صفحات الناسفاضل الخطيب

“في البدء كانت الكلمة”:حرية التعبير والديمقراطية

null
فاضل الخطيب
يمكن اختصار ممارسة الحرية والعلاقة بين المواطن والنظام في بلداننا بطفل يسأل أمه إن كان باستطاعته مشاهدة التلفزيون، وترد الأم عليه “طبعاً يا حبيبي يمكنك مشاهدة التلفزيون، بس ما تشغّله”!.
حرية التعبير، هي الفهم أو المعنى “التوسعي” للحرية وامتدادها، ولا ترتبط بعمر، بجنس، بطائفة، أو بأي شيء آخر. حرية التعبير في النظام الديمقراطي هي للجميع..
لا تقتصر دراسة حرية التعبير على أساس حقوقي قانوني، بل هي مسألة للمهتمين في الفلسفة، علم الاجتماع، التاريخ، الثقافة، وطبعاً علم السياسة وأصحاب الشأن السياسي مباشرة. ويستطيع الحقوقيون التعبير عن الجانب القانوني من حرية التعبير ومناقشته مع ممثلي العلوم الاجتماعية الأخرى. والحقيقة أن الجانب الاجتماعي هو الأقوى والأهم في هذا النقاش المستمر منذ قرون.
التصور العام عن حرية التعبير هو أنها مسألة ثقافية. وحتى في الأنظمة المتجذرة فيها الديمقراطية يبقى الحديث عن حرية التعبير كقضية حية ماثلة أمامنا.
تقول المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
هذا يعني أن التعبير عن الأفكار والآراء، سواء كان عن طريق الكلام أو الكتابة أو عن طريق عمل فني، لا تحدها رقابة أو قيود حكومية، بشرط أن لا يمثل شكل ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقا للقوانين الموضوعة ديمقراطياً، ويصاحب ذلك دائماً، حق حرية العبادة -أو عدم العبادة – وحرية الصحافة وحرية التظاهرات السلمية.
وتؤكد أيضاً المواثيق الدولية، على أن هذا الحق مهمٌ من أجل تنمية الشخصية، وكرامة كل فرد، ومهمٌ لإحقاق وتكريس حقوق الإنسان الأخرى..
ترجع بدايات المفهوم الحديث لحرية الرأي والتعبير، إلى القرون الوسطى في المملكة المتحدة، بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني عام 1688، ونصبت الملك وليام الثالث والملكة ماري الثانية على العرش، وبعد سنة من ذلك الحدث، أعلن البرلمان البريطاني قانون “حرية الكلام في البرلمان”. وفي فرنسا وبعد عقود من الصراع صدر إعلان حقوق الإنسان والمواطنة عام 1789 وذلك بعد الثورة الفرنسية، وأكد الإعلان، على أن حرية الرأي  والتعبير هي جزء أساسي من حقوق المواطن..
قد يكون الفيلسوف جون ستيوارت ميل ( (John Stuart Mill 1806 – 1873 من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي، مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض. حيث قال “إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحداً، وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفا، فان إسكات هذا الشخص الوحيد، لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة”، وكان الشرط الوحيد الذي وضعه ستيوارت ميل لحدود حرية التعبير، هو ما أطلق عليه “إلحاق الضرر” بشخص آخر.
ومع الهجرة من الشرق والجنوب إلى الدول الغربية والشمالية، واختلاط الثقافات والأديان، ووسائل الاتصال الحديثة مثل الانترنت، شهد العالم موجة جديدة من الجدل، حول تعريف الإساءة أو الضرر بسبب حرية التعبير، وخاصة على الرموز الدينية.
إذا كان مآل الصراع، حول الحق بحرية التعبير بشكل عام، يميل بوضوح لمصلحة المضطهدين وأصحاب الرأي العام، فإننا نطرح سؤالاً عن الموقف الفعلي الذي يقوم به أصحاب هذا الحق بحقهم؟ كيف يعبرون عنه؟ وهل من شكل معيّن للتضامن مع فاقدي الحرية، من قبل الذين يملكون هذا الحق، ويمارسونه في دول العالم الحر؟ (مثال الرئيس ساركوزي وموقفه من حقوق الإنسان في الشرق الأوسط بشكل عام وفي سورية بشكل خاص)!؟..
أن القواعد التي من شأنها أن تنظم حرية الرأي والتعبير، عليها أن تستند إلى مبدأين أو ركيزتين أساسيتين: الأولى، هي أن معارضة الفكرة لا تبرر الحد من حرية  الرأي والتعبير. والثانية، هي أن الحكومة يجب أن لا تأخذ على عاتقها وظيفة الراعي أو المنظم لهذا الحق، وإنما عليها أن تستند دوماً إلى مبدأ الحياد. فجميع الأفكار، تخلق متساوية، بما فيها تلك الأفكار المدانة عالمياً، والتي تعتبر ضد المبادئ العامة، السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، إذ لا يوجد شيء اسمه فكرة زائفة مهما بدت ضارة أو مؤذية، فتصحيحها لا يعتمد على قرار الحكومة في صوابها أو خطأها، وإنما على تنافس الأفكار الأخرى وصراعها السلمي معها!..
يوجد موقفان  في تفسير حرية التعبير، الأول يعتبر أن قيمة التعبير الحر، تعد أكثر أهمية من قيم التسامح والتضامن والمساواة وغيرها، والتي غالباً ما يُضحىّ بقيمة حرية الرأي والتعبير من “أجلها”.
والموقف الثاني يقول، أن أهداف المجتمع في التسامح والمساواة، تتوفر في نطاق حرية الرأي والتعبير، إلا أن تعابير الكراهية تهدد هذه القيم، مما يهدد بفقد حرية الرأي والتعبير ذاتها، والتي لا يمكن أن توجد إلا في إطار من التسامح والود الذي يسيطر على المجتمع، وعلى هذا تكون قيم المساواة والتسامح تملك أهمية أكبر للمجتمع الإنساني من حرية التعبير، أي الحد من حرية التعبير “صيانة” لقيم المجتمع..
أعتقد أن تعميق قيم التسامح واحترام الكرامة الإنسانية، بدلاً من إجراءات العقاب والإكراه والجبر، وفي جو ديمقراطي تساعد على حماية حق حرية التعبير. لأن الديمقراطية الحقيقية لا تخشى حرية التعبير. إن حرية التعبير مقدسة وهي محرك أساسي للتقدم الحضاري..
لكن ما هي الحدود بين النقد والتجريح والتشهير؟
في 1868، كتب فيكتور هوغو جملة، قد تكون هي التعبير عن وضع كل متحدث داخل الفضاء الإعلامي أو خارجه، فقال “ألا ترى أنك على ميزان، في كفة منه قوتك، وفي الكفة الأخرى مسؤوليتك، وأن ارتجاج هذا الميزان هو تعبير عن رجفة الوعي”؟!.
نعم، الكلمة مسؤولية ولكن مصادرتها مسؤولية أكبر وأخطر، فلا يمكن أن نتحدث عن حرية التعبير، وننسى أنها ليست مجرد مساحة من القواعد القانونية والأخلاقية والسياسية.
إن ما يخشاه الطغاة والنظم الشمولية المستبدة يتمثل في الخوف من صوت الحقيقة..
يظهر مما تقدم وبشكل عام، أن مبدأ حرية التعبير، هو في الأساس حماية مصالحنا في الحياة، بأن نترجم إحساسنا بممارسة حقنا وتطوير هذا الشعور، أن نقوم مع المواطنين الآخرين في المشاركة بأخذ دور، لممارسة الأمور العامة بدون صعوبات ومضايقات، ومناقشة أي فرد بشكل صريح وعلني. وبدون خوف يمكن انتقاد وتقييم عمل مؤسسات الدولة وممثليها بلا استثناء، سواء بشكل كامل أو جزئي، وبهدف إمكانية تعريف باقي المواطنين عن أي قضية كانت. وهذا يقوّي شعورنا ومسؤوليتنا الوطنية، وينمي قيم الأخلاق عندنا وعند الأجيال القادمة..
إن جوهر ما ورد أعلاه يشير إلى أن حرية التعبير هي مؤشرٌ لشرعية الديمقراطية.. في الدول الديمقراطية يقوم نفس الأشخاص بسن القوانين التي يجب عليهم الخضوع لها أيضاً.. بينما في الدول غير الديمقراطية تكون تلك القوانين مخصصة لأفراد غير الذين يصدرونها، أي يكون النظام الحاكم فوق القانون..
من المعروف أنه في المجتمعات الحرة وخلف كل موقف نظري(مبدأ) له علاقة بحرية التعبير، توجد هناك مصالح. وهذا المبدأ يدفع غالباً المتنافسون أو “المتصارعون” كي يجدوا التوازن بين تلك المصالح المتعارضة، لتحديد محتوى ممارسة حرية التعبير أيضاً..
إن حرية التعبير، هي المعيار الشرعي والشرط الأساسي للديمقراطية، هي عنصر ضروري للديمقراطية، لكنه غير كافٍ.. الديمقراطية وحرية الكلمة متلازمتان تقوي الواحدة الأخرى ولا انفصال بينهما..
أيهما نختار أولاً، التعبير عن الرأي أو حرية التصرف والفعل؟.. كيف تحمل الكلمة المكتوبة أو المسموعة التعبير عن الرأي؟. وهل صحيح ما يقال أنه “في البدء كانت الكلمة”؟!.
هل أن مسيرة صامتة بالمشاعل ليست أقل قيمة من تلك الكلمات والجمل التي تعبر عن هذا الرأي؟…
وقد يكون من المنطق القول أن مثل هذه المسيرة ـ إن حدثت ـ  لن يكون لها قيمة في بلاد لا قيمة للكلمات فيها..

بودابست، 9 / 12 / 2009.     .

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى