الدور التركي في المنطقة

تركيا وإسرائيل: أزمات عابرة فـقط

أوفرا بنجيو
لم تكن مغادرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المنصة في دافوس أمام أنظار الجميع خلال الجدل الذي دار بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس، مجرّد حادث معزول. بل كانت تتويجاً لعملية طويلة من تغيير الأولويات التركية في ظل حكومتَي “حزب العدالة والتنمية” ولتصوّر جديد لدور أنقرة في السياسة الخارجية في المنطقة. المبادئ الأساسية لهذه السياسة، وعلى الرغم من أنها قد تتضارب باختلاف المراحل، هي الآتية:
1- تأدية دور محوري في المنطقة.
2- تعددية الطرف أي التقرّب من البلدان العربية والإسلامية في المنطقة مع الحفاظ على الروابط مع إسرائيل في الوقت نفسه.
3- الانخراط مع الدول المجاورة من أجل تجنّب النزاعات معها.
4- تأدية دور الوسيط في العديد من المشكلات الإقليمية.
5- محاولة إرساء توازن جديد بين سياسات تركيا الأوروبية والشرق الأوسطية.
6- إرساء نموذج دولة إسلامية ديموقراطية مختلفة عن إيران تستطيع البلدان العربية والإسلامية أن تقتدي به.
التحوّل الأهم في ظل “حزب العدالة والتنمية” هو أنه جعل الإسلام منصة ينطلق منها في مسعاه لقيادة المنطقة. وهكذا أشرك الحزب “حماس” ومنحها شرعية بدلاً من نبذها كما فعلت معظم البلدان الأخرى. كانت دعوة المسؤول الرفيع المستوى في حركة “حماس” في دمشق، خالد مشعل، لزيارة أنقرة في مطلع 2006، مؤشراً لما سيحصل لاحقاً. فخلافاً لمصر والسعودية والأردن، لم تثر أنقرة شبح الإسلام الشيعي، مما سمح لها بأن تظهر في موقع الفريق المحايد في النزاع السني-الشيعي الذي يدور في المنطقة، وبأن تعزّز تالياً مكانتها في العالم الإسلامي. وفي الأشهر القليلة الماضية لا سيما بعد الحرب في غزة، سعت تركيا إلى بناء علاقات أوثق مع البلدان العربية والإسلامية انطلاقاً من اعتبارات سياسية واقتصادية داخلية وذلك استعداداً للانتخابات المحلية والوطنية المقبلة، ومن أجل الحصول على المساعدات من البلدان العربية الغنية بالنفط في خضم الأزمة الاقتصادية. وواصلت في الوقت نفسه محاولاتها لتأدية دور الوساطة، مستخدمة أوراق اعتمادها الأوروبية والشرق الأوسطية على السواء.
يجب النظر إلى العلاقات التركية مع إسرائيل انطلاقاً من هذه الخلفية، وكذلك من التغييرات الهائلة التي عرفتها المنطقة منذ وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى السلطة في تركيا عام 2002. أشعلت الحرب الأميركية – العراقية عام 2003 شرارة التدهور في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وكانت لها أيضاً تأثيرات سلبية على نظرة تركيا إلى دور إسرائيل في المنطقة، ولا سيما في ما يتعلق بكردستان العراق. علاوة على ذلك، خسرت النخبة العسكرية التركية التي هي المهندسة الأساسية للعلاقات الوثيقة بين تركيا وإسرائيل، قبضتها على النظام السياسي وتالياً قدرتها على إملاء خطوط السياسة الخارجية. وجاء الاحتكاك المتفاقم بين هذه النخبة وحكومة “حزب العدالة والتنمية” الذي ظهر في فضيحة جماعة “إرغينيكون” التي لا تزال تنكشف فصولاً، ليزيد من الالتباس حيال إسرائيل. في الوقت نفسه، طوّرت تركيا علاقات وثيقة مع جارتها المعادية في الشرق، سوريا، مما خفّف من حاجتها إلى حليف قوي في الجنوب لإرساء توازن في مقابل دمشق. كما أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدت لـ”حزب العدالة والتنمية” الحاكم أقل تهديداً بكثير مما كانت تبدو عليه للحكومات التركية السابقة. ويضاف إلى هذا كله النزاع المستمر بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا سيما اندلاع الانتفاضة الثانية في خريف 2000، والحرب الأخيرة مع “حماس” في غزة التي ألحقت ضرراً كبيراً بصورة إسرائيل في تركيا.
وفوق هذه التغييرات، أصبح عدم التناسق المتأصّل والقائم منذ وقت طويل في العلاقات التركية – الإسرائيلية أكثر وضوحاً في ظل “حزب العدالة والتنمية”. فالسياسيون الأتراك لا يتردّدون في مهاجمة إسرائيل بشدّة بسبب سياساتها حيال الفلسطينيين، بينما يسير السياسيون الإسرائيليون على رؤوس أصابعهم في أي مسألة تلامس الحساسيات التركية. على سبيل المثال، يُحجم السياسيون الإسرائيليون عن أي إشارة إلى السياسات التركية في ما يتعلق بالأكراد، فكم بالأحرى انتقادها. أما الإعلام التركي فمعظم تقاريره عن المشكلة الفلسطينية تعرض وجهة نظر واحدة ومنحازة ضد إسرائيل. ينقل هذا الإعلام باستمرار الهجمات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، لكنه نادراً ما يتوقّف عند الهجمات الإرهابية التي تشنّها “حماس” على إسرائيل.
تخوّفت إسرائيل من انتشار العداء للسامية في تركيا في الأعوام الأخيرة. فقد حقّق كتاب هتلر “كفاحي” أفضل المبيعات في تركيا(1). ليست الأسباب المباشرة لارتفاع العداء للسامية واضحة. فربما كان ناجماً عن تنامي الاتجاهات القومية المتشدّدة، أو ربما كان السبب أنه اكتسب شرعية لمجرّد وصول حزب إسلامي إلى السلطة. ثمة أمر أكيد: لم تبذل الحكومة التركية مجهوداً كافياً لمحاربة هذه الظاهرة. ففي حين منعت ألمانيا ودول أخرى نشر كتاب “كفاحي”، لم تفعل تركيا ذلك متذرّعة بحجة واهية وهي حماية الديموقراطية. في المقابل، بذلت إسرائيل الرسمية كل ما بوسعها لمراعاة الحساسيات التركية في المسألة الأرمنية بما في ذلك ممارسة ضغوط في واشنطن لإجهاض المحاولات الهادفة إلى جعل الولايات المتحدة تقر بأن مجازر الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى كانت إبادة جماعية.
هيّأت كل هذه المعطيات الساحة لشنّ تركيا هجماتها على إسرائيل وتقديمها الدعم لحركة “حماس” في أعقاب انطلاق الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي استمر ثلاثة أسابيع. وكان أردوغان في طليعة المهاجمين عندما حذّر القادة الإسرائيليين من أن “التاريخ سيدينهم بسبب اللطخة السوداء التي يتركونها على جبين البشرية”(2). حتى إنه ذهب إلى حد الإعلان بأن دماء الأولاد الفلسطينيين القتلى لن تبقى على الأرض، وأن الممارسات الإسرائيلية هي “جرائم ضد الإنسانية”(3). وقد استلهم الإعلام والشارع التركيان منه ليصعّدا هجماتهما المعادية لإسرائيل وحتى المعادية للسامية أحياناً، والتي وصلت إلى درجة تجاوزت معها الهجمات في البلدان العربية. لا عجب إذاً في أن يصبح أردوغان بطلاً في نظر الغزاويين والإيرانيين والسوريين. وهكذا تكمن المشكلة الأساسية في إلحاق ضرر كبير بالعلاقات بين الشعبين الإسرائيلي والتركي، علماً بأنها كانت علاقات ودّية لسنوات عدة، وسيكون رأبها أصعب بكثير من إصلاح العلاقات السياسية والديبلوماسية على المستوى الرسمي.
لكن هناك أسباب وافية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن تركيا وإسرائيل ستتمكّنان من تجاوز الأزمة الأخيرة، مهما كانت خطيرة، وذلك انطلاقاً من المصالح المشتركة الكامنة. ليست هناك مشكلات خطيرة بينهما على المستوى الثنائي. فهما لم تخوضا قط حرباً في ما بينهما، كما أنهما لا تشكّلان تهديداً استراتيجياً الواحدة للأخرى. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من كل التغييرات في الخريطة الجيوإستراتيجية في المنطقة، لا تزال تركيا وإسرائيل تتشاطران نظرات مشتركة إلى التهديدات. فالدولتان تتخوفان من اليوم الذي قد تمتلك فيه إيران أسلحة نووية، ومن المؤكّد أن الجيش في تركيا يرغب في الحفاظ على روابط استراتيجية وثيقة مع إسرائيل في هذا المجال. وتحتاج كلتاهما إلى مشاطرة المعلومات والدراية التكنولوجية لمحاربة الشبكات الإرهابية الدولية. فكما في الحالة الإيرانية، إسرائيل هي بمثابة حصن ضد التهديدات الحقيقية أو المتخيَّلة التي تصدر عن جيران تركيا العرب. ناهيك عن أن سعي تركيا إلى تأدية دور الوسيط قد يساعد في دفن الأحقاد الحالية. ويجب أيضاً عدم التقليل من شأن المصالح الاقتصادية المشتركة.
أخيراً، تبقى إسرائيل مهمة لتركيا باعتبارها قوّة توازن في المنطقة، وكذلك مدافعة عن أنقرة في المحافل الدولية المختلفة.
خلاصة القول، على الرغم من أن العلاقات التركية – الإسرائيلية في ظل حكومتَي “حزب العدالة والتنمية” خسرت الكثير من الحميمية التي كانت تتمتّع بها في التسعينات، إلا أن روابط المصالح المتبادلة لا تزال قوية بما يكفي للسماح للشريكين بتجاوز الأزمات التي قد تطرأ من حين لآخر.
“Tel Aviv notes” الصادرة عن مركز موشي دايان
ترجمة نسرين ناضر

(1) بيعت أكثر من مئة ألف نسخة في مطلع 2005. “الغارديان”، 29 آذار 2005.
(2) “الجزيرة”، 6 كانون الثاني 2009.
(3) صحيفة “كوم حرييت” كما نُقِل عنها في “ميد إيست ميرور”، 12 كانون الثاني 2009.

(باحثة في مركز موشي دايان للدراسات حول الشرق الأوسط وأفريقيا، ومحاضِرة في كلية تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب.)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى