صفحات سوريةموفق نيربية

شواهد عن هَجر السلطة للنظام

null
موفق نيربية
درجت كلمة «النظام» في فضاء الثقافة السياسية العربية منذ زمن طويل، وتفاقم استخدامها في الستينيات من القرن العشرين خصوصاً. آنذاك، كانت تضفي جواً حماسيّاً: «الأنظمة التقدمية» و«الأنظمة الرجعية»، «الأنظمة الثورية أو القومية» و«الأنظمة العميلة». انتعش المفهوم كثيراً حين لم تستطع إسرائيل عام 1967 أن تُسقط النظامين التقدميين في مصر وسورية وباءت بالخذلان.
والنظام مفهوم ملتبس لدينا، كثيراً ما نعني به السلطة القائمة، أو نقصد به في الفترة الحالية تجريحها والتقليل من هيبتها أو شرعيتها. نخلط بينهما كما نخلط بين مفهومي الدولة والحكومة، وهذا موروث منذ الفترة المملوكية والعثمانية، وما قبلهما. لسنا معتادين على كون «الدولة» حيادية بطبيعتها، تقوم على قوانين وأنظمة وقواعد ومؤسسات لا تعترف برجل السلطة إلاّ بالتساوي مع غيره، وهي إن قمعت فلمصلحتها العامة وليس لمجرّد تلبية رغبة السلطة. ولعلّ هذا لا ينطبق على «دولنا» لأنها ليست مبنية على الأسس الحديثة تماماً، أو إلاّ بمقدار ونواح وحدود. فهنالك مماهاة بين «الحكومة» و«الدولة»، تنعكس في اعتبار المواطن أيَّ رجل أمن سري «دولة»، وهو يشتم الدولة حين يريد التعبير عن سخطه على الحكومة. يرى أيّ مواطن بسيط، أن السلطات لدينا- ولدى غيرنا- لا تقوم إلاّ على الطريقة السلطانية.
هنالك افتراق آخر بين «النظام» و«السلطة». النظام هو شكل الحكم وصيغته وأسسه ومؤسساته، والسلطة أداته العملية نظرياً، ومبدعته لخدمتها عملياً. وإذا أخذنا برأي الأستاذ المرحوم سعيد الأفغاني، وهو من آباء اللغة العربية في العصر الحديث، بأن الشواهد أهم وأقوى من القواعد، ربما نستطيع تفكيك بعض جوانب الأحجية.
تقول المادة الأولى من الدستور المصري إن «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة». وتقول الإشاعات إن السلطة شيء آخر، قد يكون مؤلفاً من الرئيس وركنيه ابنه ورئيس مخابراته مثلاً، والحزب الوطني والحكومة والأجهزة الموازية أدوات للحكم. وهنا درجة من التداخل والتأثير المتبادل يضمن فيها التاريخ والثقافة وحجم الدولة بعض التأثير والتأثير المتبادل، مما يضفي موضوعية معينة على شكل ممارسة الحكم.
وتقول المادة الأولى من الدستور السوري إن «الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية». والمادة الثانية إن نظام الحكم «نظام جمهوري» والمادة الثامنة إن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية». والمادة الثالثة عشرة إن «الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط»، والمادة الحادية والعشرون إن نظام التعليم والثقافة يهدف «إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه وأرضه معتز بتراثه مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية والإسهام في خدمة الإنسانية وتقدمها»… والمادة التاسعة والأربعون إن «التنظيمات الجماهيرية» تشارك مشاركة فعالة في تحقيق أمور محددة أولها «بناء المجتمع العربي الاشتراكي وحماية نظامه». وعلى الرغم من أن الأفغاني لم ينس أن يضع قواعد صارمة لذكر الشواهد، ليس هنا معرض تعدادها، فإنه نسي أن يقول إن استدعاء هذه الشواهد يجب ألآّ يكون مملاًّ للسامع أو القارئ. لذلك نقول إن دستور الدولة يحدد نظامها، لكن الباقي على الله ودرجة قدرتنا على الاستنباط أو الجرأة على الممنوعات والمحظورات.
في الشاهد الثاني ملامح شمولية وإيديولوجيا قومية اشتراكية، زاد في السنوات الأخيرة افتراقها عن نواظم عمل السلطة التي يمكن أن ينطبق عليها مفهوم التسلطية أكثر من الشمولية. وأصبحت هذه المفارقة تعبيراً عن أزمة كبيرة لن يكون ممكناً تجاهلها «إلى الأبد». بل إن الأزمة انتقلت لتصبح تفارقاً بين سلطة فعلية ونظام تهمله وتنتظر فعل عوامل الركود وانعدام الوظيفة فيه. لا يستطيع- مثلاً- مفهوم «اقتصاد السوق الاجتماعي» أن يحلّ هذه المسألة، لأنه مناقض لأسس الدستور أحياناً، ومناقض لنفسه أحياناً أخرى،فهو يُراد منه الإشارة إلى نمط النهوض الألماني بعد الحرب العالمية الأخيرة من جهة؛ ثم ترجمة كلمة «الاجتماعي» بـ«الاشتراكي»، لمن يريد ذلك من براغي النظام الأساسية، العتيقة التي مازالت تربط جسماً هائلاً ثقيل الوزن على السلطة وبرامجها العملية، من جهة أخرى. مجرد شواهد عن سلطة تفارق نظامها الهرم، فلا تبادر إلى مواجهة مشاكلها وجهاً لوجه، وتعلّق آمالها على الزمان وفعله المبني للمجهول، ورحم الله الأفغاني!

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى