صفحات مختارةعلي الشهابي

الحياة المعاصرة تنتصر للثقافة والسياسة

null
علي الشهابي
يمكن تعريف الثقافة بأنها مجموع النتاج الفكري للمجتمع في مرحلة معينة، سواء تولّد هذا النتاج من مخزون تفكير المجتمع نفسه أو جاءه من خارجه وأمكن توطينه فيه بحيث يفعل فعله داخله كجزء لا يتجزأ من منظومته الفكرية. أما السياسة، المحكومة دوماً بمستوًى اقتصادي يؤشر إلى مدى التطور الاجتماعي، فهي الملاط الرابط لكل مستويات البنية الاجتماعية من اقتصادية وثقافية وحقوقية وسياسية جزئية، خاصة بإدارة الصراع السياسي بما فيه من خلاف واختلاف. وبهذا تحافظ عليها كمستويات وتضبطها بالحدود التي تبقيها مترابطة مع بعضها، ولولا ذلك لانفلت مجمل الترابط الاجتماعي ودخل المجتمع في الفوضى. ما يعني، في ما يخص العلاقة بينهما، أن هناك فارقاً بين السياسة كمستوًى رابط لمجمل مستويات البنية الاجتماعية وبين الأيديولوجيا السياسية كجزء من المستوى الثقافي.
إذا صار الأمر كذلك في مجتمعنا الآن، فهو لم يكن كذلك في ما مضى، بل كانت الأيديولوجيا السياسية الماحية ذاك الفارق منتفخة على حساب المستوى الثقافي… ولهذا كان ضامراً نوعاً ما، بدليل سيادة مفهوم الأدب الملتزم وقيام غالبية المثقفين بربط أنفسهم بالأحزاب السياسية، أو بتبني مواقف سياسية علناً. وحتى لو تمت مقاربة الموضوع من زاوية «إنه كان كذلك دوماً لكننا لم نكن نراه على حقيقته» فهذا لا يغير شيئاً والأدق إنها من قبيل الحطّ من منزلة العقل، لانطوائها على أن العقل لا يمكن أن يعرف الحقيقة.
أما التفكير العقلاني (وليس هناك تفكير غير عقلاني، بل هلوسات ذهنية من الخطأ تسميتها «تفكير») فيؤكد أن الفكر يعرف الحقيقة، لكنّ الحقيقة من طبيعتها أنها تتغير. ولأنها تتغير، قامت الأيديولوجيا بتخريج الموضوع عبر مقولات «النظرية دوماً رمادية، أما شجرة الحياة فخضراء» و «إن الخطأ يحايث الفكر». وتجاوزاً لهذه المشكلة، التي لا برهان منطقياً عليها، من الأيسر تناول الموضوع بالبساطة التي طرحه فيها البحتري عندما قال عن الدنيا:
تراها عياناً وهي صنعة واحدٍ فتحسبها صنعي حكيمٍ وأخرق
ما يعني أن أهم ما في الدنيا أنها تبدو للفكر كما لو أنه يسيّرها عاقل ومجنون. يلاحق الفكر مسارها بالتعقيد الذي صاغه به العاقل، وما إن يوقن أنه قبض عليه حتى يسارع المجنون إلى خلطه. وهذا ما فعله المجنون في العلاقة بين الأيديولوجيا السياسية والثقافة عندنا مع انتهاء الحرب الباردة، إذ بدت الأمور كما لو أن الحياة الاجتماعية أخذت تطرد الثقافة والسياسة. لكن الحقيقة أنها شرعت تطرد نمطاً من السياسيين المثقفين، والمثقفين السياسيين. وبطردها لهم، في ظل عدم تبلور النمط البديل، تبدو كما لو أنها تطرد السياسة والثقافة.
فالمعاصرون من الشعراء والروائيين والنقاد الأدبيين والرساميــــن والسينمائيين والموسيقيين وكتّاب القصة يؤثــــرون بلا شك في حياتنــــا الثقافيـــة، لكنهم لا يمكن أن يؤثروا بالطريقة التي كان يؤثّر بها نظراؤهم من قبل. وهذا مـــرده إلى اختـــلاف طــــرق اكتســاب الثقافة مع تغيّر نمط الحياة الاجتماعية، وليس لأن الحياة باتت تطرد الثقافة الراقية.
وخير دليل على ذلك ليس الكتاب بل السينما، مع أن حالهما واحد. فجمهورها الحالي ليس قليلاً جداً لأنها صارت تقدم ثقافة راقية، وإنما لأن من طبيعة الحياة أن تبهت فيها أشكال كانت متألقة وتولد أخرى تغني الحياة الثقافية بشكل مختلف، وعلى نحو أفضل. فالجيل المعاصر ليس بعيداً من «الثقافة الراقية» كما يُتهم، وإنما بعيدٌ عن الثقافة التي يعتبرها الجيل القديم راقية. وبالتوازي ما عاد المثقفون يدعون إلى مهمة موحدة، بل صار كلٌّ منهم يعبّر عمّا يعتقده الحقيقة… وهذا منتهى انتصار الثقافة.
أما بخصوص السياسة، والحديث عن نمط المثقفين الثوريين الذي كان سائداً في مرحلة الحرب الباردة، فقد كانوا مقتنعين بحتمية الثورة القادمة، والخلاف بينهم حول طبيعتها. من هذه الاستراتيجية استخلصوا وسائلهم النضالية، المتمثلة حصراً بالحفاظ على الذات أثناء مقارعة السلطات. ما يعني أن مهمتهم كانت استمرار تحريض الجماهير على الثورة حتى الساعة التي تثور فيها، عندئذٍ سيكونون قادتها بجدارة. هذه المهمة التحريضية وسيلتها الأساسية التحليل النظري للواقع لقول الحقيقة للجماهير. وهذه الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بالتثقف وزيادة التثقف وتثقيف الجماهير. وبالتالي كل ما تربوا عليه، وربوا الآخرين، هو التثقّف والتثقيف. هذه الآلية في العمل، كانت متناسبة وتلك المرحلة التي تلوح الثورة في أفقها. أما مع انتهاء تلك المرحلة، واندياح طوفان الديموقراطية وضرورة التطور الرأسمالي انطلاقاً من واقعنا الرأسمالي المتخلف، سرعان ما انتقلت استراتيجيتهم إلى المطالبة بضرورة الديموقراطية والإصلاح.
وكان هذا الانتقال ضرورياً، ومرحباً به من جانب الحياة. لكنهم لم يستنبطوا من استراتيجيتهم الجديدة وسائل جديدة في العمل السياسي، بل ظلوا يمارسون السياسة بنفس الوسائل القديمة المتأكدين من صحتها فقط لأنهم لا يعرفون غيرها. ولما باتت هذه الوسائل بالية، كتلك الاستراتيجية الثورية، من الطبيعي أن تفشل في استنهاض المجتمع. ولأنهم يعتبرون صحتها بداهة، والمجتمع لا ينهض، من الطبيعي (لأنه من المريح لهم) الاستنتاج بأن الخلل في هذا المجتمع الذي تربى قروناً على القمع وعلى ثقافة التخلف.
ولأنهم يدركون انعدام المنطق في قولهم «إن الخلل في المجتمع»، طالما أنه موضوع فعلهم، يصبّون جام غضبهم على السلطة الديكتاتورية ويحملونها المسؤولية عن عدم تجاوب المجتمع معهم. وتحميل المسؤولية للسلطة لا يقل تهافتاً عن تحميلها للمجتمع. فتحميلها المسؤولية معناه أنها هي المسؤولة عن عدم مساعدتهم في دفع الجماهير باتجاههم. فهل هذا ما يريدونه من السلطة الديكتاتورية؟ فالحكومة الديموقراطية لا تدفع الجماهير عنها باتجاه المعارضة، والأهم لو كانت السلطة ترغب بدفع المجتمع بهذا الاتجاه لدفعته من دونهم. ما يعني أنها تحتاجهم لهذا الدفع… لا المجتمع.
فهذه الطرائق التي ما زالت مسيطرة على العمل السياسي هي التي تموت، لكونها سياسة إصلاحية بوسائل ثورية. وبالتوازي، تتبرعم سياسة إصلاحية بطرائق إصلاحية. وهذا، بلا شك، انتصار للسياسة طالما أن المجتمع لا يتطور بمعزل عنها… فكيف من دونها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى