صفحات العالم

من يعترض علي مشروع استعمار العراق مجددا..

null

مطاع صفدي

هذا التحالف العربي الرسمي مع الأمريكي إلي أي حد يمكنه المتابعة في قلب حقائق الأمور، وبدهيات الفهم السياسي المتعلقة بأخطر قضايا الأمن القومي. فالجدل المحتدم أخيراً حول الاحتلال الأمريكي للعراق صار يتجرأ البعض علي توجيهه نحو اعتبارات الضرورة في البقاء والاستمرار وليس في الجلاء والزوال ـ ومن هنا فإن الحق في رفض حاسم لاتفاقية شرعنة الغزو المستديم لوطن الرافدين، يصير موضوعاً مختَلفاً عليه. فقد تتناقض مواقف أحزاب ما يسمي بالعملية السياسية، في مواقفها الملتبسة داخل العراق.

لكنه ذلك التناقض المسطح داخل النوع الواحد. فليس بينها ذلك الخلاف حول مبدأ الاتفاقية، الذي هو شرعنة الغزو وتحويله إلي ما يشبه الوضع الطبيعي والقانوني الدائم لأجنبي متملك من دولة الآخر ووطنه وسيادته. أحزاب العملية السياسية اعتادوا ألا يضيرهم كونهم المسؤولين تاريخياً وإنسانياً عن تسويغ الاحتلال ومنحه الرداء المدني المحلي الذي يستر عوراته. فهم ارتضوا لأنفسهم أصلاً ألا يدخل زعماؤهم أرض الوطن إلا وهم محمّلون علي دبابات العدوان. وأن يكونوا شركاءه المتطوعين في كل عمليات التدمير الممنهج لحضارة العراق، بدءاً من تقويض الدولة وتسريح أعرق وأقدم جيش عربي عرفته نهضة الاستقلال القومي المعاصرة، ومعه يتم استئصال خيرة الضباط وأجيال من علماء الجامعات وخبراء الحداثة والتنمية الوطنية. ثم يحدث التهديم الأعمق لبنية المجتمع وتمزيقه بسكاكين الفتن المذهبية والعنصرية.

فلم يكن لمثل هذه الأحزاب ثمة قواعد شعبية إلا علي أساس الغزو الفئوي، وجعل الملل والنحل تمسك بمفاتيح اللعبة الاجتماعية، وتحط من مستوي محركاتها المدنية إلي شبكيات الاقتتالات البهيمية.

هذه (الأحزاب) مثلما احتاجت للغازي الأجنبي كيما تغزو معه بلادها وشعبها، ومثلما احتاجت إلي حروب التقسيمات الأهلية والجغرافية كيما تقيم لها رعايا ودويلات، فهي تعظم من حاجتها الوجودية إلي استمرار الغازي الأجنبي الحامي لها ولمشروعها التقسيمي. وتلك هي حالها الراهنة المنشطرة بين معرفتها الأكيدة أن الوطنية العراقية تعود إلي سابق غلبتها علي كل عوامل التفرقة الأخري، وأنها بالتالي لن ترضي المسّ بسيادة وطنها إلي الأبد، وبين ولاء زعمائها لزعيمهم الأمريكي الأكبر. فهو مزمع علي الإقامة المتواصلة فوق هذه الأرض الطيبة التي لا تزال تقتل جنوده وتطارد زبانيته، وتحبط مشاريعه في تأصيل التفرقة، وتبديد الثروة الوطنية، والإمعان في تعطيل مسيرة البلد نحو استعادة حريته وحضارته.

قد تتشبث البوشية الآفلة من البيت الأبيض قريباً بهذه الثمرة العجفاء الأخيرة التي تسميها معاهدة سلام وتعاون مع ذلك البلد العظيم الذي كابد منها الذروة من فحش البربرية المطلقة في هذا العصر. فقد أثبت الأمريكي، علي الطريقة البوشية، أنه أسوأ مستعمر استراتيجي فاشل، أتقن أعلي فنون تدميره لذاته وهو يعتقد أنه يدمر (الآخر)، من أجل بقائه هو منفرداً بسيطرته علي العالم. غزو العراق ليس سوي قمة الحلم الإمبراطوري، التي ليس بعدها سوي السفح والانهيار إلي الهاوية. ومع ذلك تريد البوشية أن تورث الرئاسة القادمة تلك المعاهدة المسمومة، علي أنها سند تمليك، يطوّب العراق ونفطه الأبدي لصالح المستهلك الأمريكي الشرس وشركاته الكبري الجشعة، وعطشه الدائمً لمزيد من الذهب الأسود الحارق. أصحاب (العملية السياسية) الاحتلالية يبيعون استقلال العراق ومستقبله، يقدمون لسيدهم الراحل من البيت الأبيض ما يعتقدون، وهو معهم، أنه الهدية الأثمن والتعويض السخي عن خسائر الغزو، من الرجال والأموال الفلكية، والسمعة الضائعة للاسم الأمريكي في الأوساط العالمية. فالاتفاقية المشؤومة لن تخرج عن أهدافها الأصلية، مهما حاول أعوان (المالكي) وخبراء الاحتلال التلاعب في صياغة بنودها. ليست هي البنود المرفوضة وحدها، لكنه هو المبدأ القانوني والسياسي الذي يؤسس الاتفاقية كصفقة تعقد بين الغازي الأجنبي وأعوانه المحليين، من وراء ظهر الشعب العراقي وأمته العربية. وفي هذا الزمن الأسوأ في سلالته الرديئة، حيثما يمسي مجمل النظام العربي الحاكم في أدني حالاته من العجز المتفاقم والتبعية العلنية والآلية للأجنبي. فالشعوب العربية متروكة لمصائرها المجهولة، فاقدة لأية حمايات كانت تعقدها علي كياناتها الدستورية المدعوة بالدول المستقلة ذات السيادة. وإذا كان العراق اليوم بلا دولة حرة، وشعبه مشلول الإرادة غارق في مخططات الفتن الأهلوية من كل نوع. ومع ذلك فإنه لا يكف عن ابتكار أشكال مقاومته العنيدة الشجاعة، فقد اعتاد منذ بداية محنته مع الغزو ألا ينتظر أية بادرة تضامن من قبل الأنظمة (الشقيقة)، فهي التي وعلي العكس تماماً، فقد شارك أغناها وأقدرها في إنتاج قرار العدوان الأمريكي، وفي فتح أوطانهم وقواعدهم كنقاط انطلاق وعبور لجحافله الزاحفة. وفي الانقضاض علي عرين أسود الحرية والحضارة التليدة لما بين النهرين. ساهم المال النفطوي والسلاح المخزون في مستودعاته الصحراوية، والمباع من مصادره الأمريكية نفسها في تمويل الغزو وتسليحه، ومن ثم في المتاجرة والسمسرة لوجستياً وغذائياً لإطعام مئات ألوف المهاجمين الذين يصيرون إلي مستقرين، وأشباه مواطنين آخرين من نوع مختلف، مقيمين إلي أجل غير مسمي. فإن هذه الدول (العربية) المشاركة والمساندة للعدوان، هي التي أتت به، وهي التي تريده عدواناً بل استعماراً متمادياً، ومعترفاً به دولياً. ولعلّها ستكون أول المعترفين به.

كانت حجة هؤلاء في البداية هي التخلص من نظام صدام حسين. وها هي تلقي الحجة الجديدة مع الانعطافة الحديثة نحو اتفاقية الشرعنة الاستعمارية في التحوط ضد (البعبع) الإيراني. فما لم يكن في حسبان استراتيجية العدوان وأعوانه المحليين من عرب الأنظمة (المعتدلة) ـ حتي قبل أن تمنحها كوندوليزا شرف هذ المصطلح ـ لم يكن يخطر في بال كل هؤلاء أن يشتغلوا لحساب إيران دون أن يدروا بالطبع. أن يكونوا الآلة الجهنمية التي تدمر السد (العربي) الذي كان يحجز وراءه المخزون التاريخي الإيراني الهائل.

كيف يحاول عقل الاحتلال تدبر هذا الواقع. حيثما يكاد الوجود الأمريكي يتحول إلي مجرد قشرة سطحية يغطي تحته مدّاً شعبوياً آخر مضاداً.

يحمل كل علامات الخمينية المصدَّرة إلي ما وراء حدودها: ههنا تتقدم اللعبة المذهبية لكي تحتوي كل تناقضات المأزق الأمريكي العاجز عن إحكام السيطرة وتجذيرها في عضوية الكيان السياسي الجديد للعراق. ولن يكون العراق وحده هو ساحة هذه المذهبية، وإن تفوق في تفجيرها ومسرحتها الدموية الرهيبة؛ فإن شق الإسلام إلي مذهبيْه التاريخيين سوف يتكفل في تغيير جهة الاستقطاب عن الهدف الاستعماري الداهم للعراق وكل الوطن العربي ـ تحت تسمية المشروع الشرق أوسطي ـ ويقلبه إلي انشطار أفقي عضوي داخل الجماهير العربية الأوسع بين الإسلاميْن السني والشيعي. إنها المناورة الاستراتيجية الأبرع التي حاولت أمريكا الإمبراطورية أن تنتقم عبرها من خيبات التأصيل لمشروعها الشرق أوسطي ذاك، بدءاً من امتلاكها للعراق كقاعدة مركزية له، وذلك في سعيها إلي التعويض عنه بتأسيس الشقاق المذهبي كمصدر عضوي ذاتي، مفجّر للفوضي المدمرة في طول الجسد الإسلامي وعرضه. وفي هذا السياق عينه يمكن توظيف إيران في دور الصاعق الأمني حوله، وجعله يمارس، عن إرادة أو بدونها، وظيفة العدو الإقليمي الأول، الناشر للرعب المذهبي ملء الفضاء الإسلامي السني الأكبر المحيط به مشرقاً من العمق الآسيوي، وغرباً حتي أبعد سواحل البحيرة المتوسطية، وإلي الخضم الأطلسي. هكذا يتم حصار المجتمعات العربية من داخل حدودها الذاتية، ما بين فكيّ المذهبية الثنائية من جهة، والسلفيات المستنبتة علي كل من أطراف قطبيها (السني والشيعي)، والمزايدة علي بعضها، من جهة أخري.

وما تفعله أنظمة (الاعتدال) الحاكمة هو متابعة الانسياق الأعمي في منطق هذه المناورة الأمريكية التي ترقي إلي أعلي أصول التقنيات اللئيمة العاملة علي تهجين نضالات الشعوب المستعبدة، مهما تحررت ظواهرها، وجعلها تعمي عن أهدافها الكلية الموحدة لمكوناتها، فتنقلب علي ذاتها وتتناهش من لحمها وعظمها.

فبدلاً من أن تقف هذه الأنظمة جميعها، الموصوفة بالاعتدال مع الموصوفة بالممانعة أو الحيادية، إلي جانب الشعب العراقي في غالبيته الساحقة الرافض لتحويل الاحتلال إلي انتداب استعماري لا نهاية لصلاحياته ولا حد لديمومته، فإنها تعمد إلي تشجيع أقطاب العملية السياسية في بغداد علي قبول مبدأ الاتفاقية، واستخدام نفوذها لدي بعض أحزاب السنة لحضها علي عدم الممانعة. وكل ذلك استناداً إلي حجة الخوف من التوسع الإيراني. فقد أصبح الاحتلال الأمريكي في نظر هؤلاء ضرورة (قومية) أو طائفية للاستعانة به في شبكية الصراعات الفئوية والإقليمية المتنافسة علي التملك من حاضر العراق ومستقبله.

هذا مع العلم أنه لن يكون العراق وحده ضحية هذا الانحراف الأسوأ في تاريخ السياسة العربية الرسمية، بل راح يتابع نماذجه الرديئة هذه في كل الساحات العربية الحارة الأخري كفلسطين ولبنان. فلقد تكوّن ما يشبه الفريق الواحد المتعاضد من أصحاب السلطان العربي مع الرموز الأمريكية وأجهزتها.

ولن تكون الرموز الإسرائيلية بعيدة طبعاً عن خلفيات هذا الفريق، إن لم تكن في مركزه دائماً. ولعل المهمة الرئيسية التي ينتدب هذا الفريق نفسه لإنجازها تقوم علي قاعدة إلغاء الحدود الأخلاقية والطبيعية بين المعايير الوطنية وأضدادها.

وبالتالي يسهل الخلط بين الأهلي والأجنبي، بين المصالح المباشرة للأمة والتهديدات التي تتعرض لها من الأقربين قبل المبعدين.

فأية سياسة تطلق علي ذاتها صفة الوطنية والشعبية تلك التي تطالب المحتل بالبقاء إذا ما اضطرته ظروفه إلي الرحيل، أو أنها توافقه علي استمراره إذا ما أراد شرعنته وتحويله إلي انتداب استعماري بكل خصائصه البالية المعروفة.

ومع ذلك فهذا يحدث في العراق راهناً كما لو كان قدراً يومياً عادياً، ولا يملك أحد حق الاعتراض عليه، ولو كان صوتاً خافتاً لبقايا وطن.

مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى