الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

الأدوار “المصرية” التي تلعبها تركيا!

جهاد الزين
بعكس اهتمام العديد من النخب السياسية والاعلامية العربية، لم يظهر ان اقتراح الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى اقامة “رابطة دول الجوار العربي” والمبني على رؤية لموقعي كل من تركيا وايران حيال العالم العربي، قد اثار او يثير اهتمام النخب السياسية التركية. لم يتجاوز الامر ردود فعل الايام الاولى لقمة سرت العربية التي اطلق منها هذا الاقتراح مؤخرا والتي بقيت في اطار التغطية الاخبارية لا اكثر، دون ان يثير نقاشا ابعد رغم المكانة الخاصة التي اعطاها الاقتراح للدور التركي.
لست لأبحث عن اسباب عدم الاهتمام هذا هنا. لكن عمرو موسى هو عضو بارز في النخبة المصرية الحاكمة ومن هذا الموقع – غير المباشر – بدا اقتراحه اول اعتراف مصري باهمية المكانة الاقليمية الجديدة التي بلغتها تركيا. ربما قد يكون الاتراك، المجموعة الحاكمة الآن في “حزب العدالة والتنمية” ومن ورائها النخبة الاعلامية السياسية التركية، على حذر شديد من اي نقاش لموقع مصر مع معرفة هؤلاء الاتراك بالحساسية الشديدة غير المعلنة لدى رؤوس البيروقراطية السياسية والاعلامية – وحتى بعض الثقافية – في القاهرة من الدور المميز، بل الادوار المميزة التي باتت تلعبها تركيا.
صحيح ان ديناميكية الانفعال المصري السلبي – على هذا المستوى – تتجه نحو الدور الايراني، لكن لا ينبغي التقليل بالمقابل من الحساسية الضمنية حيال تركيا. الفارق الرئيسي هنا، ان الديبلوماسية التركية تتقدم الى مواقعها – بل مكاسبها – الجديدة كقوة استقرار في الشرق الاوسط او في مناطق اخرى كالبلقان والبحر الاسود والقوقاز وآسيا الوسطى، بينما حصلت ايران على مواقعها في السنوات الاخيرة، كقوة “عدم استقرار” اذا جاز التعبير الذي نستخدمه هنا كصيغة لدور ايديولوجي سياسي – امني ينسجم مع طبيعة النظام الايراني نفسه.
لكن في السنوات القليلة الماضية صار من المألوف في اي لقاء عربي تركي على المستوى الاكاديمي ان يكون موضوع “الفراغ الاستراتيجي” الذي شهده العالم العربي احد المواضيع الثابتة للنقاش، واحد المداخل الاساسية، ان لم يكن الاساسي لمناقشة الدورين التركي والايراني الصاعدين.
في بحثها الدقيق، الذي انعقدت ندوة مركز ابحاث TESEV في اسطنبول قبل ظهر يوم الاثنين المنصرم حوله تشير البروفسورة مليحة بنلي التونيشك رئيسة دائرة العلاقات الدولية في جامعة “الشرق الاوسط التقنية” في انقرة، وفي معرض رصدها لتباينات مواقف عربية ومصرية من تركيا، تشير الى اصرار بعض المعلقين العرب على تعريف تركيا بانها “قوة سنية” في المنطقة او انها جزء من “المحور السني” وهذا “على الرغم” وفقا لتعبير الباحثة “من محاولات تركيا الدائمة عدم تشجيع سياسات مذهبية في سياستها الاقليمية” وهي تعتبر في ما يبدو انه نقطة اجماع تقريبا لدى المعلقين الاتراك – ان “اي انحياز من هذا النوع سيؤدي الى جعل النفوذ التركي محدودا في المنطقة”. والباحثة تختار ما كنتُ شخصيا قد كتبته في ورقة قدمتها في اسطنبول في كانون الاول المنصرم حول ان “الموقف التركي المتزن جدا من الحساسية السنية – الشيعية كان مدعاة استقطاب للنخب العلمانية – الليبرالية العربية” كواحد من تعليقات التأثير الايجابي لهذا الموقف التركي في العالم العربي ضمن النظرة اليها كـ”قوة استقرار”. (ستكون لنا عودة مطولة لاحقا الى ورقتها والى التعليق الرصين الذي نشر معها للدكتور مصطفى اللباد في الكتيب الذي صدر عن TESEV بالانكليزية).
• • •
كما اشرت سابقا، اذا كان الكلام عن الدور التركي هو الآن “وجبة” طازجة حاضرة على كل “مآدب” البحث الاعلامي والاكاديمي والسياسي في المنطقة، فالمدهش، ايا تكن نسبة اختلاف الآراء بل حتى نسبة موضوعيتها، ان الموضوع الآخر “التوأم” الذي يرافقه هو “الغياب المصري”.
تعالوا نتساءل بقليل من التوغل التوصيفي – وموضوع مصر هو دائما موضوع “عزيز” في العالم العربي – عما يمكن تسميته بـ”الدوائر المصرية للدور التركي” اي بالادوار التي كان يمكن ان تكون فيها مصر لاعبة اساسية في ظروف اخرى وتتولاها حاليا تركيا:
1 – سوريا: هل كان يمكن للاحتضان التركي لسوريا (في الفترة الاصعب من تاريخ النظام الحاكم فيها) ان يكون بنفس الاهمية لو اختارت مصر سياسة “احتضان” لسوريا او سياسة اقل قطيعة معها ايام الصدام السوري – السعودي؟
2 – بمعزل عن كل الاعتبارات المتعلقة بالسياسات الايرانية “الثورية” في المنطقة هل كان حتميا ان تطول القطيعة الاستراتيجية المصرية – الايرانية كل هذه المدة (منذ عهد الرئيس السادات) ولا تستطيع القاهرة ان تجد صيغة اقل توترا لعلاقاتها مع ايران. فهل هي اكثر غربية وتحديدا على علاقات وطيدة مع واشنطن من تركيا العضو في الحلف الاطلسي؟ ألم يكن ممكنا في العقد الاخير على الاقل ان تجد مصر في ظل مبادرات عديدة جرت، معادلة اقل توترا للعلاقة مع ايران حتى في ظل الهجومية الايرانية؟
3 – اذا كانت القابلية السعودية، بحكم التكوين الداخلي للمملكة، للانخراط في الحساسية السنية – الشيعية، في مواجهة دولة شيعية كبيرة ومتحركة مثل ايران، هي قابلية مفهومة بل “تكوينية” كالقابلية الايرانية المماثلة، فأي مبرر لمصر، الدولة التي لا ضغط ديموغرافيا داخليا شيعيا فيها، ان تنخرط في الصراع السني – الشيعي الى هذا الحد، بينما هي كانت حتى في وضع افضل من تركيا لتلعب دورا محايدا، فيما “الحياد” لن يعني اي تقليل من اهمية مركزها الديني التاريخي الاستقطابي في العالم الاسلامي؟ تماما كما هو حال تركيا وريثة آخر امبراطورية سنية (وتعددية) في العالم المسلم.
تركيا لا شك على هذا الصعيد تأخذ الكثير مما كان يمكن لمصر ان تلعبه من دور… اسلامي سني استيعابي كما كانت في مراحل سابقة.
4 – اين مصر في العراق؟ لا اعني بعض العلاقات الديبلوماسية، ولا اعني ان يزورها سياسي عراقي كبير بعد 2003 من الشيعة او من الاكراد (جلال الطالباني كان دائما كلاجئ ايام الصراع مع بغداد في القاهرة او على علاقات جيدة مع القاهرة. اما زياراته اليوم الى مصر على اهميتها فهي كردية اكثر منها عراقية).
اين مصر صاحبة المبادرة في العراق؟ اين الديبلوماسية الحيوية والمتحركة التي لا يعجز عنها جهازها الديبلوماسي المدرب والعريق لو كانت هناك استراتيجية؟ واكاد اقول كما تعلمنا دائما من مصر اين المثقف والاكاديمي والرحالة الذي كان يسبق الدولة المصرية في “الريادة” الاستكشافية او السياسية للمنطقة كما كان يحصل حتى معظم ثلثي القرن العشرين؟
تركيا ايضا تأخذ من مصر هنا.
5 – لم اكن يوما ولن اكون مع ذلك النوع من التعبئة الاحراجية لمصر في حدودها مع قطاع غزة، خصوصا منذ بدأ الحصار الاسرائيلي على القطاع بعد سيطرة “حماس” عليه (والبادئ قبل سيطرتها مثلما هو حصار دائم على الضفة الغربية). فلمصر بدون شك التزامات واتفاقات دولية كدولة يجب ان تحترم نفسها. لكن هل ما حدث على الحدود، وفي التعامل السياسي مع موضوع غزة وحرب غزة، هو الشكل الوحيد الذي كان يمكن لمصر ان ترسمه هناك وفي هذا الموضوع؟ الم يكن بامكان مصر ممارسة ضغط سياسي اكبر على اسرائيل في ظل المنطق نفسه الذي يدعوها الى احترام التزاماتها؟ ألم يكن بامكان القاهرة ان تكون مسرحا اكثر تنوعا وذكاء في ممارسة دورها وموقعها الحساس؟
هنا أخذت تركيا – ولربما دون كلفة كبيرة في البداية – من “الدور” المصري المفتقد. اخذ الدور التركي يصبح مكلفا بشكل جدي مع انعكاسه المتوتر على العلاقات التركية – الاسرائيلية. لكن لكل دور كبير كلفة، بل مجازفة اكلاف.
• • •
لا يجب ان يغرينا تبسيط المقارنة الراهنة بين “التقدم” التركي و”التراجع” المصري في النطاق الديبلوماسي. فما اوصل تركيا الى ما وصلت اليه ليس حزبا واحدا او مجموعة حاكمة طارئة، بل سياق طويل من الانجازات التي صنعتها اجيال مختلفة وكان شرطها البنيوي الاول تطورا ضخما في الاقتصاد والتنمية والحراك الديموقراطي… اذن في بنية تحديثية داخلية تهيأت تركيا لتتحول من قوة انكفاء داخل حدودها الى قوة استقرار خارج حدودها.
ان “هذا العسكري السابق في التاريخ الذي يرتدي ثوب التجار اليوم في الشرق الاوسط واوروبا” – اي تركيا كما وصفها باحث اوروبي، لديه ما يقدمه الى محيطه…
– اسطنبول
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى