الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةصفحات العالم

الأزمة الإيرانية: هروب النظام إلى الخارج

خالد غزال
تتميز الأنظمة الشمولية، ومنها النظام الإيراني، بسياسة ترمي إلى إبقاء الشعب في حالة من الاستنفار السياسي والأمني، مقرونة بتعبئة أيديولوجية تؤمن للنظام التماسك حول مؤسساته وقادته. في تاريخ هذه الأنظمة، فاشية، شيوعية، إسلامية…، يحتل استحضار العدو موقعاً مركزياً في هذا الاستنفار، بحيث يمكن أن يكون داخلياً، كما يمكن له أن يكون خارجياً. وإذا كانت الظاهرة عرفت ازدهاراً لدى النازية في تحديد العدو على أنه الشيوعيون واليهود، ووضع النظام الشيوعي الإمبريالية والرأسمالية في طليعة الأعداء، ولم ينج نظام مثل الولايات المتحدة من استحضار العدو الذي كان سابقاً يتمثل بالشيوعية، وبعد 11 أيلول (سبتمبر) بات التطرف الأصولي، فإن النظام الإيراني استحضر الغرب في وصفه «الشيطان الأكبر» وجعله في رأس المخاطر التي تهدد النظام منذ قيامه عام 1979. ازدادت وتيرة هذا الاستحضار في هذه الفترة مع اندلاع أزمة النظام، فاستعيد الخارج في وصفه المحرك لها، وعلقت على مشجبه كل عناصر الأزمة.
بصرف النظر عن ادعاءات أقطاب النظام الإيراني، الدينيون منهم أو السياسيون، فإن الأزمة الإيرانية المندلعة منذ الثاني عشر من حزيران (يونيو) والمستمرة بأشكال متعددة، كانت أزمة داخلية مئة في المئة، فجّرها التزوير الفاقع للانتخابات الرئاسية التي يقول الرئيس الإيراني السابق أبو الحسن بني صدر أن مرشد الثورة علي خامنئي هو الذي أمر بهذا التزوير منعاً لمجيء الإصلاحي مير حسين موسوي إلى الرئاسة. لم تكن الانتخابات والتزوير سوى الكاشف عن الغطاء لما يعتمل في الداخل الإيراني من تناقضات سياسية واجتماعية وثقافية، ومعها تكوّنت قوى مناهضة للنظام تحملها أجيال ولدت وترعرعت خلال حكم الجمهورية الإسلامية. في البدء انفجرت الأزمة على مستوى أركان النظام أنفسهم، وبانت تناقضات كانت لفترة زمنية غير معروفة الحجم الذي برزت فيه، وبان الانقسام أيضا ضمن المؤسسة الدينية الحاكمة والمشرّعة للنظام. لكن التاريخ يقدم لنا أمثلة على انفجار النزاعات والتناقضات ضمن المجتمعات، بحيث يمكن أن تندلع الأزمة في صعيد محدد وبقيادة سياسية معينة، ثم تفلت من أيدي الذين أطلقوها وقادوها. ليس المقصود هنا القول إن الأزمة الإيرانية وصلت إلى مثل هذا المنعطف على غرار ما يشير فيه التاريخ إلى الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 واتخذت مسارات تجاوزت المنطلقات والقوى التي حملتها. لكن ما هو في قيد الحسم والأكيد أن الأزمة الإيرانية أطلقت قوى سياسية واجتماعية وفكرية وجدت في الاعتراض على الانتخابات الوسيلة التي تعبر فيها عن تناقضها مع هذا النظام، بل مع غربتها الكاملة عن ثقافته وقيمه ومبادئه وانغلاقه وتحجرّه… في ظل نظام عالمي ونتاجات عولمة تخترق المجتمعات كلها وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة يستحيل عبرها وضع حواجز تمنع التأثر بهذه الثقافة أو تلك.
هذه الأجيال الناشئة، والانفصام بينها وبين قوى التقليد السائدة، وتعبيرها عن نفسها في النزول إلى الشارع وتحدي أعتى قوى قمعية تستند في قمعها إلى الأيديولوجيا الدينية المطعّمة بكل أدوات القمع المادي، هي الجديد الذي أظهرته حركة الاحتجاج، والذي شكل حجم نزولها إلى الشارع المفاجأة التي جعلت علماء السياسة والمحللين ودارسي التاريخ، ينظرون إلى الأحداث الجارية أبعد من الظواهر التي لا تزال تعكسها. يدل على ذلك حجم الدراسات والتحليلات والمقارنات مع أحداث تاريخية، للقول بأن جديداً قد صعد في إيران على صعيد التناقضات البنيوية، من دون الجرأة أو القدرة في الذهاب بعيداً إلى استنتاجات حول انهيار النظام وتوقع سقوطه وشيكاً، وهو ما يذهب إليه زعماء إيرانيون منهم رئيس الجمهورية السابق أبو الحسن بني صدر.
لم يستطع النظام الهروب في الأيام الأولى للأزمة من القول بأنها تدور في إطار الصراع على السلطة على المستوى القيادي في المؤسسة السياسية. وكانت الأجوبة تؤكد على الاحتكام إلى المؤسسات القانونية الموجودة التي وحدها تحسم في أمور النزاع القائم. وهو أمر حصل بالفعل من خلال العودة إلى مجلس صيانة الدستورالذي أكّد شرعية هذه الانتخابات. لكن هذا الجواب لم ينه الأزمة، بل أتى رفضه من المعارضة الإيرانية ليفتح الأزمة على مداخل جديدة من الاعتراض بدأ يتسع ويكبر مثل كرة ثلج، فدقّ أبواب المؤسستين السياسية والدينية، بالإضافة إلى انخراط قوى اجتماعية جديدة في الشارع. ترافق ازدياد الرفض بتسريع وتيرة القمع، الذي حدّ من زخم الشارع من دون أن يلغي حركته. فما كان على النظام سوى رفع وتيرة نبرة الاتهام بالتسبب في استمرار الأزمة ووضعها على عاتق الخارج.
من أجل نزع الطبيعة الداخلية للأزمة، استعاد النظام الاتهامات للغرب الإمبريالي وعلى رأسه أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ومعها العدو الصهيوني بوصفهم المحرضين والممولين والداعمين إعلامياً وسياسياً لقوى المعارضة الإيرانية. يضمر نقل التناقض إلى الخارج سعياً من النظام لامتصاص الداخل وتجسيم الأخطار المحيطة بالنظام والهادفة إلى إسقاطه ومعه المس بالقيم الإسلامية. يوفّر تحميل الخارج المسؤولية لأقطاب النظام استحضار ترسانة أيديولوجية ترمى في وجه المعارضين وتشكل مبرراً لتصفية حركتهم. تبدأ هذه الترسانة باتهامات القوى المناهضة للنظام بالعمالة إلى الخارج، وتتدرج بوسمهم بالخيانة العظمى، وتركز على أن الغرب الذي يقود المعركة ضد إيران إنما هو الغرب المسيحي الذي يقود معركة متواصلة منذ قرون ضد الدين الإسلامي وما يمثله من تعاليم وقيم. تكفي واحدة من هذه الاتهامات لتعطي النظام مبررات بقتل هؤلاء المعارضين الذين يعادون الله عندما يعترضون على ولاية الفقيه. هذه الترسانة من الاتهامات تزداد وتيرتها يوماً بعد يوم، وتتحول إلى الخطاب شبه الوحيد للنظام والدعايات التي تبثها وسائل إعلامه.
ولا يبدو في الأفق أن الأزمة الإيرانية إلى انحسار، في علم الانفجارات الاجتماعية، ولا يجري الاعتداد بنكوص محدد لحراك ما للحكم على انتهاء التحرك. فالحراك الاجتماعي الصاخب يمر في فترات هدوء وانكفاء بسبب عوامل متعددة، لكنه يعود إلى الانبعاث عندما تتوفر ظروف ملائمة، وذلك لأن التناقضات المولّدة لهذا الحراك ستعود وتفرض نفسها في السياسة والشارع.
وإذا كان النظام الإيراني قد هرب بأزمته إلى الخارج، فليس من المفيد كثيراً أن يظهر هذا الخارج متبنّياً لهذا الحراك أو داعماً إياه بما يتجاوز حدود التضامن. إن جرعة زائدة من الدعم الخارجي هي المطلب والمنال الذي يسعى إليه أركان النظام.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى