن شعور مستحكم بالنقص وانعدام الثقة بالنفس، إلى درجة النفخ في حدث عابر ونادر واعتباره “مفصلاً تاريخياً” وتمجيد الحذاء وقاذفه، واعتبار أنّ “صلية الحذاء” تلك “تمسح سنوات عجافا”. التماس الكرامة من قذف، “سباط يرفع الرأس” وفقاً للافتة رفعها شيوعيون لبنانيون تضامناً مع “الرفيق” الزيدي، أدلّ على شعور بالانسحاق والبؤس وفقدان احترام الذات منه بالثقة بالنفس والتفكير والنشاط السوي. وبينما ليس هناك خطأ في القول أنّ التعليقات والكتابات العربية الممجدة لما قام به الصحفي العراقي تصدر عن شعور متأصل بالإهانة، سببته السياسات الأميركية طوال عقود، وفاقمته في سنوات إدارة بوش، إلاّ أنّ المبالغات المهولة في الاحتفال بالحدث، واعتباره استعادة للكرامة وسبباً للفخر، تنطوي على قدر كبير من الخرافة والهوان والتشوش وسوء فهم العالم، بل سوء الوجود فيه، إلى درجة ربما تكون مصدرًا لبعض أسوأ ما ينكب العرب فوق ما قد ينكبهم به أعداء وخصوم. بل إنّ عمق الشعور بالذل أعمى معلقين وكتاباً عن أنهم يهينون أنفسهم وقومهم حين يتكلمون عن “أشرف الأحذية” (عنوان قصيدة نشرت في موقع القوميين العرب في 18-12-2008)، وعلى الحذاء الذي “يرفع الرأس”، أو يبدلون الشعار الناصري “ارفع رأسك يا أخي”، بشعار “ارفع حذاءك يا أخي”. إنّ الجمع بين الحذاء والكرامة والعرب، وقد كانت الكلمات الثلاث هي الدوال المفاتيح في نصوص المحتفين وتعليقاتهم، إهانة بليغة للعرب، صدرت بكل غفلة أو بكل تشوش ممن يوقّعون بحماسة على عبارة من نوع: “فخورون بعروبتنا”. وإنما نتكلم على مرض روحي عميق لهذا السبب. فالقوم جادون في الافتخار، صادقون في شعورهم بالإهانة من الأميركيين وبالابتهاج لما جرى لكبيرهم، لكنهم ينزلقون بصورة نسقية نحو إعطاء صورة بائسة، تعيسة، مسكينة عن العرب. وهو ما يدل على عمق الهوة الفكرية والوجدانية التي تفصلنا عن حركية العالم وعملياته المادية والسياسية وآفاقه الثقافية والروحية، وعلى تخبطنا في مأزق نفسي وأخلاقي وسياسي وفكري عميق، يقودنا مرة تلو الأخرى إلى إيذاء أنفسنا وتشويه صورتنا، بينما نظن كل الظن أننا نعمل لخيرنا ولرفع شأننا”.
أبو مصعب الزرقاوي : متعة ذبح الأسرى
إنه أحمد فاضل الخلايلة، من منطقة الزرقاء في الأردن. يروى أنه كان أحد قادة معسكرات تدريب المسلحين في أفغانستان، وقاتل في صفوف حركة طالبان، وكان من ضمن المستفيدين من تمويل ودعم المخابرات المركزية الأميركية للمقاتلين ضد الجيش السوفياتي. ظل اسمه مجهولاً لفترة، ثم ظهر فجأة في العراق بوصفه أشهر إرهابي بعد أسامة بن لادن، ورصدت الجوائز المالية للمساعدة في اعتقاله. تقول معلومات عنه إنه أسس تنظيم “التوحيد والجهاد” في التسعينات من القرن الماضي، إلاّ أنّ تسميته الأخيرة قبل مقتله كانت زعيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”. قتل في غارة أميركية في العام 2006، وجرى الاحتفاء بهذا القتل خصوصاً في العالم الغربي. تفيد المعلومات أن بن لادن سبق ونصبه زعيماً للقاعدة في العراق، وهي معلومات ظلت مشكوكاً في صحتها، لكنّ المؤكد أنّ أحد قادة حزب البعث عزت الدوري، المتهم بقيادة فلول الحزب في المقاومة العراقية ضد الاحتلال، قد بايعه ومنحه كامل التأييد في عملياته العسكرية. نعته الحركات الأصولية واعتبرته أحد قادة الجهاد، وكانت حركة حماس الفلسطينية أكثر الحركات استنكارًا لمقتله. كما أنّ الرئيس الكوبي فيديل كاسترو استنكر مقتله ووصف هذا القتل بـ”العمل البربري”.
كان الزرقاوي يحمل الأفكار نفسها التي يحملها تنظيم القاعدة لجهة الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية في العراق. كان يرى أنّ الإسلام منهج وعقيدة لا تعترف بالحدود بين الدول الإسلامية القائمة حالياً، أو بين الجنسيات الإسلامية المتنوعة، بل كان يعتبر أنّ الأرض كلها لله وحده، مثلما أنّ الناس هم لله وحده، وهي أفكار تنطوي على دعوة لإحلال الإسلام في كل مكان، في وصفه دين الله الوحيد، لأنّ سائر الأديان موسومة بالكفر وفق مبادئ الزرقاوي، وذلك استنادًا إلى النص القرآني المشدد على “إنّ الدين عند الله الإسلام”.
لكن شهرة الزرقاوي في العراق لم تأت من حجم ونوعية العمليات العسكرية التي أصابت الجيش الأميركي بالأذى، بل كانت من تلك العمليات الانتحارية التي نفّذت ضدّ المجموعات الشيعية في العراق وأودت بالآلاف من الضحايا. تركّز الجهاد “الزرقاوي” في حلقته الرئيسية ضد الشيعة في العراق، بوصفهم حماة الاحتلال والساعين إلى السلطة ضد الطائفة السنية التي حكمت العراق طوال عقود سابقة. وكانت دعواته صريحة في توجيه الأهداف العسكرية والسياسية في إقامة الدولة الإسلامية من طائفة محددة وتصفية سائر الطوائف الأخرى. وقف الزرقاوي بشدة ضدّ الانتخابات النيابية في العراق، ورفض الدعوة إلى إحلال الديمقراطية، لأنّ ذلك من شأنه إعطاء موقع متميّز في السلطة للمجموعات العراقية الأخرى خصوصاً الشيعية منها.
لم تقتصر شهرة الزرقاوي على تأجيج الصراع السني- الشيعي في العراق من خلال تركيز عملياته الانتحارية على الأماكن والمساجد والمجمعات الشيعية، بل يسجل له ذلك “التفنن” في التعاطي مع المعتقلين الأجانب، واستخدام أحدث الوسائل التقنية والإعلامية في تصوير وبثّ الصور والأفلام حول تنفيذه عمليات ذبح المعتقلين لديه، على غرار ذبح النعاج، والافتخار بالقيام بهذه العمليات، وهي صور كان يبثها الإعلام العالمي، بكل ما تثيره من تقزّز في الشكل والمضمون. كما شكلت مادة خصبة للإعلام العالمي من خلال استغلالها واستخدامها في التحليلات السياسية حول الدين الإسلامي وإبراز ما يتسم به من عنف وإرهاب، استنادًا إلى منهج إحدى الحركات الرئيسة المعتنقة لهذا الدين والساعية إلى تطبيق برنامجه الفكري والسياسي، بحيث يحتل الإرهاب حلقة أساسية في معتقداته ووسائل حكمه.
الفرسان الثلاثة : حاجة أميركية
كان كل من بن لادن والزرقاوي من صنيعة الولايات المتحدة الأميركية ومخابراتها، ولعب الإثنان أدوارًا مهمة في تنفيذ خطة الولايات المتحدة وسياستها في سياق المواجهة مع العدو الشيوعيّ. من السذاجة بمكان القول بانتفاء حاجة القائدين الإرهابيين للخطة الأميركية بعد استنفاد الدور في أفغانستان، فقد كانت هذه الخطة تحتاج هذه المرة إلى مبررات لاستكمال زحفها نحو احتلال العراق وإعادة التمركز في الخليج العربي. شكك كتاب أميركيون في علاقة الولايات المتحدة بابن لادن ومسألة عجز المخابرات المركزية عن قتله بعدما أكدوا أنّ الفرص كانت متاحة أكثر من مرة. منذ التسعينات من القرن الماضي، كانت الخطط الأميركية توضع لتمدد أميركي مباشر في مناطق الشرق الأوسط، وكان العراق الهدف المركزي من الخطط المدروسة، وهو أمر لم تكن له أي صلة بهجمات أيلول (سبتمبر) التي أتت في أعوام لاحقة. منذ نهاية الحرب الباردة، كان الهم الأميركي التفتيش المتجدد عن عدو يبرر للسياسة الأميركية داخلياً التعبئة الأيديولوجية والإنفاق العسكري وإيجاد لحمة سياسية واجتماعية حول السلطة، وخارجياً عن مزيد من مناطق الهيمنة لتكريس منطق النظام العالمي الجديد الذي رسمت ملامحه الولايات المتحدة بقيادتها الأحادية والتحاق سائر المعسكر الغربي بها. أتت هجمات القاعدة في العام 2001 كفرصة ذهبية للإدارة الأميركية لتكريس هذا العدوّ، في وصفه الإرهاب العالمي، بما يعطي الولايات المتحدة كل المبررات لشن حروب وقائية ضد مناطق ودول ترى فيها هذه الإدارة مصدر خطر محتملا لاحقاً. من هنا جرى توجيه اتهامات إلى الرئيس الأميركي بوش في أنه ابتدع “أبطالا أسطوريين شريرين” من أمثال بن لادن والزرقاوي بهدف “تلميع صورته” في وصفه مكافحاً ضد الإرهاب، ومبررًا كل الأعمال البربرية التي تقوم بها قواته العسكرية، إضافة إلى الحجة الدائمة لتبرير غزو مناطق وبلدان أخرى أو التدخل في شؤونها الداخلية، وإبقاء المنطقة العربية في حال من الخوف الأصولي، بما يستوجب طلبات المعونة الأميركية المستمرة من قبل دول المنطقة.
الخطة الأميركية وصناعة الإرهاب في المنطقة
يجمع بين “الفرسان الثلاثة” أنهم نتاج الخطة الأميركية في المنطقة العربية، وأنهم تمثيل معاكس للأوهام التي زرعتها هذه الخطة حول المساعدة في نشر الديمقراطية في العالم العربي وإحلال حقوق الإنسان وتقويض الأنظمة الدكتاتورية. منذ أن باتت الولايات المتحدة الأميركية متحكمة بالنظام العالمي بعد زوال الحرب الباردة، ركزت استراتيجيتها على إعادة الهيمنة المباشرة على منطقة الشرق الأوسط، وعلى حماية منابع النفط فيه. وضعت الخطط اللازمة لذلك منذ التسعينات من القرن الماضي، ومنها احتلال العراق وتدمير دولته والهيمنة على ثرواته النفطية الغنية. لم يكن خافياً أنّ هذه الخطة تقوم على إعادة تفتيت الكيانات القائمة ومنع قيام دول عربية قوية، واستخدام الألغام الكيانية البنيوية القائمة على العصبيات والعرقيات، وإحيائها وإحلالها محل الدول المتكونة حديثاً في المنطقة. سعت الولايات المتحدة إلى زرع الفوضى الكيانية، ورأت في هذه السياسة “فوضى بناءة” يقوم على أساسها “نظام شرق أوسطي جديد” عماده إقامة الديمقراطية في العالم العربي.
كان الشعار الأميركي ولا يزال خادعاً ومضللاً، فالديمقراطية لا تقوم عبر الاحتلال العسكري وإسقاط النظام بالقوة، ولا تنبت وسط غابة العصبيات الطوائفية المتصارعة على السلطة مستخدمة هذه المرة أبشع ما تملكه من عداوات ومن استعداد للثأر من الهيمنة في الماضي والحاضر، واستحضار رموز الخلافات المذهبية والطائفية الموروثة منذ القرون الأولى لقيام الدعوة الإسلامية. فالديمقراطية تقوم في الأصل على حراك القوى الاجتماعية وعلى تطورها، وانتشار الثقافة المكونة لها. لذا لم يكن غريباً أن تبدأ هذه الخطة في العراق، على سبيل المثال، بتدمير بنية الدولة القائمة من خلال حل الجيش العراقي واستبداله بزعماء العشائر والطوائف، ثم إحلال قوى طائفية مكان أخرى، وممارسة عمليات ثأر وانتقام، واستحضار كل الرمزيات التي تساعد على تأجيج الصراعات الطائفية. كانت السياسة الأميركية النموذج المطلوب لنشر الفوضى في المنطقة، والأرض الخصبة لولادة القوى المتطرفة، وهذه المرة من بين جميع القوى المتصارعة، سياسياً وإثنياً وطائفياً.. وإذا كانت الخطة الأميركية تبدو في الظاهر قد فشلت في تحقيق الأهداف التي قالت بها، وأنها غرقت في رمال المنطقة على غرار ما أصابها في فيتنام، وهو أمر صحيح، إلاّ أنّ الهدف الجوهري الذي سعت إليه هذه الخطة قد تحقق بالفعل، وهو المتعلق بتدمير الكيانات وتحويلها إلى دويلات متقاتلة، بما يمنع استعادة قواها. وهي أهداف تتيح للولايات المتحدة البقاء العسكري في المنطقة والسيطرة المباشرة على الموارد النفطية، إضافة إلى حاجة دول المنطقة وطلبها من الولايات المتحدة البقاء لحماتها من بعضها البعض، أو من دول إقليمية أخرى. مما يعني أنّ ما كانت ترغب به الإسترتيجية الأميركية الموضوعة منذ التسعينات من القرن الماضي قد تحقق، وأنّ نجاحاً أحرزته الخطة في إعادة هيكلة المنطقة وفق الاتجاهات السياسية التي تريد.
بؤس اليسار والليبرالية
منذ انتهاء الحرب الباردة نهاية الثمانينات من القرن الماضي، انتشر خطاب بين النخب العربية، خصوصا من التي كانت تعتنق اليسار وتمارس العمل السياسي في أحزابه، يتبنى الخطاب الأميركي “الرسولي” القائل بوجوب إقامة الديمقراطية نظاماً سياسياً في العالم العربي، والتزام حقوق الإنسان ووضعها موضع التطبيق. رفعت الإدارة الأميركية هذا الخطاب في وصفه النتيجة المنطقية لانهيار المعسكر الشيوعي وانتصار النظام السياسي الذي تحمله الولايات المتحدة الأميركية المستند إلى الديمقراطية. تجدد الخطاب الأميركي بعد هجمات أيلول (سبتمبر) عام 2001 واكتسى زخماً أيديولوجياً مقترناً باستخدام الهراوة المسلحة لتغيير الأنظمة “المارقة”، وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية وإقامة الديمقراطية بديلاً لها.
أثار انتقال نخب يسارية إلى اعتناق الخطاب الأميركي الكثير من الدهشة، فمعظم هذه النخب كانت تلتزم خطاباً لا يقبل بذكر الأميركي إلاّ مقروناً بتدبيج الأوصاف العدائية والشتائم له، فإذا بالأميركي يتحول منقذًا، بل وحاملاً للقيم التي كانت تدعو إليها المبادئ الاشتراكية في العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية. لم يترافق الانتقال الأيديولوجي لهذه النخب مع النقد الذاتي للتجربة الحزبية وللهوية الفكرية، بما يسمح بجعل هذا الانتقال مغطى نظرياً وعملياً، بل كان أشبه “بخلع طربوش وإحلال طربوش آخر”، وكأنّ شيئاً لم يكن. والأسوأ من ذلك هو التهليل من هذه النخب لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، والتوهم فعلاً أنّ هذا الاحتلال سيرسخ الحكم الديمقراطي هناك.
في المقلب الآخر، اندفع دعاة الفكر الليبرالي إلى التبشير والتهليل للأميركي الآتي بجيوشه ليزيل حكم الطغاة من العالم العربي، وليكرس حقوق الإنسان والمواطن. بخلاف النخب اليسارية التي ظلت تحمل بعض الخجل من الالتزام بالخطة الأميركية وسياستها، فإنّ “المفكرين الليبراليين الجدد” استماتوا في الدفاع عن السياسات الأميركية، وقارعوا كل من حاول نقده أو الوقوف في وجهها، واعتبروا أنّ معارضة هذه السياسة إنما تصب في تأييد الأنظمة الديكتاتورية القائمة في العالم العربي.
ينطلق الموقفان اليساري والليبرالي في تبني السياسات الأميركية من واقع الإحباط واليأس من إمكان التغيير للأنظمة التسلطية الحاكمة عبر الوسائل الديمقراطية والشرعية، ومن خلال القوى السياسية والاجتماعية. فالأنظمة الديكتاتورية في عالمنا العربي نجحت في تدمير قوى المعارضة، وحطمت، عبر سياسة الإبادة والقمع التي مارستها، إمكان تكوّن قوى يمكن لها أن تشكل قاعدة للتغيير السياسي. قد يفسر هذا الواقع إلى حد ما، ذلك الاندفاع في التعلق “بخشبة الخلاص” الأميركية، والإعتماد على منطق الخيار بين “السيّئ والأسوأ”. لكن هذه النخب لم تكن تدري أنها في مواقفها وتأييدها للسياسة الأميركية خصوصاً العسكرية منها، كانت كمن “يلحس المبرد”، وهو أمر تقدم فيه المشاهد العراقية أبلغ الدلالة على زيف الخطاب الأميركي، وعلى خطته الإنقاذية التي لا تقدم يومياً سوى تغذية الحروب الأهلية، وإغراق الشعوب في حمامات دم، وفي إمعان متزايد في تدمير بنى الدولة في كل مكان وإحلال العصبيات العشائرية والطائفية والإثنية مكانها، بكل ما تحمله هذه العصبيات من تأهب دائم للانخراط في نزاعات أهلية.
لن يكون الفرسان الذين جرى التطرق إليهم نهاية النتاجات العربية، فالواقع العربي قابل لأن يفرز يومياً أصنافاً أخرى من “المنقذين” الملتزمين برنامجاً تدميرياً، وسائرًا بالمجتمعات العربية وشعوبها إلى أبعد حدود التخلف والجهل، وإزالة كل مقومات قشرة الحداثة والتحديث الهشة التي تقوم في هذه المجتمعات. سيظل هؤلاء الفرسان وغيرهم من الذين تفرزهم مجتمعاتنا، ينعمون بالمجد والصعود، طالما أنّ هذه المجتمعات تبدو حتى الآن عاجزة عن تقديم البدائل في مواجهة السياسة الاستعمارية، والتصدي للخطة الأميركية، وتغيير الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة من خلال القوى السياسية المحلية وليس عبر الاستنجاد بالخارج الأميركي أو غيره من القوى الطامحة للهيمنة على الثروات والسياسات العربية.

مراجع:
– كارل ماركس : الثامن عشر من برومير لويس بونابرت. دار التقدم، موسكو، 1976.
– عبد الباري عطوان: القاعدة، التنظيم السري. دار الساقي، بيروت، 2007.
– موسوعة ويكيبيديا.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى