صفحات مختارةياسين الحاج صالح

الثقافوية العربية المعاصرة: خصائص منهجية ومحددات أساسية

null
ياسين الحاج صالح

الثقافوية، تعريفاً، شرح المجتمع والسياسة بالثقافة. إن أحوالنا هي ما هي لكون ثقافتنا هي ما هي. للثقافوية العربية تنويعتان، علمانية وإسلامية. تنزع الأولى إلى تفسير الاستبداد والتخلف بحالة الثقافة العربية اليوم، التي قد توصف بأنها ما قبل حديثة، أو غير عقلانية، أو سلفية تدير الوجه نحو الماضي، مع ميل راجح إلى رد الثقافة هذه إلى الدين. أما التنويعة الإسلامية فتقرر أن سوء أحوالنا اليوم يعود إلى تخلينا عن الإسلام، الذي هو هويتنا ومقوّم كياننا، وليس دين أكثرية محتملة بيننا فحسب.
1

في السنوات الأخيرة، بعد 11 أيلول 2001 بخاصة، تحقق للثقافوية العلمانية صعود عاصف، وجنحت على نحو مستغرب إلى تعريف مجتمعاتنا المعاصرة بالدين، غير مكتفية حتى بتفسير أحوالها بالدين، مشاركة في ذلك التنويعة الإسلامية في رؤيتها ومنهجها، وإن خاصمتها سياسيا. مجتمعاتنا إسلامية بمعنى جوهري عن الإسلاميين، الإسلام هويتها وروحها، فإن كانت ضعيفة ومهزومة اليوم فلأنها مستلبة الروح، مستكينة للغزو الثقافي الغربي، ومبتعدة عن حقيقتها ومنبع أصالتها. ومثلها تتمحور التنويعة العلمانية حول “الإسلام”، فتراه حيثما تلفتت في مجتمعاتنا المعاصرة، لكنه هنا أقرب إلى روح التعصب والتمييز ضد المرأة والطائفية و”التخلف”. وبينما لا حياة لنا إلا به في عين الثقافوية الدينية، فإن حياة مجتمعاتنا مرهونة الأحرى بتحجيمه أو فصله عن الدولة والسياسة فصلا نهائيا في عين التنويعة العلمانية.
في الحالين تغيب الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجيوسياسية والثقافية لأوضاعنا المعاصرة، هذا حين لا تُفسَّر هي ذاتها بـ”الإسلام”.
على هذا النحو أخذ يبدو أن مجتمعاتنا المعاصرة متمحورة حول “الإسلام” تمحورا كليا، خلافا لأي مجتمعات معاصرة أخرى. وهو ما فتح الباب لخطوة أخرى لم يتأخر في قطعها منسوبون كثيرون إلى الثقافوية العلمانية: إن فساد أوضاعنا الراهنة وليد فساد جوهري متأصل للتعاليم الإسلامية. وبسبب الغلواء الثقافوية التالية لـ11 أيلول، وبسبب نزوع شائع في العالم العربي إلى تعريف العلمانية ثقافويا وبدلالة الدين وحده، لم يكد ينتبه أحد إلى أن هذا الطرح يخرج من نطاق العلمانية ذاتها. فإذا كانت التعاليم الإسلامية فاسدة جوهريا، كانت السياسة الصحيحة تسفيه الإسلام وتحيّن الفرص لتحطيمه، وليس العمل على فصله عن الدولة. لا يقول كل الثقافويين العلمانيين ذلك، لكنك لن تجد عند أعلامهم ما يحول بين أنفارهم والسير في هذا السبيل إلى منتهى لا علماني، ديني مقلوب في الواقع.
وكما نلاحظ، ليست الثقافوية نظرية مفسِّرة فقط، وإنما هي تتضمن سياسة عملية، تقرر مرةً أن “الإسلام هو الحل”، وتوصي مرةً بالعلمانية أو العقلانية أو الحداثة مخرجا من الأوضاع الراهنة غير المقبولة.

2

في أساس الثقافوية العربية نظرة ثقافوية إلى العالم ككل. “الغرب” ثقافة عقلانية وعلمانية وحديثة في عين التنويعة العلمانية، فيما ينزوي في الظل شرح الغرب بمفردات الاقتصاد والسوسيولوجيا والجغرافيا السياسية وعلم السياسة والتاريخ. أما بقية العالم فإما يلحق بالغرب، وإما يعتبر بقية لا شأن لها، إذ لا يبدو أنه يمكن ردّه إلى فكرة واضحة. هذا ليس لأن الثقافوية مسكونة عموما بالغرب، بالتماثل التام معه أو بالاختلاف الوسواسي عنه، بل لأنها منطق ثنائي القيمة، يقابل سلباً بإيجاب، أو غياباً بحضور، أو عقلاً بلا عقل… إلخ. ودوما إسلاما بغرب أو غربا بإسلام. منطق الأفكار والمعاني ينزع من تلقاء نفسه إلى الثنائية خلافا لمنطق الواقع الكثروي. لذلك لا يكتفي بتهميش بقية العالم، بل يختزل كثرة الغرب ذاته إلى وحدة، تتمثل في “العقل” أو “التقدم” أو “الحداثة”… وإنما لذلك لا يصح التكلم هنا على مقارنة بغرض الفهم والتعلم بين أحوال العرب والغرب، بل بالأحرى على معايرة: “الغرب” معيار، كامل تعريفا، وكل تقصير عن التطابق التام معه هو “تخلف” أو “تأخر” أو “قدامة”، لا مناص من التخلص منها. هنا يرفع “الغرب” إلى مرتبة المطلق، وتُعدم شخصية الوقائع والأوضاع الخاصة بنا، لتكون مجرد تلعثمات، محاولات ناقصة أو غير مكتملة، لا ذاتية لها في غير صبوها المحموم إلى مماثلة المعيار الكامل. وهنا الأصل في تلك الآلية المعرفية الشائعة في الأوساط الثقافوية العربية: تفسير أحوالنا بالغياب. نحن متخلفون بسبب غياب الديموقراطية أو عدم تطبيق العلمانية أو انعدام الحداثة أو نقص العقلانية أو افتقارنا إلى إيديولوجيا علمية… إلخ.
غير أن التفسير بالغياب ليس في الواقع إلا غيابا للتفسير. فلا هو يشرح ما هو “حاضر” لدينا، ولا يمكن أن يقوم علم اجتماع أو سياسة على أرض هذه المنهجية، فيما لا يتكوّن علم التاريخ إلا ضدها. تتكوّن بدلا منها إيديولوجيات كاملة، متنافية (الشيوعية، الليبيرالية، العلمانية…). ويحصل أن “نتحرر” من “أوهام” واحدة منها، لكن فقط لاعتناق واحدة أخرى. هذا لأن النقد لا يمس منهج المعايرة بحال. لذلك حتى حين تستبدل تلك الصيغ السلبية (نقص العقلانية وانعدام الحداثة وغياب الديموقراطية…) بصيغ إيجابية كالاستبداد والأصولية والقدامة والحسية أو الوجدانية، فإن مضمونها يحيل على المعيار غير المحقق (الديموقراطية، العقلانية، العلمانية) وليس على علاقات الواقع الحقيقي وبناه. ولعل في ذلك ما يؤشر إلى استحكام المنهج المعياري وتحوله ذهنية راسخة. تجد مثالا مدهشا عن ذلك في واقع أننا نحيل مفردات ومفاهيم (الأمة، السياسة، الدولة، المدينة) على “أصول” أوروبية، كي نفهمها. معرفتنا لا تحيل على واقع بل على أصل غربي (وهذا يسمّى الوعي).
عند الإسلاميين المعيار هو “الإسلام”. كل شيء ناقص ما لم يطابق هذا المعيار المطلق. المقارنة غير ممكنة هنا أيضا، لأن كل مقارنة تفترض اشتراك المتقارنين بالنقص واستقلال المعيار عن أيٍّ منهما. التفسير بالغياب سيد هنا أيضا. انعدام الإيمان أو التخلي عن الإسلام أو عدم تطبيق الشريعة هو سبب عجزنا وضعفنا اليوم. لكن كيف حصل أن تخلّينا عن الإسلام، ومتى وقع ذلك؟ وهل وقع فعلاً؟ ومتى كففنا عن تطبيق الشريعة؟ وهل كنا نطبقها في أي وقت؟ وما هي الشريعة أصلا؟ لا إجابة مقنعة من دون الانفتاح على التاريخ بدلا من الأسطورة، الأمر الذي لا تقوم الإسلامية إلا ضده.
من وجهة نظر المعيارية الإسلامية التي تهمل بقية العالم هي الأخرى، الغرب هو الانحلال أو المادية أو العدوانية والجشع المتأصلان.
غير أن المعيار الإسلامي أفقر وأعجز عن النقاش مع الغير وأشد عجزا عن المبادرة، الفكرية والثقافية بخاصة. ولعلها آلية دفاعية عند الإسلاميين استحضار مبدأ من الماضي ينهى عن التشبه بغير المسلمين (“من تشبه بهم فهو منهم”). بيد أن هذا يرسخ فقدان زمام المبادرة ولا يساهم في استعادته، ويردّ الإسلام إلى تمايز عن العالم، هذا حين لا يكون نفيا له.
هنا أيضا الفهم إحالة على “أصل”، على حكم أصلي مقرر في التعاليم الأساسية التي تنسب إلى الوحي.
ولا حاجة إلى القول إن الآليات الذهنية للثقافوية في نسختيها، مثالية بالمعنى الفلسفي للكلمة. تفترض أن الفكر يصنع العالم، وأن أفكار العالم شهادة أمينة عليه. لا يزال “الوعي” و”الوحي”، الإحالة على أصل غربي أو سموي، هما ضمانات صواب معارفنا. لا يستطيع أحد أن يهتم بنظرية المعرفة في ثقافتنا المعاصرة من دون أن ينطلق من هذا الواقع.

3

من المشروع أن نتساءل عما إذا كانت الثقافوية احتمالاً مبطناً في الإشكالية الأساسية للثقافة العربية الحديثة، تلك المتمركزة حول كيفية “تحقيق التقدم” أو “الالتحاق بالركب الحضاري المتقدم” (مقابل تحقيق العدل مثلاً أو الكفاح من أجل الحرية أو معرفة الواقع). فإذا كنا ننطلق من واقعة “التأخر التاريخي” كتشخيص جوهري لأوضاعنا الراهنة، ألا تكون التاريخانية كما عرّفها عبدالله العروي هي المنهج الأمثل، وتحقيق المطابقة مع الغرب، معرّفا بالليبيرالية والعقلانية والحداثة، هو الهدف؟ أليس تعريف أوضاعنا المعاصرة بأنها “تأخر ثقافي” احتمالاً كامناً في المنهج والهدف معا؟
لكن هل من شأن تعريفها بلغة “التخلف” أن يجنبنا هذا المنزلق الثقافوي؟ الأمر رهن برؤية التخلف كواقع تاريخي مركب، اقتصادي وتكنولوجي واجتماعي وسياسي وثقافي، غير متجانس ولا يقبل الرد إلى بعد ثقافي بسيط؛ رؤيته أيضا كواقع علائقي، أي كعلاقة تاريخية تربطنا بالغرب بلا فكاك، فتجعله جزءاً منا ونحن جزء منه، ليس معيارا ولا غاية التاريخ أو محطته القصوى. قبل ذلك، الأمر رهن برؤية مجتمعاتنا المعاصرة: هل ترتد إلى مبدأ محدد هو “التخلف” أو “التأخر” أو “الإسلام”، أم هي إطار مركّب لحياة بشرية متنوعة مثل غيرها، مشكلاتها مثل غيرها مبدئيا، ومطالبها مثل غيرها (المساواة، العدل، الحرية، الاحترام، الكفاية، المعرفة)؟ من هذا المنظور سيبدو تغيير الأوضاع القائمة فاعلية تاريخية مركّبة بدورها، تتحرك في أفق مفتوح، وفرصها أوسع كلما كانت المشاركة البشرية فيها أوسع. نحن والغرب والعالم متعاصرون، نسير متنازعين ومتفاعلين في فضاء لم يسبق مسحه. تحرّكنا تطلعات مشتركة إلى العدل والحرية. هذا لا يفترض بحال أننا ننطلق من موقع واحد، أو أن أنصبتنا من القيم اليوم متساوية، لكنه يعني أن فرص تحقيق اختراقات سياسية وقيمية كبرى ضئيلة إن لم تُطرَح صيغها الراهنة (المحققة في الغرب أكثر من غيره) للمساءلة وتُستهدَف بالتغيير. نحن في أزمة، لكن العالم في أزمة أيضا. قد يتحقق تقدم في حل واحدة منها دون الأخرى، لكن تجديد شباب العالم يتطلب منظورات قيمية وسياسية ومعرفية جديدة.
معلوم أنه جرى التحول من قاموس التخلف الاقتصادي إلى قاموس التأخر الثقافي في سبعينات القرن العشرين، على يد عبدالله العروي ثم ياسين الحافظ، قبل أن يلتحق بهما من آل أمرهم اليوم إلى ثقافوية خالصة أو شبه خالصة مثل جورج طرابيشي. لعل في هذا التقليص المطرد، من تخلف عام غير محدد إلى التخلف الاقتصادي والتكنولوجي إلى التأخر الثقافي إلى الثقافوية الخالصة، ما يبيح القول إن هذه (في نسختها العلمانية) أعلى مراحل “التقدمية” أو النظرة الخطية والحتموية للتاريخ. إن ثقافويي اليوم الذين ربما يمكن وصفهم بأنهم علمانيون ليبيراليون كانوا “تقدميين” ماركسيين (يريدون تدارك التخلف)، ثم صاروا ماركسيين ليبيراليين (يرغبون بتجاوز التأخر الثقافي)، قبل أن يستقروا على علمانية تعرّف نفسها بمناهضة الأصولية الدينية حصرا.
يتعين هنا أن نستدرك قليلا للتمييز بين ثقافوية عالمة، تحتفظ بشيء من مسارها التاريخي “التقدمي”، فلا تكون خالصة تماما، وبين ثقافوية عامية خالصة فعلا، هي التي تقرر الفساد الجوهري لعالم العرب وثقافتهم ودين الإسلام، فتندرج بارتياح في مذهب “صراع الحضارات”، وتوجب على نفسها النضال ضد تخلي الأميركيين عن سياسات “المحافظين الجدد” المتطرفة. هذه النسخة ليست هامشية كثيرا، بل إنها بفضل الانترنت غدت “شعبية” ومنتشرة. اللافت أن الثقافوية العالمة لا تقول شيئا في حق هذه التنويعة المبتذلة والشعبوية فعلا، فتسهل امحاء الحدود بينهما، فتضعف قضيتها هي.

4

تعرض الثقافوية كذلك تماثلا بنيويا مع الاقتصادوية الماركسية: تفسيرا كليا للعالم بها حصرا، وسياسة ثورية لتغييره. لقد أظهرت “الانتلجنسيا العربية” (و”التقدم” ركيزة تعريفها) استعدادا لافتا لاعتناق دعوات واحدية. أدونيس الذي لا يمل من هجاء “الرؤية الواحدية” (التوحيد الديني منظورا إليه كذهنية أو “ثقافة”) أقل مللا بعد من تكرار الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة “فصلا كاملا”. السياسوي منا الذي لا يفكر في غير السياسة مقلصةً إلى مسألة السلطة، لا يستطيع الهزء من الاقتصادوي الماركسي الذي لا يرى غير نمط الإنتاج مقلصاً إلى “قوى الإنتاج”، مقلصةً بدورها إلى أدواته، أي التكنولوجيا (ولا الاقتصادوي الليبيرالي اليوم الذي لا يهتم بغير المؤشرات الاقتصادية الكبرى)، أو من الثقافوي الذي لا يرى غير الثقافة مختزلةً إلى الدين، أو القوموي الذي ردّ الغرب إلى الاستعمار وترك هذا يستعمر روحه لكثرة ما هجس به، أو الإسلاموي الذي اختزل الواقع الحديث إلى جاهلية أو كفر، واختزل نفسه بالذات إلى روبوت ورع مبرمج على “الشريعة”… إلخ. كل هذه المذاهب تعتمد حتمية صارمة، اقتصادية مرةً وسياسية مرة، لتفسير عالم الظواهر الفوضوي والمتفلت. كلها عقائد تغيير، تبحث عن مفتاح كلي، عن إكسير؛ وبعبارة تحليل نفسية، عن قضيب كبير، قدير، واحد طبعا.
على أن الثقافوية ليست واحدة بين هذه الواحديات، بل هي مقولة عامة تشملها. أو بالأحرى هي معادل عام لها. فكل اختزال لكثرة العالم إلى مبدأ واحد يسهّل اختزالا لاحقا لهذا المبدأ إلى “فكرة” أو “وعي”، إلى “ثقافة”. الاقتصاد لا يبقى علاقات اقتصادية حين يردّ إلى نمط إنتاج محتجب خلف أفكارنا وأفعالنا، ومحدد لها، يتحول هكذا “عاملاً محدِّداً”، مبدأ شارحاً أو عقلاً خفياً؛ و”السلطة” التي تنشغل بها السياسوية ليست علاقة اجتماعية بل وسواس أو روح شريرة أو مبدأ خبيث. أما “الغرب” فهو بالتحديد “ثقافة”، فاسدة أو نيرة. ومثله “الإسلام”. الثقافة هذه مبدأ مجانسة وتوحيد للعالم المعني، “معنى” أو “روح”. يتعلق الأمر في جميع الحالات بضرب من العقلنة المفرطة الموجهة نحو العمل و”الحل”، بل الخلاص. فإذا كانت المشكلة في “الغرب” أو في “الإسلام”، في “نمط الإنتاج” أو في “النظام”، كان الحل في التخلص منها. لا يهم أن لا يكون هذا الحل قابلا للتحقق، المهم أنه يعطينا شعورا بمطابقة العالم لعقلنا وانتظامه حول تشخيصاتنا وحلولنا.
فإن صح ذلك اقتضى أن يمر نقد الثقافوية بنقد الواحدية وبالانفتاح على الكثرة. كثرة الاتجاهات، كثرة الاحتمالات، كثرة القوى، كثرة الأرواح، كثرة المعاني، وبالطبع كثرة المعطيات والمعلومات المضبوطة في تفكيرنا وكتابتنا. وبمعناها هذا، الكثرة ممانعة للرد إلى “معنى” كبير أو “روح” واحدة تسري في الكل، أي ممانعة للثقافوية.

5

لا يتيسر الانفتاح على الكثرة دون تراجع هاجس العمل والنضال قليلا. أعني دوما العمل التاريخاني الموجه نحو “الحل” و”الخلاص”، والمهيمن في تفكيرنا وثقافتنا بلا منازع (أما العمل بمعنى الاشتباك مع الواقع والتمرس بثقله وممانعته، والانخراط في صراعات اليوم فيكاد يكون غائبا). فمطلب العمل والتغيير والحل يهيئ سيكولوجيا متعجلة، ليست أقل اكتراثا بمطالب الفهم وحدها، بل وبالجدوى السياسية العملية ذاتها، فضلا عن الانضباط السلوكي والأخلاقية المتسقة (سأتوسع في هذه النقاط في تناول مستقل)، فوق أنه يدفع نحو إضفاء اتساق وتجانس وهوية وسكون، ووحدة (وواحدية)، مبالغ فيها على ما هو تنافر وكثرة وتداخل وفوضى وحركة واختلاط وهجنة. من شأن تراجع هذا الشاغل، أن يحرر مطلب المعرفة من ضغوطه، وربما أن يتيح تكون نموذج مختلف للمثقف.
وتراجع شاغل العمل- الحل مسألة اختيارية في تقديري. فهو لا ينبع تلقائيا من تدهور أوضاعنا المفترض، بل بالأحرى من ترتيب ذلك التدهور بصورة تسوّغ للمثقف إشغال موقع المرشد الهادي والقائد المحرر.
لسنا مضطرين الى ذلك. لا لزوم له ولا نفع منه. وهو يستمر بفضل عوائده النفسية والمعنوية المحتملة، وليس لضرورة تكمن في طبيعة الأشياء. ليس المثقف المقاول (الطاهر لبيب) وليد قطيعة مع المثقف المهموم بالعمل، بل هو استمرار له.
نقد الثقافوية والواحدية، هو أيضا ما يحرر من التاريخانية التقليدية التي هي في ثقافتنا منهج عمل، وليست منهج معرفة وتحليل. العروي، أبو التاريخانية في الثقافة العربية المعاصرة، لا يخفي ذلك. حتى أنه يستخدم عبارة “الخلاص” كوعد يرتب على اعتناق التاريخانية.
المقصود تجاوز وضعية الانتلجنسيا. هذه المعنية كثيرا بـ”العمل”، والتي تجعل من العلم “وعيا” (مطابقا) ومن الإيديولوجيا “وعيا” (زائفا)، ومن التقدم “تنويرا” ومن النقد الاجتماعي والديني “عقلانية”، ومن التاريخ تاريخانية. لطالما كان “المثقف الانتلجنسي” (الطاهر لبيب أيضا) “مهموما بقضايا أمته”، ساعيا إلى تقدمها، مشغولا باقتراح الحلول لمشكلاتها (عبارة “الحل” شائعة جدا في مداولاتنا، ولم تكد تتعرض لنقد يذكر). النقطة المهمة هنا أن الأمة هذه عربية، أي هي أصلا ثقافة، وليست دولة ومجتمعا واقتصادا وتعليما ودينا (أديانا) وقوانين. الإنتلجنسي كما عرفناه في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، عربي وعروبي صميم، وليس سورياً أو لبنانياً أو مغربياً… إلا بالعرض. وهو ما سهل تحوله الثقافوي منذ أن كفّت العروبة عن أن تكون مشروعا سياسيا عمليا قبل نحو أربعين عاما. الرجل (هو رجل دوما، ونادرا امرأة تشبهه) لا يختلط بالوقائع الصلبة للدولة والمجتمع والاقتصاد والدين وحياة الناس في بلده. لذلك يستطيع المرء بسهولة أن يكون مثقفا عربيا “كبيرا” وهو لا يعيش في أي بلد عربي. يتكلم على العالم العربي والبلاد العربية والأنظمة العربية، وبالطبع الثقافة العربية والمثقف العربي، كلاماً مرسلاً يفترض أن ينطبق على الجميع فلا ينطبق عمليا على أحد. الواقع أنه كثيرا ما يعيش في الغرب (ليس البتة في تركيا أو الهند أو البرازيل أو أفريقيا)، فلا يكاد يعرف من حياة الناس في عالم العرب غير ذكرياته وما تتيحه وسائل الاتصال الحديثة.
العروبة هذه ليست التزاما حيا لهذا المثقف بقدر ما هي من لوازم عمله. سندٌ عام لكلامه الذي لا سند واقعيا محددا له. لذلك يتواتر أن يكون المثقف غداً على خصام مع العروبة، لكنها لا يستغني عنها، بالضبط لأنها من عدّة الشغل. ماذا يقول إن كفّ عن مخاصمة العروبة بعدما كفّ اعتناقها؟
لقد أتاحت له العروبة أن يكون خارج بلده حتى حين كان يعيش فيه. لذلك فإن عيشه في الغرب ليس تلك النقلة الكبيرة في النهاية.

6

الثقافوية العلمانية هي عقيدة المثقف الانتلجنسي في كهولته. بدأ الانتلجنسي وهو يرى كل شيء في العالم “وعيا”، زائفا أو صحيحا، فكان طبيعيا أن ينتهي إلى الثقافة. لكن بالتدريج تحول من العروبة التي هي ثقافة (أو القابلة بيسر للرد إلى ثقافة) إلى الثقافة التي هي إسلام. كانت الثقافة، أي “الوعي” و”العقلانية” والالتزام العروبي، هي ما يلزم من أجل التقدم، اليوم غدت الثقافة مردودةً دوما إلى الدين هي المشكلة التي تحول دون التقدم. من هذا الباب انتهى به الأمر إلى التصالح النظري والعملي مع “الدولة”، فهي الحاجز الأخير دون تدفق “الأصولية الدينية”. هناك بديل لم يجربه ولا يستطيع تجريبه: الانضباط، ضبط الذات والخضوع للموضوع الواقعي (المجتمع، السياسة، الدين). في التحليل يرى مجتمعه متحجرا، وفي العمل يريده أن يكون مطاوعا أتم المطاوعة، فلا يصبر على أي ممانعة يبديها المجتمع لخططه وتصوراته. يقول إنه يعيش في مجتمع متخلف، ويريد مع ذلك كل الأشياء المتقدمة لنفسه: أن يكون حرا ومبدعا ومناضلا، أن يفعل ما يحلو له وأن ينعم برغد العيش. يريد أن يلتزم مبدأ، فكرة، من دون أن يحدّ نفسه بشيء من واقع التخلف المفترض، من دون أن يتعارك مع شيء، من دون أن يتمرس بشيء، وخصوصا من دون أن يخسر شيئا. إن لم يطاوعه الواقع يتذمر. فيهاجر.
نفوراً من أجواء مجتمعه الذي قلما اهتم بتفاصيل الحياة فيه، ينتهي الانتلجنسي إلى اغتراب تام، يعجز فعليا عن العيش في موطنه الأصلي. بالكاد يأتي إليه زائرا. من أوروبا طبعا. هذه حال أكثر المثقفين السوريين المكرسين اليوم. ولطالما كانوا هم انتلجنسيين أقحاحا. يخرج من بلده أنتلجنسيا، لا يعود إليه لماما إلا بدعوة، في إطار مقاولة.

7

ماذا عن الثقافويين الإسلاميين في هذا الشأن؟ هل هم انتلجنسيون أيضا؟ ثمة تماثل بنيوي كبير بينهم وبين الانتلجنسوي العلماني الذي تحوّل من “مثقف” تغييري متفائل إلى “ثقافوي” محافظ ومتشائم. كلاهما ينكر استقلال الحاضر، لمصلحة “مستقبل مستشرف”، متمثل في “الغرب” على ما تقرر تاريخانية العروي، أو لمصلحة ماض مستمر ولا زمني هو مجلى لصلاحية الإسلام العابرة للأزمنة. الواقع الحاضر لا وزن له ولا بنية ذاتية. خفيف وفاقد كليا للجاذبية. هنا أصل ماضوية الإسلاميين أو “اغترابهم الزماني” على قول مؤلف “أزمة المثقفين العرب”، وخارجية الحداثيين أو “اغترابهم المكاني” على قول المفكر المغربي نفسه. الواقع، مركّب الداخل- الحاضر، لا اعتبار له، يتفكك كل لحظة إلى داخل منقطع عن الخارج لا يتماسك من دون استناد إلى الماضي، أو إلى حاضر منفصل عن الماضي لا يتماسك من دون استناد إلى الخارج.
واقع الأمر أن “الخارج” كيفما عرفناه (الغرب، الرأسمالية، الامبريالية، العولمة) ليس خارجا، ليس كائنا متجانسا من النوع الذي يعمّر أدبيات الهوية وسياساتها، إنه في آن واحد، مجال عالمي مكوّن من علاقات هيمنة وتبعية تشكّلنا وتشملنا، ومن ديناميات اقتصادية وتكنولوجية وثقافية لا يسع أحدا البقاء خارجها. “الخارج” داخلنا. ولا يكون خارجنا إلا في نطاق مشروع سياسي يتوسل بالفصل التام بين الداخل والخارج لإحكام سيطرته السياسة والفكرية، ويجد في الماضي التاريخي سندا له. أعني بالطبع مشروع الإسلاميين. وبالمثل، ليس “الماضي” ماضيا. إنه مكوّن عميق لمجتمعاتنا المعاصرة ومصدر ذاتيتها التاريخية في العالم المعاصر. ورفض “الماضي” والإمعان في تجاهله عنصر في مشروع سياسي يتوسل هو الآخر بفصل الحاضر عن الماضي لإحكام سيطرته، ويجد في البنى الدولية المعاصرة غير المبرّأة من علاقات السيطرة والاستتباع كما قلنا سنداً له. إنه مشروع نخب ومجموعات تنسب نفسها للحداثة، وتجد نفسها على قرب من الطوابق العليا المنظمة في مجتمعاتنا المعاصرة، أي من نخب السلطة والثروة فيها، كما من الطوابق العليا في العالم المعاصر.
… ومثل الثقافوي العلماني، الثقافوي الإسلامي مهموم بقضايا أمته الإسلامية وعامل على نهضتها، التي يعرِّفُها بمطابقة حاضرها البئيس لماضيها المجيد. هو الآخر لا يرى الدولة (الكيان والمؤسسة والسياسة) والمجتمع والاقتصاد والثقافة. “الإسلام” الذي يراه هو روح أو “هوية”، مبدأ تجانس، لم تتسرب الكثرة والاختلاف إلى داخله إلا بفعل عدوى خارجية من الغرب والمضللين السائرين في ركابه من أبناء جلدتنا. بالطبع لا يراه كمؤسسة راهنة تابعة ومستتبِعة في آن واحد، ولا كسلطات دينية مبعثرة وفوضوية، ولا كعالم اجتماعي يعيش في الفقر والبؤس والعجز. الغرب فكرة سيئة في نظره، انحلال ومادية واستعمار. هذا يعني أنه لا يرى الغرب الواقعي كعالم مركّب وكعلاقة عالمية. وهو كذلك لا يرى الواقع الذي يعيش فيه، الموزع إلى دول ومجتمعات حديثة. المشترك الجوهري بين الثقافوي الإسلامي والثقافوي العلماني أنهما يريان أفكارا في كل مكان، يمنحان الدولة قيمة كبيرة ولا يريان فرصا لأفكارهما بغيرها.

8

هل يحكم نقد الثقافوية بوصفها أعلى مراحل التقدمية بالبطلان على إشكالية التقدم، وتالياً التأخر والتخلف؟ ومن دون هذه المفاهيم، كيف نعقل وضعنا الراهن وتاريخنا المعاصر؟
إن كان التحليل فوق صحيحا فإن مفهومي التأخر (كتشخيص جوهري) والتقدم (كحل أو ترياق) وثيقا الصلة بالوضعية الانتلجنسية المشربة بالتاريخانية، على نحو ما ظهرت بين حرب حزيران أو في مطلع السبعينات انطلاقا من بيروت، وعاشت وقتا قصيرا، لتتشكل في صيغة مختلفة في الثمانينات مع ظهور الأدبيات التي تتكلم على التراث والأصالة والمعاصرة والعقل. بطل هذا التيار الجديد هو بلا منازع محمد عابد الجابري الذي انتقد تاريخانية العروي لا ليكتشف الواقع فيؤسس للعلوم الاجتماعية، بل ليحيل على “العقل العربي”، أي الثقافة و”التراث” و”الهوية”، ولينتهي أخيرا إلى نزعة محافظة تقليدية أو شبه تقليدية، فيما انتهى التاريخانيون إلى نزعة محافظة حداثية. منطلق العروي هو العمل والتغيير، ومنطلق الجابري هو نحن كتراث؛ أين نحن كواقع؟ كمنطلق لكل عمل ومرجع لكل تراث؟ لا يكاد يكون موجودا بصورة واضحة عند أيٍّ من مثقفينا المكرسين. لذلك لا يسعنا التكلم على علوم اجتماعية وإنسانيات في ثقافتنا المعاصرة. وأفترض أن حجر الزاوية في تأسيس هذه هو الواقع النثري والكثروي الذي تحجبه كلٌّ من تاريخانية العروي وتراثية الجابري، واقع الدول والمجتمعات والأديان والعشائر والطوائف والمدن والأرياف والاقتصاد الريعي أو المتبرل اليوم.
لا يسع أيّاً من التيارين، الانتلجنسوي المهموم بالعمل والتغيير، والتراثي المهموم بالهوية والتطابق مع الذات، أن ينصبا أيّ نوع من الحواجز في وجه الإسلاميين. هؤلاء نتاج الواقع الفعلي، ليسوا أبناء التراث ولا أبناء التغيير، على رغم أنهم عملوا كل شيء لتغيير هذا الواقع الذي لو تغيّر فعلا لقوّضوا أسس وجودهم. هم أحد طرفين لهم مصلحة في الجمود الحالي، إلى جانب بورجوازيات السلطة التي يجد أنتلجنسيون سابقون قلوبهم عليها وإلى جانبها؛ هذا بقدر ما يجد تراثيون أنفسهم على قرب من الإسلاميين. كلا المجموعتين أقرب إلى ظلّ لطرف واقعي جدا، السلطات والإسلاميين، إلى درجة أنهما يحكمان على أنفسهما بالنفول. السؤال: كيف يتكوّن تيار فكري سياسي مختلف، “واقعي” مثل السلطات والإسلاميين، منخرط في صراعات اليوم ضدّهما، ويعي نفسه عبر العلوم الاجتماعية والإنسانية؟

9

المدرك الأساسي في هذا التناول هو الواقع. بالتقابل مع “التغيير” ومع “الهوية” خصوصاً. مع ما هو معلوم من أساسية هذين في الثقافة العربية المعاصرة. المسألة هي اختبار الواقع، معرفته وسياسته ومقاومته والتوجه فيه والتمكن منه. وقبل كل شيء احترامه والانضباط به. أما التقدم والتأخر فلا يصلحان لمعرفة أو عمل إلا في نطاقات قطاعية محددة جيدا. وأما التاريخ فسيتدبر أمر نفسه إذا تدبّر الأحياء أمر نفوسهم ¶

الثقافوية مسكونة عموما بالغرب، بالتماثل التام معه أو بالاختلاف الوسواسي عنه، بل لأنها منطق ثنائي القيمة، يقابل سلباً بإيجاب، أو غياباً بحضور، أو عقلاً بلا عقل… إلخ. ودوما إسلاما بغرب أو غربا بإسلام.

إن ثقافويي اليوم الذين ربما يمكن وصفهم بأنهم علمانيون ليبيراليون كانوا “تقدميين” ماركسيين (يريدون تدارك التخلف)، ثم صاروا ماركسيين ليبيراليين (يرغبون بتجاوز التأخر الثقافي)، قبل أن يستقروا على علمانية تعرّف نفسها بمناهضة الأصولية الدينية حصرا.

يستطيع المرء بسهولة أن يكون مثقفا عربيا “كبيرا” وهو لا يعيش في أي بلد عربي. يتكلم على العالم العربي والبلاد العربية والأنظمة العربية، وبالطبع الثقافة العربية والمثقف العربي، كلاماً مرسلاً يفترض أن ينطبق على الجميع فلا ينطبق عمليا على أحد.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى