صفحات سورية

… بين الاعتباط وغياب الأمل

null
نهلة الشهال
قبل أيام، منع المخرج السوري محمد ملص من مغادرة البلاد. اكتشف ذلك وهو في المطار، وعاد أدراجه دون أن يسأل عن السبب: ما الفائدة؟!
قبل أيام، أفرج بقرار قضائي عن الكاتب السوري ميشيل كيلو ولكنه منع من مغادرة السجن. اكتشف ذلك على عتبة المعتقل، وعاد أدراجه وهو يعرف السبب: لا فائدة!!
ومحمد ملص أرقّ خلق الله. وهو على تلك الميزة الشخصية في طباعه، يمتلك التزاماً فكرياً وسياسياً مكتملاً يضعه في خانة الوطنيين والتقدميين، أعداء إسرائيل بالتأكيد، والعدوانية الأميركية. وإنما يفترض هذا التأكيد أن القمع السوري ينال من المتواطئين مع إسرائيل، وإنْ بتفحص القلوب. وتلك سذاجة. بل هو يطال تحديداً بيئة محمد ملص، ويذهب أبعد من ذلك ليضرب بأكثر عنف ممكن من يراهن على إمكان تغير النظام ذاتياً وإرادياً، كما حاول ميشيل كيلو.
بين «ما الفائدة» تلك و»لا فائدة»، يقع كل الموضوع. بين الاعتباط المطلق الذي ينزع عن تصرفات النظام كل منطق قابل للفهم وللتدارك، وبين انعدام الأمل. ويخطئ من يتعامل مع معطى الاعتباط الشديد الحضور في سورية على أنه نتاج الفوضى أو تضارب الأجهزة والأمزجة. بل هو برنامج القمع الأكثر فعالية وجذرية، حيث يختفي الحد بين المسموح أو الممكن، وبين ما يسمى الخطوط الحمراء. وتلك الأخيرة ليست قدراً، ولكن القناعة العامة السائدة في بلادنا ترتضي وجودها، ولا يُخشى أن يؤدي التساهل في ما عداها إلى تجرؤ الناس عليها. وليس الاعتباط المنظم ذاك أسلوب كافة الأنظمة القمعية، بل يتفنن كل واحد في ابتداع طريقته، ومنها من يضع سقف المجاز واطئاً إلى حد تصبح معه «أخف العقوبات الإعدام»، كما كان المعارضون الوطنيون لنظام صدام حسين يقولون بمرارة.
أما النظام السوري فقد بَنى أسلوب «تعدد الأجهزة»، ما يطابق في الأصل تركيبته المتعددة العناصر، والمضطرة لإجراء تسويات مستمرة مع بُنى اجتماعية غير قابلة للشطب. وما أصبح بعد ذلك أنجع وسيلة لضبط الناس والحيلولة دون امتلاكهم لحيز يطلقون فيه مبادراتهم بأمان، لمن شاء البقاء ضمن إطار «الشرعية»، أو يخترقونه وهم مدركون ما يعرّضون له أنفسهم. وتلك الطريقة في ممارسة الاعتباط برهنت على فعاليتها في إفساد كل خيال سياسي أو فكري، وإحباط كل توثب. فهي تلغي سلفاً إمكان اكتساب بيئة المعارضة فاعلين ليسوا ثوريين بل إصلاحيين. فهم «قد» يصبحون في أي لحظة معرّضين، إذا ما اجتمعوا وتناقشوا بحرية وقاموا ببعض المبادرات، للخضوع إلى معاملتهم كعناصر خطيرة. و«قد» تلك بيت القصيد: فهناك قد نعم، وهناك قد لا! وقد يمر وقت آمن ثم يتغير فجأة كل شيء، ومن دون سبب ظاهر ولا تحذير. وهو جو مستبطن تماما من الناس الذين يشكّل من ولدوا في ظله ولم يعرفوا سواه، ثلاثة أرباعهم! ويقضي هذا الجو بشكل مسبق وفي المهد على إمكان نشوء «المجتمع المدني»، أي تجاوز الناس سعيهم الفردي لتأمين ضروريات الحياة، نحو مطالب لهم في السكن والمأكل والصحة والتعليم، إن لم يكن في الثقافة وفي شروط إدارة حياتهم.
يقدم النظام السوري نموذجا مكتملاً لهذه الجهة. وذلك لعدة أسباب:
– فهو، إذ يقيم التعدد والتضارب، لا «يمثّل»، بل يعكس واقعه. لقد أُنشأت أجهزة أمنية متكررة، تعكس من جهة توازنات التكوينات المتحالفة في النظام، ولكنها أيضا تؤدي إلى «توازن رعب» معطّل لكل منها منفرداً، بحيث تصبح ضرورة مطلقة الحاجة إلى نقطة تجمّع في قمة الهرم، هي في آن نقطة تحكيم وتماسك، من دونها يحدث تصادم وتفكك. تلك كانت عبقرية الرئيس حافظ الأسد التي راهن البعض على ألا تستمر بعده. لكن تعريف الاستمرار في السلطة كان يتطلب موضوعياً إتقان هذه المقدرة أو الزوال، فأبقي عليها، وإن نسبياً.
– وهو سعى أيضاً إلى اكتساب قشرة قانونية، مغادراً إلى حد بعيد الخطاب السابق عن «الديموقراطية الشعبية المضادة للديموقراطية البورجوازية» التي كانت غطاء للقمع «الثوري»، مقيماً توليفة ما بين إتقان شكليات أصول المحاكمات وإمكان إبطالها من قبل أجهزة «قانونية» هي الأخرى! وأظن أنه في حالة ميشيل كيلو تحديداً، لا يفسر الأمر فحسب بالضغائن الشخصية التي يقال إن بعض أركان النظام يكنها له، بل في وجود تلك التوليفة البائسة بين الصلاحيات التي يمكن للواحدة منها أن تعطل الأخرى، ليس لأنها فوضى ضاربة بل بالعكس كتطبيق لفعالية الاعتباط حتى آخر رمق. هذا من دون نسيان بقاء قانون الطوارئ معتمداً، مما يتيح اللجوء إليه إذا ما فشل اللعب على تلك التعارضات.
– وفي ثالث مكونات الاعتباط، الاعتداد بوطنية النظام حيال العدوانية الأميركية والإسرائيلية لإجازة فرض السكوت. فتحْتَ دعاوى الارتباك حيال نقد وإضعاف نظام «ممانع» وداعم للمقاومة، يُفترض تغليب السكوت. وتتوالى كل تلك المبررات التي تبدأ من «ليس وقت ذلك» (وهو وقت لا يأتي أبداً)، وتنتهي بسينيكية الحاجة للاعتراف بتراتب في الأولويات. أما النظام فيفاوض إسرائيل ويسعى إلى إغواء أميركا كهدف أساس، ولكنه لا يرتضي نقاش هذه ولا المتطلبات الفعلية للمواجهة.
– وأخيراً – وهذا ليس تعداداً منجزاً – يأتي الفساد كأرضية حاملة لكل البناء. ففي ظل دعاوى الانفتاح الاقتصادي وإباحة الحرية لقطاعات من رجال الإعمال (مما أوجد ما يمكن رؤيته كطبقة وسطى، وأرضى بعض شرائح البورجوازية القديمة)، نُسجت شبكة من المصالح المتداخلة بين مفاتيح في السلطة ومستفيدين من الانفتاح وسّع النظام قاعدتهم. وهذا ليس اقتصاداً مسيّراً ولا حراً، بل إرساء لحالة هجينة قابلة للارتداد عنها بالجملة وبالمفرق. فيا للتهديد المسلط فوق رؤوس أولئك الذين تُركوا يتذوقون طعم الاستهلاك أو الربح (وكان بديله المتوفر ليس الاكتفاء الاشتراكي، بل الجوع والبؤس!).
وأما الخشية كل الخشية فهي أن يدمر هذا النمط من الأنظمة صبر الناس فيكفرون! وأما أناس كمحمد ملص، وميشيل كيلو ورفاقه، وعلى رأسهم المجموعة التي نالت – منذ أيام أيضاً – أحكاما بالسجن لأنها اجتمعت في إطار إعلان دمشق، فحواجز ضد ذلك الخراب.
الحياة     – 09/11/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى