صفحات مختارة

من نموذج المثقف الرسولي إلى نموذج المثقف النقدي

محمد ديبو
بو علي ياسين: أحد وجوه الفكر النّقديّ (10)
أسئلة كثيرة تثيرها فيك كتابات بوعلي ياسين ومسيرته الفكرية، ولكنّ سؤالين اثنين طالما أرّقاني أكثر من غيرهما كلّما قرأت شيئا عنه أو له مرّة أخرى.
أوّلهما: لماذا لم يأخذ هذا الكاتب والمفكّر الشهرة التي يستحقّ، ولم يُقرأ حتى اللحظةَ قراءة فكرية متعمّقة؟ ولماذا ظلّت أعماله في الظلّ، وبعيدة عن الضوء؟(حتى هذه اللحظة عندما نجري بحثا على السيد جوجل عن بوعلي ياسين، ستكون الحصيلة قليلة جدّا قياسا بما كتب الراحل وما قدّمه لنا)، وأودّ أن أذكر هنا أنّني لم أر كتابا أخذ شهرة أكثر من كاتبه بكثير، إلا بوعلي ياسين الذي انتشر كتابه” الثالوث المحرّم” أكثر ممّا عرف بوعلي نفسه، الأمر الذي يشير من جهة إلى نبل مثقّف ترك فكره يأخذ مساره على خلاف مفكّرين كثر تأخذ شخصياتهم وحضورهم أكثر مما تأخذه كتبهم وأفكارهم من حضور يذكر.
ثانيهما : ما الذي يجعل كاتبا يكتب في بداية مشواره الفكري “الثالوث المحرّم” 1973، ليكتب في خريف عمره ثلاثة كتب تبدو للوهلة الأولى ذات اتّجاه مختلف من ناحية الموضوع والطريقة والتناول وهي: عين الزهور: سيرة ضاحكة (دار الحصاد ـ دمشق ـ 1993) ـ بيان الحدّ بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة (دار المدى ـ دمشق ـ1996) ـ شمسات شباطية: ديوان المفارقات العربية الحديثة (دار الكنوز الأدبية ـ بيروت ـ 1999
حيث أنّ الثالوث المحرّم( الدين والجنس والصراع الطبقيّ): كتاب فكريّ يعالج قضايا فكرية، وحقّق نجاحا هائلا، وما زال يطبع ويعتبر من أهمّ الكتب والمراجع في تاريخ الفكر العربيّ، بينما الكتب الثلاثة الأخيرة هي كتب تتركّز على سيرة ذاتية ونقد اجتماعيّ وثقافيّ لواقع محدّد.
لماذا لم يستمرّ بوعلي ياسين في الكتابة على نهج “الثالوث المحرّم”، والتخصّص فكريا بكتابة كهذه، وهي التي حقّقت له شهرته الأولى؟
***
في الإجابة عن السؤال الأوّل: عندما بدأ بوعلي ياسين الكتابة كانت الثقافة برمتها “تابعة” لايدولوجيا تكتب باسمها، وكانت مهمّة الثقافة والمثّقفين الترويج لإيديولوجية أحزابهم وأفكارهم، وكانت تلك الأحزاب تحقّق لهم الضوء والشهرة والمنابر والصحف، ولكنّ صاحب “الثالوث المحرّم” ، الذي جذبته الإيديولوجية باكرا لم يستجب لإغوائها كثيرا، بل انحاز نحو ضميره وضوء نقده الداخلي الذي رأى ما رآه في الثالوث المحرّم( رغم أن طبعته الأولى كانت تحمل كما من الايدولوجية تحرر منها في طبعاته اللاحقة) من تواشج السلطات بكافة أشكالها (دينية وحزبية وسياسية…) في قتل روح الإبداع والإنسان لصالح الأحزاب المتكلسة، وهنا ربّما نستطيع أن نفهم السبب الذي جعل بوعلي ياسين يختفي عن دائرة الضوء نسبيا، فالرجل لا يريد ذلك نتيجة تركيبته الشخصية التي تؤثر الانعزال والابتعاد، ولكنّ الأهمّ من ذلك أن بوعلي لم يكن يروّج لإيديولوجية* ترفع من اسمه ولم يسع لها، بل بدأ يؤسّس لنقض تلك الإيديولوجية والأحزاب، عبر مشروع مغاير، وهو المشروع النقدي. ولم يكن بوعلي ياسين يدرك ربما أنه بذلك كان يساهم في الانتقال من صيغة المثقف/الرسول إلى صيغة المثقف النقدي، حيث تستوي وظيفة المثقف الأولى في كونه مثقفا صاحب رسالة(حزبية أو وطنية أو يسارية أو إسلامية أو قومية) ، بينما تقوم الأولى على التحرّر من دوغمائيات النظرة السكونية التي حصر نفسه بها المثقف الرسولي باتجاه ثقافة تنتقد كل شيء من منظور وطني مستقل لا من منظور حزبي أو ثقافوي أو قومي، ثقافة تنظر إلى الإنسان وهي تنتقد الأفكار واليوتوبيات المضللة، ثقافة تتخطى المثقف التقني المنزوي داخل غيتو اختصاصه، لصالح المثقف المهموم بعالم ووطن تنحسر عنه مساحة الحرية يوما بعد يوم.. وكان نتيجة ذلك أن أقصته الإيديولوجيات من دائرة الأضواء، وأدخلته في أنفاق زنازينها، ولكن الفكر دائما يشعّ، وللأفكار أجنحة تصل الناس أينما حلّوا.
ولكنّ الإجابة عن السؤال الثاني توضّح بشكل ما الإجابة الأولى وتصوّبها أكثر.
ما لذي جعل بوعلي ياسين يكرّس وقته وجهده في خريف عمره لثلاثة كتب تتعلق بالثقافة الشفهية، بعيدا عن الثقافة الأكاديمية التي برع فيها وأبدع في ثالوثه المذكور؟ وهل يتضادّ ما كتبه في البواكير عمّا كتبه في النهايات ويخرج عن سياق مشروعه النقدي، أم هو استكمال لما بدأ به ولكن بطريقة أخرى؟
المعروف عن بوعلي ياسين كما ذكرنا سابقا، أنه لم يكن يكتب بدافع الشهرة أو المال أو الأضواء، بل بدافع ما يراه الصواب والأجدر أن يسلط الضوء عليه، أو ما يراه أكثر فاعلية في عملية التغيير والمساعدة في عملية تنوير الناس من جهة، وتفكيك أسس المقدسات وفضح القائمين عليها من جهة أخرى.
سلط بوعلي ياسين في كتابه الثالوث المحرّم الضوء على التابوهات الثلاث الأكثر فتكا بمصير العرب، وإعاقة لهم عن الولوج إلى بواكير نهضة ما، وشرّحها فكريا وبيّن كيفية عملها وتواشجها مع بعضها البعض لكتم أنفاس العباد وخنق الفكر الحرّ والتنويريّ، وأبدع في ذلك ..
وفي اعتقادي أنّ ذلك لم يكفّ بوعلي ياسين، الذي أعاد النظر في كتابه وكان يبحث عن نقد أكثر جذرية، وكان يسائل نفسه بعد ربع قرن على صدور الثالوث المحرّم، لِمَ لم تفعل أفكارنا شيئا ؟ لِمَ لم تغيّر في الواقع؟ بل لماذا تراجعنا وتقهقرنا عمّا كنا عليه في السبعينات؟
هنا بدأ بوعلي يبحث عن الأسس التي قامت عليها هذه المحرّمات، هذه الأسس التي تمكّنها من الاستمرار والصمود، إذ أدرك أنّ نقد المؤسسات لا يكفي لأنّ كتابه الثالوث المحرّم كان نقدا أكاديميا لمؤسّسات السلطة والدين والجنس، ولم يكن نقدا وقراءة لثقافة الناس ووعيهم، وهم الذين تؤثّر فيهم هذه المؤسّسات وتنمو وتستمرّ من خلال غزوها لعقولهم، وبالتالي لا بدّ من معرفة بنية هؤلاء المعرفية وطريقة تفكيرهم. فهذه المؤسّسات تمدّ جذورها في نسيجهم الاجتماعي والفكري، وهم يمدّونها بوعيهم المزيّف بالقوى اللا مرئية لاستمرارها، وهنا تأتي أعمال بوعلي الأخيرة، التي سعت لقراءة الثقافة الشفهية الموجودة على لسان الناس العاديين والبسطاء، لأنها تحمل في كينونتها شيئين هامين: أوّلهما أننا نستطيع أن نستشفّ من خلالها آليات عمل السلطات التي شوّهت الوعي الشعبي وجعلته أسير منظوماتها المزيفة.
وثانيهما أنّ هذه الثقافة الشفوية نفسها تحمل بذور التمرّد على السلطات المذكورة وتتمرّد عليها عبر أدوات تعبيرها البسيطة المتمثلة بالنكتة والكلام اليومي والتعليق العابر والمشاهد المضحكة… وهذا كله يقرؤه بوعلي ياسين ويسلط عليه الضوء ليفهم ويحلل ويفكّر ويبحث عن الثقوب التي يمكن توسيعها لتدخل أشعة التنوير من خلالها، ساعيا من ذلك لتدوين ما لا تسمح بتدوينه السلطات المذكورة لأنها لا تريد من كلام “العوامّ” المعبّر عن سلطة رمزية ما تحتقر سلطاتهم مجتمعة، أن يصبح ذا أصول ثقافية معتبرة ومقروءة لأنه بذلك يهدد بتقويض الأساس الذي تقوم عليه السلطات المذكورة، ولنا أن نذكر بعض الأمثلة:
في سيرته الضاحكة يكتب بوعلي ياسين تحت عنوان المشايخ الدوارة وهم شيوخ يدورون على القرى في الساحل السوري ليشحذوا ويأخذوا الزكاة : (أحد المشايخ الدوارة تعرّف على امرأة في إحدى القرى، فأعجبته وتزوّجها. وأخذها معه إلى قريته. في الطريق أخذ يداعبها، فقالت له: لازم تعرف إني امرأة محكي عليها، يعني ماني ملا مرة*، فقال لها: ليكي، والله، وأنا ما ملا شاخ).
***
(واحد من المشايخ الدوارة مرّ على عائلة في الريف وبات عندهم. وما كان لدى العائلة سوى فرشة واحدة، فنام الزلمة ومرته والشيخ ع الفرشة، ونامت المرا بالنص. في الليل صار الشيخ يتحركش بالمرا. فنبهت المرا زوجها: تعال، نام محلي! فرفض الزوج. قالت له: ليك، بدو يفعلها معي. فقال لها: لكن، بدك يفعلها معي أنا؟)
هنا نجد كيفية فعل السلطة الدينية وآليات عملها، فالرجل لشدة خوفه من رجل الدين لا يستطيع أن يسأله أو ينهره ويتركه يفعل ما يشاء، ومن جهة أخرى يبين استغلال السلطة الدينية لهذا الجهل والعمل على تكريسه. كما يبين لا أخلاقية رجال الدين الذين لا يتورعون عن استخدام سلطاتهم الدينية للوصول إلى ما تطلبه شهواتهم. و قد يقول قائل إن هذا معروف للجميع ، وهذا صحيح ولكنه ليس مكتوبا وليس مدونا، لأن الشفاهي يبقى متداولا في نطاق قرية أو مدينة، ولكن عندما يكتب يتعمم ويطير ويصل للجميع الأمر الذي يساعد أكثر في فضح هذه السلطات الدينية التي لا تتورع عن استخدام الدين(الرأسمال الرمزي للشعوب) في تبرير ما لا يبرر، كما في القول التالي:
أحد المشايخ الريفيين شرّد امرأة. فعيره أهل قريته، كيف يشرّد امرأة وهو رجل دين. فقال لهم: والله، ما لمستها إلا بعد أن قرأت عليها الفاتحة
***
جاءت امرأة ريفية بابنتها المريضة إلى شيخ القرية، ونقدته خمس ليرات، وطلبت منه أن يقرأ لها سورة من القرآن، لعل الله يشفيها. فاستقل الشيخ المبلغ وقال لها: والله، أردأ سورة “تبت يدا” (والكلام له) حقها أكثر من عشر ليرات.
***
وكذلك الأمر في كتابه المخصص لدراسة “النكتة”، التي يرى فيها نقدا لكل الأنظمة السابقة، ومتنفسا يعبّر من خلاله الواقعون في فخ السلطات عما يعتريهم من ظلم واستبداد، موجهين النقد المبطن والموارب متحدين في ذلك أنظمة الرقابة.
وفي كتابه شمسات شباطية، يقوم المثقف المشغول بفكر النخبة ووعيها عن ذاتها وعن العالم، بنقل مقاطع من مقالات وكتب قرأها وجمعها ليضعها في كتابه دون تعليق، وكأنه يضعنا أمام تاريخنا ونخبتنا العارية من فكرها، مرة لينتقد هذه النخبة من خلال قولها، ومرة لأن الكلام المقتطع يدل على حالة عربية مغرقة في الجهالة والتكفير، وفي النهاية يريدنا أن نكوّن فكرة عن الثقافة التي تحكمنا بأمراضها وازدواجية تفكيرها، ومما جاء في الكتاب ما يلي:
جريدة “الشعب” المصرية ذكرت “أن الباحث العراقي المتخصص في فسيولوجيا النبات، الدكتور رعد محسن المولى، قدم بحثاً فريداً من نوعه إلى المؤتمر العلمي السنوي لجمعية الباراسيكولوجي العراقية، الذي عقد في بغداد مؤخراً. وقد برهن الدكتور مولى في بحثه، واستناداً إلى تجارب علمية أجراها في كلية العلوم بجامعة بغداد، أن نباتات القمح التي تتلى عندها آية الكرسي وسورة يس والإخلاص والفاتحة من القرآن الكريم تحقق إنتاجية أعلى من المعدلات العادية بنسبة تصل إلى 175 بالمائة” نضال الشعب، 556، 20/4/1998، ص 12.
فهذا المقطع الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد خبر صغير، يحمل من الفجائع والفضائح ما يكفي للتدليل عما يريدنا أن نراه الكاتب، إذ نرى باحثا متخصصا في فيسولوجيا النبات، أي متخرج من كلية علمية، يبحث عن العلم في القرآن الكريم! الأمر الذي يحيل إلى جامعات مفرغة من العلم كليا، ونرى جريدة الشعب تنقل الخبر وتروج له في دلالة على التحالف القائم سياسيا ودينيا بمساعدة إعلام يروج التفاهات ويخدر العقول، ونرى من زاوية ثالثة الجريدة السورية التابعة للحزب الأكثر تكلسا في تاريخ اليسار العربي تنقل الخبر!
هكذا إذن تكتمل الدائرة وتبدو أعمال بوعلي الأخيرة، تطبيقا عمليا لكتابه الثالوث المحرّم، ففي الثالوث المحرّم كان النقد موجها نحو الأنظمة الفكرية للمحرمات الشهيرة أي يمكن اعتباره نقدا نظريا، وبينما هنا كان النقد عمليا أكثر، أي موجها نحو الأنظمة الاجتماعية والفكرية للجماهير التي تساعد عمل الثالوث في التحكم برقابه دون أن تدري، ولكنها بنفس الوقت تقوّض أنظمة فكره حال أمكن نقلها من الشفاهي إلى الكتابي، لأنها تحفر بعناية ودقة حول جذور المحرّم بكافة أشكاله، وتضعه أمام الناس الذين أنتجوه، ليصبح الناس هم أصحاب الأفكار المتمردة على السلطات والأديان.
هوامش:
*باستثناء كتابه الأدب والأيديولوجيا الذي كتبه بالتعاون مع نبيل سليمان، والذي ربما يحتاج وحده مقالا لتسليط الضوء عليه، وربما كانت الردود التي تلقاها بوعلي ياسين حول هذا الكتاب عاملا في تحوّل نظرته وطريقة تفكيره.
موقع الاوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى