ما يحدث في لبنان

صورة من الخارج لمؤتمر الداخل في الدوحة: ليست عودة إلى جنيف ـ لوزان ـ الطائف، ولكن

null

طلال سلمان

عبثاً حاولت التحرر، لحظة، من مقارنة تفرض نفسها بين ما يجري هنا في الدوحة، وبين «ذكريات» ما عشناه أثناء سعينا لتغطية «مؤتمرات المصالحة الوطنية في لبنان» التي انعقدت خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة في كل من جنيف (خريف 1983) ولوزان (ربيع 1984) ثم الطائف (خريف 1989).

قال سعد الحريري بشيء من الكمد الممتزج بالحنق: ها قد عدنا إلى نقطة البداية. نكاد نكون في مؤتمر جنيف، يظللنا هذه المرة شبح مارد الأصولية السنية الذي أطلقوه من قمقمه!

لكن «شهود الحال» رأوا أن هذا المؤتمر مختلف تماماً في الشكل والمضمون، باختلاف المرحلة التي نتجرع مراراتها، عما قبل، وإن كانوا قد انتهوا إلى خلاصة مفادها: أن «الحروب اللبنانية» لا تكاد تخمد نيرانها حتى تجد من يشعلها مجدداً… ولقد صارت مؤتمرات المصالحة الوطنية أشبه بتقليد دوري من تقاليد الحياة السياسية في تلك الجنة المهددة دائماً في ما يتجاوز أمنها إلى روابط «العيش المشترك» بين أبنائها!

تبدلت الوجوه كثيراً، لكن موضوعات البحث ظلت في جوهرها واحدة تتصل بطبيعة النظام السياسي وآليات الحكم وقواعد الشراكة بين فرقاء «اللعبة السياسية» التي تدور فيه، والتي تأخذها التطورات الهائلة التي تشهدها منطقتنا، صعوداً في النادر، وهبوطاً في معظم الحالات، إلى إعادة صياغة التحالفات ومن ثم التوازنات السياسية العامة ومن ثم التوازنات «الداخلية» التي تعكس بالضرورة ما يطرأ على المسرح الكبير، أمامنا وخلفنا وفوقنا من تحولات

[ [ [

في جنيف كانت القضية هوية لبنان، بالدرجة الأولى.

فبعد الاجتياح الإسرائيلي، صيف عام ,1982 وإعادة صياغة النظام تحت تأثير مفاعيله المباشرة، وأخطرها اتفاق 17 أيار ,1983 كان لا بد ـ بداية ـ من تأكيد الهوية العربية لهذا الشعب الذي فرض عليه أن «يشتري» هويته بدمه، غير مرة، بينما العديد من حكام دول لا وجود لها في التاريخ بغير هويتها العربية كانوا لا يهتمون لأمر الهوية… لا سيما في لبنان.

أما في لوزان فقد كانت إعادة صياغة النظام السياسي هي القضية… ولا سيما أن التجارب كانت قد أظهرت بشكل قاطع أن رئيس الجمهورية لا يجوز أن يكون حاكماً مطلقاً ثابتاً في واقع متغير، وأنه لا بد من تعديل جذري لصلاحياته بحيث لا يظل يملك ويحكم بلا قيود أو محاسبة أو رقيب.

ولقد احتاج الأمر مزيداً من الحروب الأهلية واقتتال الأخوة ـ على الضفتين ـ ولخمس سنوات طويلة، حتى أمكن الوصول إلى الطائف الذي انعقد برعاية عربية مكثفة (السعودية والمغرب والجزائر) بغير اعتراض سوري، معلن، ورعاية دولية ـ أميركية أساساً ـ كانت أثقل وطأة وتأثيراً من أن تحتاج إلى إعلان

جاء اتفاق الطائف، الذي لا يمكن ذكره إلا وطيف رفيق الحريري يطل عبره ومعه، وكأنه نقطة الختام للجدل المفتوح، ربما منذ الاستقلال، حول النظام ومواقع «الشركاء» فيه: تمّ الاعتراف بالكل، وأساساً بمن كانوا مهمشين ومستبعدين… وأعيد النظر في «الأحجام» و«الأدوار» في ضوء الأمر الواقع واستناداً إلى قوة «الأرض».

ثم كان ما كان من إعادة صياغة هذا الاتفاق بعد اجتياح صدام حسين الكويت و«تلزيم» النظام السوري الإشراف على تطبيق ذلك النظام، بموافقة دولية شاملة ومفتوحة وإن ظل عنوانها أميركياً، بامتياز.

[ [ [

ماذا في الدوحة؟

المظلة عالية جداً، لكنها اخترقت الأجواء القاتمة المشحونة برائحة البارود، وهبط منها الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، رئيس مجلس الوزراء ـ وزير الخارجية في قطر، كجلمود صخر حطه السيل من علٍ… فأحدث هبوطه على «مسرح المعركة» هزة لها ارتجاجاتها وتداعياتها، إذ افترض الجميع أنه إنما يقتحم بؤرة التوتر بتفويض عربي ودولي شامل وغير قابل للنقض. بل إنه صارح الجميع وبلا مواربة ومنذ اللحظة الأولى: لسنا وحدنا، ولا يحاول أحد أن يمتحن صدقيتنا، إننا نتحرك بتفويض أميركي ـ سوري ـ سعودي ـ إيراني مفتوح

وكما في بيروت، كذلك في الدوحة: يذهب مباشرة إلى هدفه، يجامل ولا يتراجع، يظهر الود ولكن من قلب الإصرار على النجاح… يقتحم الحساسيات جميعاً مستفيداً من كل ما يراه غيره معضلات: كان يدرك خطورة انفجار المذهبيات وتصادمها، بشهادة الأيام السوداء التي عاشتها بيروت، فضلاً عن الليل الطويل الذي يغرق فيه العراق بدمه كنتيجة للاحتلال الأميركي. وكان يستند إلى ما سلّم به الجميع: صحيح أن قطر دولة صغيرة لكن الجميع، و«الكبار» خاصة، سلّموا بتعاظم دورها السياسي والإعلامي وحتى الثقافي في غياب من كانوا «كباراً» وعجز «الورثة» الذين تقدموا ثم أحجموا عن المغامرة، إلا في حدود ضيقة. لقد اختفى من كانوا يملكون شرعية القرار، تاريخياً، باسم العرب. وهذه فرصة نادرة وجدت من يلتقطها في قطر ويبني بها دوراً يكاد لا يستغنى عنه.

كان «الأمير» يدرك، ومثله يدرك حمد بن جاسم، معتمده المفوض، أن المساحة في لبنان قد ضاقت على «الكبار»، وأن حجم دولته، في هذه اللحظة، ميزة، يعززها انتفاء الغرض المباشر… و«ضيوفهم اللبنانيون» فيها موضع رعاية الجميع، من ظهر منهم ومن خفي، وهم أعظم!

فبقوة التفويض المفترض «هبط» على بيروت، وجال على القيادات يناقشها ويسمع منها، حتى إذا ما تأكد من «الإمكان» استدعى الطائرات وحمل الجميع بأثقال خلافاتهم والأحقاد والمخاصمات ومشاعر الغل والبغضاء والشعور العميق بالجرح. وكانت الطائرات، مجتمعة، أشبه بسفينة نوح.

أما الوزراء العرب الذين رافقوا حمد بن جاسم إلى بيروت ثم عادوا مع القيادات اللبنانية إلى الدوحة، فكانوا سعداء بأن هذا «الإنجاز» يتم برعاية عربية تظللها راية الجامعة ممثلة بعمرو موسى الذي كاد أن يصبح «لبنانياً» لشدة تمرسه بالوساطة، ومن هذه «اللبنانية» جاءته الاتهامات بالانحياز. وربما لتجنب هذا المحظور، «اختطف» حمد بن جاسم الجميع وجاء بهم إلى الدوحة.

تعبيراً عن حيوية الدور القطري، فإن وصول سفينة نوح إلى الدوحة ليلاً لم يمنع «الأمير» من المجيء للترحيب بضيوفه الأخوة ـ الأعداء، وليفتتح جلسة تلاق عن بُعد، وبلا مصافحة بينهم، وبكلمة مختصرة جداً، تم رفع الجلسة لكي يرتاح المتعبون المتعبين!

.. وطال ليل المشاورات في محاولة لتكون الجلسة الصباحية الأولى «عادية» تغيب عنها التوترات لينفتح باب الكلام… صريحاً، إلى حد القسوة، ولكن هدفه «الحل»… وهو بأساسياته معروف بل ومعلن!

[ [ [

لطالما شهد فندق شيراتون محادثات ولقاءات وصفقات، مصالحات وتسويات، منذ أن بُني عام 1982 فصار بين معالم الدوحة ونقطة ارتكاز لتحديد الوجهة. بعده أنشئت فنادق كثيرة. بعضها أعظم فخامة، وبعضها أكثر أناقة. لكنه ظل «المركز».

لم يعد الفندق أعلى عمارة في الدوحة. صار بناءً ضخماً وشديد الاتساع ومتواضع الفخامة وسط غابة الأبراج التي باتت من مميزات أقطار الخليج.

صارت الأبراج إعلاناً مدوياً بالإسمنت والحديد والزجاج عن الثراء الذي لا تحصيه الأرقام المألوفة بعد تدفقات فوائض النفط الذي يذهب إلى البعيد ويأتي بالبعيد البعيد إلى الأرض المذهبة بالأسود!

على أن انعقاد «مؤتمر المصالحة الوطنية» في لبنان في هذا الفندق الذي يعد في الدوحة «تاريخياً»، أمر له نكهة مختلفة عن كل ما سبقه من مؤتمرات.

لكأنه اجتماع لكل «العالم»!

لكأن هذه الدولة الصغيرة، قطر، في احتضانها حروب الدولة العربية الصغيرة الأخرى، لبنان، تستقبل العالم أجمع، بأطرافه المختلفة ومصالحه المتشابكة: فقطر نتوء داخل البحر بل الخليج العربي، وإن ظل على اتصاله بشبه الجزيرة العربية، وفوق معظم مساحتها الهائلة تقوم المملكة العربية السعودية، وعند «العيديد» التي كانت موضع خلاف بلغ حد الحرب، قبل بضع سنوات، تتقاطع الحدود مع دولة الإمارات العربية المتحدة (وصارت القاعدة الأميركية الكبرى هي الحد الجامع الآن…)، وعلى بُعد بضعة أميال تقع إيران الثورة الإسلامية، وعند الطرف المواجه سلطنة عُمان التي تحرص على النأي بهدوئها عن صراعات الأخوة العرب، وخصوصاً عن احتمالات التصادم مع الجار الإيراني وهي الشريك الأكبر، أو مع «الصديق الأميركي» ومن الأفضل مراعاته حتى لا يغضب!

وقطر، كمعظم أقطار الخليج، تحاول أن تزيد من مساحة أرضها بردم البحر… وهذا الفندق، وغيره كثير من العمارات الآن، يقوم فوق «الدفنة» أي ما ردم أو دفن من البحر لتوسيع… الدولة، التي باتت تستقطب العالم كله، حتى إسرائيل التي لها مكان هنا.

[ [ [

نعود إلى المؤتمر وإلى الفصول الفولكلورية التي تعاقبت مشاهدها على مسرح الشيراتون، في الغرف المغلقة طبعاً، لكن «التسريب» ظل هو السيد: قبل أن يتم التوافق على اقتراح يكون هذا البعض أو ذاك ـ بحسب الهوى أو الغرض ـ قد سرّبه فشاع، وما شاع يصير سراباً، ويكون عليك أن «تنفي» أو «توضح» ثم أن تبدأ من جديد.

الجراح عميقة… والكل مثقل بأوجاعها: ما هو «قديم» منها ينز دماً وقيحاً منذ عامين إلا قليلاً، وما هو جديد مفجع يتوزع ألمه على الجميع، وإن ظل من يتحدث باسم بيروت يرفعه راية ثم يرفع صوته منذراً بالمارد الأصولي الذي سينفجر بالجميع وسيجعلها حرباً مفتوحة حتى يوم القيامة!

لا جدال حول موضوع الرئاسة الأولى، لكن لا طي لصفحتها إلا بعد تثبيت التفاهم على حكومة الشراكة الوطنية، ولا حكومة إلا بعد التفاهم على قانون الانتخاب. والاتفاق على القانون واقع، من حيث المبدأ، لكن الشيطان الذي يكمن في التفاصيل، وهي هنا الدوائر الانتخابية وتقسيماتها، يطل برأسه بين الحين والآخر فيعطل النقاش… ومتى تعطل يكون على الجميع أن يعود إلى نقطة الصفر، لكن العودة تحفل بكلمات حادة، والكلمات تنذر بأن تتحول إلى مواقف، والمواقف سرعان ما تنقلب إلى تهديدات، والتهديدات تنسف مشروع التوافق، ويكون على «البلدوز» حمد بن جاسم أن يظهر غضبه، وأن يستخدم لهجة الإنذار

وتحين لحظة الأمير فيستدعي من هو جاهز للمساعدة، فإذا وليد جنبلاط أول من يبادر… وإذا محمد الصفدي يطرح أفكاراً جديدة. وإذا ميشال المر يعود لطمأنة ميشال عون. وإذا جماعة «القوات اللبنانية» يستفزون جنبلاط فيكاد يتصدع التحالف في الجبل. وإذا «حزب الله» يقاتل لحفظ حلفائه في مناطقهم، وإذا نبيه بري المضطر لحماية دور المرجعية يتبرع بدور الوسيط بين من لم يكن يقبله رئيساً لمجلس النواب. وإذا الكل متبرم… وإذا برج بابل مفتوح على مصراعيه!

لكن «الخبراء» يقولون بلسان «الحكيم» غسان تويني الذي كان يتدخل في اللحظات الفاصلة باستعادة شيء من تجاربه وذكرياته: أنه لا مصلحة لأي طرف في أن يظهر بمظهر من عطّل إمكان الوصول إلى تسوية

والتسوية كلمة سحرية تموّه الانتصار، وليس ثمة من يرى نفسه منتصراً، وتداري جراح من يرى نفسه في موقع الخاسر، وليس ثمة من خاسر، بالنتيجة، إلا لبنان، وإلا شعبه المفقر إلى حد العوز.

وتلك التظاهرة من «المعاقين» ضحايا الانفجارات واستخدام العنف، الذين ودعوا القيادات التي جاءت من مطار رفيق الحريري في بيروت بالطائرات الأميرية إلى الدوحة، تطارد المشاركين في مؤتمر المصالحة الوطنية الذي تنتظر خاتمته مع جماهير اللبنانيين المشوقين إلى السلام، سلام مع أنفسهم، وسلام مع أهلهم، وسلام مع حقهم الطبيعي في حياة آمنة، وفي نظام سياسي لا تقتلهم اختلالاته كل عشر سنوات مرة بسبب هشاشته التي كثيراً ما افترضوها مصدر قوته.

والكل ينام هذه الليلة على أمل أن يصحو صباحاً فإذا طيف السلام يلوح في الأفق الممتد بين الدوحة وبيروت.

قولوا: إن شاء الله!

السفير


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى