صفحات ثقافيةفرج بيرقدار

يوم في أحد سجون السويد

null
فرج بيرقدار
دعيتُ رفقةَ عدد من أعضاء نادي القلم في السويد إلى بلدة “ماريافْرِد” لزيارة قبر الكاتب الألماني “توشولسكي”، الذي كان لي شرف الحصول على الجائزة التي تحمل اسمه.
في طريقنا إلى المقبرة شاهدت بناء ضخماً في وهدة محاطة بغابات مترامية. سألت مضيفي “لينرنت شفيتس” عنه فقال: هل حدسك كسجين سابق هو ما أيقظ سؤالك؟
قلت: لعله الفضول وجمالية الموقع.
قال: حقاً لقد اختاروا واحدة من أجمل بقاع المنطقة وبنوا فيها هذا السجن.
أوشكت أن أسأله إن كان سجناً سياسياً أم قضائياً، ثم تلعثمت قليلاً وأنا أعيد ترتيب السؤال عما إذا كانت القوانين في السويد تسمح لواحد مثلي بزيارة هذا السجن.
ابتسم بطمأنينة وهو يقول: بعد أن نستمع إلى كلمتك في المكتبة سأعرفك إلى شخص يدعى “أندرش”، هو مهندس ميكانيك في مصنع للسيارات، ولكنه في الوقت نفسه عضو في جمعية رعاية السجناء، وأظنه يمكن أن يتدبر أمر الزيارة.
في المكتبة أخذ “أندرش” اسمي ورقمي الشخصي، وبعد شهرين أبلغني بموافقة السلطات على زيارتي للسجن، ولاحقاً قام بترتيب كل ما يتعلق بالزيارة والموعد وبطاقات السفر، وفي اليوم المحدد أقلَّني بسيارته من محطة القطار في “ماريافرد” إلى بيته، حيث أعدت زوجته الاسبانية مائدة فيها الكثير من ذوق الشرق وحرارة مضيفيه.
أفكار”أندرش” ومعلوماته حاضرة، واضحة، متسلسلة ومبوَّبة، ويتحدث رشّاً. قدَّم لي نبذة عن “ماريافرد” وعن السجن وأراني صوره عبر الأقمار الصناعية، كما حدثني عن زياراته الأسبوعية شبه الثابتة للسجناء منذ أصبح عضواً في جمعية رعاية السجناء قبل سبع سنوات، ثم أخذني إلى المستودع الذي تربض فيه طائرته، وشرح لي الكثير عن الطيران الشراعي، وحاول جاهداً إقناعي بمرافقته في إحدى طلعاته.
يقول: ابنتي لم تعد ترافقني. إنها تفضل الطيران بمفردها، ولكن صدقني أن تطير مع رفيق أجمل بكثير من أن تكون بمفردك. أعرف أنك خائف لأنك لم تجرِّب الأمر بعد.. الطائرة أمينة جداً، وسرعتها لا تزيد عن 90 كيلو متراً في الساعة، ويمكنك أن تلتقط صوراً مذهلة من الفضاء. ستقتنع معي لاحقاً.. صدقني ستقتنع، ولكن علينا الآن التحرك، فبعد عشر دقائق سيكون قسّ الكنيسة وبقية أعضاء لجنة رعاية السجناء في انتظارنا عند باب السجن.
هناك قدّمني “أندرش” إلى “أللينور” رئيسة اللجنة وإلى بقية الأعضاء.
سألته عن قس الكنيسة، فضحك عالياً وهو يقول: “أللينور” هي القس ورئيسة اللجنة. لقد فاتني أن أخبرك بأن من حق المرأة في السويد أن تكون راعية كنيسة.
أعطتني “أللينور” فكرة عامة عن خطوات الدخول، ثم قالت: نبدأ الآن. ضعْ بطاقتك الشخصية في هذه الكوَّة وذلك لتسجيل بياناتها أو تصويرها، وبعدها سترى كيف سيفتح الباب تلقائياً لتتجاوز السور في اتجاه المدخل الرئيسي للمبنى. الدخول فردي، ولكن لا تقلق، هي خمسة أبواب متتالية كما قلت لك ، إلا أنه لا يفتح الباب التالي ما لم يغلق الذي قبله، والتفتيش آلي عبر الغرف المغناطيسية.. إنها تماماً كما في المطارات.
تجاوزتُ السور الأول. سور اسمنتي شاهق، يليه بعد بضعة أمتار سور من قضبان حديدية مغطاة بشبك معدني.
تذكرتُ أسوار سجني “تدمر” و “صيدنايا” في سوريا، ولكني حاولت التملص من ذاكرتي مركّزاً انتباهي على الأبواب ونظام عملها المختلف.
بعد دقائق تجمّعنا في البهو الأخير، ومنه دلفنا إلى باحة السجن.
تولّى “أندرش” الشرح:
كما ترى يتألف السجن من خمسة أقسام أو تجمعات سكنية، في كل قسم 25 زنزانة. لكل قسم باحته وحديقته، ولكن هناك ساعات حرة للتجول في الباحة الرئيسية وفي ما بين الأقسام.
الباحة الرئيسية تضم ملاعب رياضية ومكتبة للمطالعة وورشات عمل وتدريب.. أما ذلك المبنى الواقع في منتصف الباحة فهو المطعم، وفي داخله قاعة لقاءات مخصصة للكنيسة، وفيها نلتقي بالسجناء ونستمع إلى مشاكلهم ونحاول حلها.
تتدخل “أللينور” لتقول: صحيح أن القاعة مخصصة للكنيسة، ولكن من حق أي شيخ أو إمام أن يستخدمها للقاء السجناء الراغبين، وكذلك الأمر مع الحاخام أو أي رجل دين إذا كان هناك سجناء من نفس الدين يرغبون في لقائه.
قلت: وهل حدث ذلك.
قالت: حدث مراراً أن حضر شيخ مسلم من ستوكهولم.
في القاعة أبلغني “أندرش” أنهم بالاتفاق مع إدارة السجن قسموا السجناء، الراغبين في الحضور، إلى ثلاث مجموعات، لكل منها مدة 90 دقيقة من أجل اللقاء باللجنة والاستماع إلى بعض الأغاني التي أرسلت إليهم كلماتها مسبقاً وسيرافقهم فيها القس “هيلموت” على جيتاره، ثم تلقي “أللينور” عظة مختصرة، وبعدها..
نظر إلى بنوع من المحبة الماكرة، فقلت: حسناً، وبعدها؟
قال: سيكون رائعاً لو تحدثت إليهم لبضع دقائق عن كتابك الذي قرأه بعضهم، أو عن تجربة سجنك أو أي شيء ترغب في الحديث عنه.
قلت: لم تبلغني أن في إمكاني التحدث إلى السجناء، وبالتالي لم أحضِّر نفسي لمثل ذلك.
قال: أعرف أنك لست بحاجة للتحضير من أجل حديث مع سجناء، وأعتقد أن حديثك من دون تحضيرات يمكن أن يكون أكثر حرارة.
بعد لقائي مع المجموعة الأولى والاستماع إلى أسئلتهم وانطباعاتهم، انتبهت إلى أن حديثي كان أشبه بدعاية لصالح سجنهم، فقررت تعديل الأمر مع المجموعتين اللاحقتين، مركزاً على مغزى السجن وفلسفته وآلياته ومفاعيله، مشيراً إلى أن السجن هو السجن، إن كان في سوريا أو السويد أو حتى في الجنة، وأنه في أفضل أحواله نقيض للحرية، ويميل إلى إلغاء معنى السجين وإمكانيته على الفعل، الأمر الذي ينبغي على السجين مقاومته من خلال اجتراح أو خلق أو إنتاج فعل ما أو معنى ما، على الصعيد النظري أو التأملي أو الفني أو الأدبي أو المهني أو الرياضي إلخ.
ولكن أسئلة السجناء اللاحقين لم تتغير كثيراً، بل إن السجين الروسي، الذي تخرّج من إحدى الجامعات السويدية خلال سنوات سجنه، وقرأ الترجمة السويدية لكتابي عن تجربة السجن، كان يصرّ على جرّي إلى حقول المقارنة بين السجون السورية والسويدية، وأنا لم أكن راغباً في أي مقارنة من شأنها أن تطمس جوهر ما يمثله السجن في حياة السجين وفي مستقبله عبر مفاعيله التي لا ينتهي تأثيرها بانتهاء مدة الحكم.
وإذا كان ذلك ينطبق على السجين بصورة عامة، فإنه بالنسبة إلى السياسي يأخذ أبعاداً أقسى وأكثر تراجيدية، رغم قناعتي أن السجين السياسي يمتلك غالباً استعداداً أو لياقة ذهنية وأخلاقية ونفسية هي في الغالب أوفر مما لدى السجين القضائي.
اعتذرت “أللينور” من المجموعة الثالثة، معلنة أن برنامج الزيارة يوشك على الانتهاء، فتزاحم السجناء على وداعها بعناقات أو ضمّات سريعة “على الطريقة السويدية” فيها الكثير من المحبة والخجل والاحترام والامتنان، وهي تعِدهم بأنها لن تتأخر الأحد القادم، وإن كان هناك أي ضرورة طارئة فإنهم يعرفون رقم موبايلها.
“أللينور” أمّ الجميع. لم يحُلْ شبابُها وجمالها بينها وبين حس الأمومة الطاغي الذي وزّعت منه على كل من حضر بدون أن ينقص منه شيء.
السجناء يعرفون أن “أللينور” قادرة على حل مشكلة أي منهم، عبر الإدارة أو الكنيسة أو لجنة رعاية السجناء. من ليس له أهل فهي أهله، ومن لديه مأساة فهي المواسية، ومن لا تكفيه نقود السجن لأسباب خاصة أو طارئة تدبرت له أمر تغطية تلك النفقات.
قالت لي “أللينور” إن سجن “ماريافرد” مخصص لمن ليس لديهم إقامة دائمة أو جنسية سويدية، ما يعني أن معظمهم بلا أهل في السويد، ولهذا يتوجب عليها أن تقوم هي واللجنة بدور البديل قدر المستطاع.
فجأة، وكما لو أنها استشعرت فائضاً أمومياً، سألتني عما إذا كان في سوريا سجناء ليس لهم أهل، وعمن يعتني بهم في هذه الحال.
قلت: في السجون القضائية هناك ما يسمى “لجنة رعاية السجناء” ولكنها ترعى السجناء بطريقة سورية وليس سويدية، وحسب تجربتي لمدة يومين في سجن “حمص” المركزي، فإن لجنة رعاية السجناء تهتم بالندوة “الكافتيريا” التي تبيع السجناء سندويشاً وشاياً وقهوة وبعض الضروريات بأسعار مشابهة لأسعار السوق ولكن بنوعية أدنى، وأحياناً تبيع أو تسوِّق لهم مشغولاتهم من الخرز وغيره بأسعار لا تزيد كثيراً عن سعر الكلفة، كما تهتم اللجنة بأمر خطبة صلاة الجمعة المسجلة على شريط وتتكرر أسبوعياً إلى حد أن أحد السجناء، الذين يعانون من وضع نفسي أو عقلي محزن، ألقى الخطبة عن ظهر قلب قبل بدء الصلاة بساعة أو أكثر، وقد فوجئت عندما سمعتها من المسجلة أنها كانت حرفياً كما سمعتها من السجين، مع فارق أن صوت السجين كان حاراً ورخيماً حقاً، على عكس صوت الشريط.
اتسعت عينا “أللينور” حزناً واستغراباً.
قلت: أنا آسف “أللينور” على ما أورثكِ حديثي، ومن الأفضل أن أتوقف.
قالت: بل أرجوك أكمل.
قلت: أما في السجون السياسية فليس مهماً إن كان للسجين أهل أم لا، وقد كنت واحداً منهم، ولي أب وأم وخمسة أخوة وثلاث أخوات وابنة، ولكن لم يكن مسموحاً لأحد منهم أن يرعاني أو يراني خلال أول ست سنوات من اعتقالي، وأخي الأكبر أمضى أحد عشر عاماً بدون أن يسمح لأهلي بمعرفة أي شيء عن مكان اعتقاله، وهناك سجناء أمضوا أكثر من ذلك بكثير.
اغرورقت عيناها وهي تضع يدها على كتفي لتقول: أشعر بالذنب أمام كل ذلك، ولا أدري ما الذي يمكننا فعله.
سمع “أندرش” الجزء الأخير من كلامها، فقال: في إمكاننا الكثير.. ما زال أمامنا لقاء الإدارة لتأذن بفتح إحدى الزنازين. صديقنا يريد أن يراها من الداخل، وأن يرى غرفة الزيارات أيضاً.
أرسلت الإدارة برفقتنا أحد موظفيها. كان مدججاً بكامل عدته من مفاتيح وبطاقات ألكترونية للأبواب، ولاسلكي و “كلبشات” وما لا أدري.
رحَّب بنا وبدأ الشرح على الفور: هنا مبنى الإدارة، وأمامنا هنا على اليسار المدخل إلى غرف الزيارات، ولكني سأريكم الزنازين التي على اليمين أولاً. هناك نوعان من الزنازين، قديم وحديث. هما متشابهان ولكن المساحة تختلف. مساحة الزنازين القديمة ستة أمتار مربعة أما الحديثة فعشرة أمتار، ولكن التجهيزات نفسها.
فتح باب إحدى الزنازين قائلاً: هذه زنزانة حديثة، ولكني سأريكم الزنازين القديمة في الجانب الآخر من الباحة.
سألته إن كانت كل السجون في السويد تحتوي على نوعين من الزنازين، فقال:
لا.. مساحة الزنازين في السجون الحديثة كلها عشرة أمتار، ولكن هذا السجن قديم، وكان يتألف من قسمين أو جناحين، أضيف إليهما منذ سنوات ثلاثة أقسام حديثة.
قلت: وكم سجيناً يمكن أن تضم الزنزانة؟
قال: كما ترى.. فيها سرير واحد، ولا أظنها تتسع لأكثر من ذلك.
أطبقتُ على ذاكرتي بأقصى ما أستطيع، متمالكاً أو موجّهاً ما ينزف منها إلى داخلي فقط.
قلت: ولماذا تسمونها زنزانة وهي في الحقيقة غرفة؟
قال: ولكنها أصغر من غرفة عادية، ويعيش فيها السجين وحيداً.
قلت: ما هي الخدمات التي يحصل عليها السجين في هذه الزنزانة؟
قال: كما ترى.. سرير فردي بطول 200سم وعرض 80، بالإضافة إلى خزانة لثيابه، وخزانة لكتبه التي يستعيرها من مكتبة السجن وصحفه التي يمكن أن يشتريها إذا رغب ويحتفظ بها، وطاولة مكتب صغيرة، وتلفزيون.
قلت: أي قنوات يمكن أن يشاهدها في التلفزيون؟
قال: كل القنوات السويدية مضافاً إليها أهمّ 18 قناة في العالم.
قلت: إذا كان عندكم سجين عربي فهل يستطيع أن يرى قناة عربية؟
قال: يستطيع أن يرى الجزيرة.
قلت: ولماذا الجزيرة وليس غيرها؟
قال: لا نستطيع الاشتراك في كل القنوات، وقد سألتْ السلطات عن أشهر أو أهم القنوات العربية، وكانت استقصاءاتها تشير إلى الجزيرة.
قلت: وإذا أراد السجين أن يتصل بأهله فماذا يفعل؟
قال: حين نعود إلى الإدارة سأريك مكان الهاتف. لا تعقيدات في الاتصال داخل السويد، ولكن الاتصال خارجها يقتضي أن يبلغ عنه السجين قبل يوم على الأقل وأحياناً قبل عدة أيام، وأن يدفع فاتورة اتصاله.
لحسن الحظ أن لا أحد ممن حولي كان يعرف ما كنت أفكر فيه تلك اللحظة، وأي مقارنات وعنفات جهنمية كانت تدور في رأسي.
قلت: هل لديك فكرة عن طبيعة الجنح أو الجنايات وأيها أكثر تكراراً في هذا السجن؟
قال: قرابة ستين في المئة مخدرات.. سائقون من خارج السويد، تضبط معهم على الحدود كميات مخدرات، وهناك تهم أخرى كالسطو أو السرقة أوالشجارات، وتهمة قتل واحدة.
تذكّرت حينها لقاءاتي في قاعة الكنيسة مع بيير اللبناني المحكوم سنتين، وهو سعيد بأنه بقي له أربعة شهور ليعود حراً، وصلاح التونسي الذي قال لي: شعوبنا محترمة ولكن حكامنا بائسون، ولؤي العراقي الذي يعتبر أنه تورّط مع سائق باص من بلدياته خلط له أرض السويد عسلاً مع طحينة ( الأسماء هنا ليست حقيقية) والفيتنامي الذي قال لي إنه خسر انتماءه السياسي بسبب حماقة تتعلق بهجرته، والنيجيري الذي قال لي: لست نادماً على شيء سوى أن تهمتي تجعلني خجلاً من نفسي، وشخص يبدو أفريقياً، سألني كثيراً عن تجربتي في السجن، وحين سألته عن حكمه، قال إنه يفضّل أن لا يجيب، وقد أخبرني زملاؤه بأن حكمه طويل لأنه قتل زوجته.
قلت: كم هو حكمه؟
فقالوا: طويل جداً.. معظمنا محكومون ما بين سنتين وأربع ولكنه محكوم مؤبد.
سألت مرافقنا: كم هو حكم المؤبد في السويد؟
قال: على الأقل 12 عاماً وأحياناً يتجاوزها.
لا أدري لماذا ذهبت تداعياتي إلى بلدي الأمّ، لأتذكّر أن عمر حالة الطوارئ فيها الآن يقارب أربعة مؤبدات في سجون السويد. قلت في نفسي: ليتها حالة مؤبَّدة وليست حالة طوارئ.
ربما كان صوتي مسموعاً، فقال لي المرافق: لم أسمعك جيداً.
قلت: لا.. لم أقل شيئاً مهماً.
قال: حسناً.. ولكن ألا ترغبون في رؤية غرف الزيارات؟
قلت: نعم، ولا سيما أني أنتظر زيارة.
نظر إليّ مبدياً أنه لم يفهم شيئاً، فأبلغه “أندرش” أني أمزح، وأني كاتب وسجين سياسي لأربعة عشر عاماً في سوريا.
فتح باب إحدى غرف الزيارات وراح يشرح شروط الزيارة:
هنا الأمور دقيقة. السجين وزواره يخضعون لتفتيش ألكتروني دقيق قبل الزيارة وبعدها. وأحياناً يمكن أن يكون هناك كلاب مكافحة المخدرات خلال عملية تفتيش الزوار.
– وكم هي مدة الزيارة؟
– ساعة واحدة أو ساعتين، وذلك حسب الظرف أو عدد الزائرين. أما بالنسبة للقادمين من أماكن بعيدة فيسمح لهم البقاء نصف يوم وأحياناً يوماً كاملاً.
في السجون المغلقة تتم الزيارات في غرف خاصة.
أما في السجون المفتوحة فإنه يسمح للسجين استقبال الزائرين في الجناح الذي يقيم فيه، ولكن في بعض السجون الكبرى هناك شقق خاصة للزيارات بإمكان السجين أن يبقى فيها سوياً مع عائلته فترات أطول، وتلك الشقق مجهزة بصورة مناسبة للهو الأطفال وألعابهم، وليس فقط بمثل هذا الركن الصغير الذي تراه.
سألته: وما هي وتيرة الزيارات؟
قال: يمكن أن تكون أسبوعية أو متى يشاء الأهل والأصدقاء.
يا إلهي.. أيّ سجون مفضوحة هذه؟!
يريحني أن لا أحد يعرف بما أهجس، فأضفت:
كم هو عدد السجناء الأقصى الذي يمكن أن يستوعبه هذا السجن؟
قال: طاقته نظرياً 125 سجيناً، ولكن فيه الآن حوالي المئة.
شيء ما في داخلي أخذ يتسع ويضيق، فقلت له: شكراً هذا يكفي.
قال ” أندرش”: حقاً لقد كان يومناً مليئاً إلى حد التخمة، ولكن في المرة القادمة سنحصل على قسط أوفر.
توجّهت إلي “أللينور” كما لو أنها صحت للتو من غيبوبة، لتقول: تدري فرج؟
أكثر ما يؤرقني أن معظم السجناء هنا سيغادرون إلى بلدانهم بعد انتهاء الحكم.
قلت: لا تقلقي سيبدؤون حياة أخرى قد تكون أفضل أو أسوأ، ولكنهم سيبدؤون.
قالت: ولكني أعتقد أن شروطهم في بلدانهم سجناً أو حرية هي أسوأ من هنا.
قلت: أعرف.. وليس لهم ترف ذلك السجين السويدي الذي ينتمي إلى الأقلية التي تسمونها “شعب السامر”، أعني ذلك السجين الذي احتج على سوء ظروف سجنه التي لا توفر له التواصل مع عادات شعبه وتقاليده، فتقدم بطلب إلى إدارة السجن من أجل اقتناء حبل في السجن، بوصف الحبل جزءاً من عادات وثقافة شعبه. وحين رفضت السلطات الموافقة لسبب أمني، ناقشهم أن طول حبله 20 متراً، وأن أقرب شجرة تبعد حوالي 40 متراً عن زنزانته، وبالتالي ليس لديهم سبب مقنع لحرمانه من الحبل.
في طريق عودتنا إلى الإدارة سألتُ مرافقنا، عن حقوق السجين في قضاء بعض الإجازات خارج السجن، فقال: الأمر يتوقف على السجين وسلوكه والمدة التي أمضاها من حكمه، ولكن عادة بعد شهر أو اثنين أو ثلاثة يصبح بمقدوره الحصول على إجازة شهرية، وأحياناً أسبوعية، يقضيها مع أهله أو أصدقائه، على أن يحدد العنوان الذي سيذهب إليه، ويُشترَط أن لا يتعاطى الكحول أو المخدرات، ويوضع في قدمه طوق إلكتروني يمكننا من معرفة مكانه. كما أنه قبل انتهاء حكمه بفترة يمكن له، إذا كان سلوكه خلال فترة سجنه عادياً، أن يقيم خارج السجن في مبنى مجاور، ربما رأيته قبل دخولك إلى هنا، إنه على اليسار في أول الغابة، حيث يمارس السجين حياته وهواياته بصورة حرة إلى حد كبير.
كدت أختنق من شروحه المستفيضة، فطلبت من “أندرش وأللينور” أن نتحرك بسرعة إذ ينبغي أن لا أتأخر في العودة إلى ستوكهولم.
ودّعتُ “أندرش” عند باب محطة القطار، ودخلتُها آمناً ومتعباً وحزيناً.
أشعلت سيجارة وتمشّيت على الرصيف محاولاً التخفّف مما علق بي من شلاشيل الزيارة. تبعتني فتاتان لتسألني الصغرى:
هل يمكن أن تكون لطيفاً وتقدِّم لنا سيجارتين؟
سألتها عن عمرها، فقالت: خمسة عشر.
قلت: للأسف لا يحق لي أن أفعل ذلك.
قالت الثانية: أنا عمري سبعة عشر.
قالتها مبتسمة مع شيء من الدلع الذي أضعف مقاومتي ولكنه لم يكسرها.
قلت: أنت أيضاً دون العمر المسموح، وأنا لا أريد مشاكل مع القانون.
قالت الصغرى: رجاء.. رجاء، فأنت تعرف أنه ليس مسموحاً لي شراء السجائر.
قلت: وأنا ليس مسموحاً لي إعطاءها لمن هم دون الثامنة عشر.
قالت: حسناً.. يمكنك أن تسقِط سيجارتين على الأرض كما لو أنك لستَ منتبهاً، وأنا ألتقطهما، وفي هذه الحال أنا أتحمّل المسؤولية.
قلت: ولكن في هذه الحال ما الضمانة أنكِ لن تخبري البوليس عن تواطؤي معكِ؟
سحبَتْ صديقتها من ذراعها وهي تقول:
تعالي تعالي.. إنه ليس كما كنت أتوقّع.

عن مجلة نزوى العدد 60- تشرين الأول 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى