صفحات مختارة

إشكالات التحول الديموقراطي العربي وأسئلته المؤجلة

كرم الحلو
السؤال النهضوي القديم «لماذا تأخر العرب وتقدّم الآخرون» عاد بصورة أكثر إلحاحا وإرباكا بعد التحولات الديموقراطية التي شهدتها دول في جنوب أوروبا وشرقها، وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، في العقود الماضية، فيما شكّل العرب إزاءها استثناء لافتا، حيث ظلت أنظمتهم الاستبدادية والتسلطية سمة ناتئة في عالم يتجه في مسار جديد.
في هذا السياق يأتي المؤلف الجماعي «لماذا انتقل الآخرون الى الديموقراطية وتأخر العرب؟» مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009، حيث جهد المؤلفون من خلال المقارنة، للاستفادة من تجارب الآخرين، واستخلاص العبر والدروس. في دراسة مداخل الانتقال الى نظم حكم ديموقراطية، رفض عبد الفتاح ماضي نظرية التحديث المسبق التي أصبحت غير ذات فائدة. إذ هناك دول فقيرة وديموقراطية مثل الهند ومالي، وهناك دول ثرية وغير ديموقراطية مثل سنغافورة وبعض الدول العربية. ومن هنا لا تصنيف واحداً لكل التحولات الديموقراطية، فثمة أسباب وعوامل متعددة ومؤثرة في هذه التحولات، ما يفسر ظهور أكثر من سيناريو للانتقال الى الديموقراطية.
من هذه السيناريوهات: أ ـ سيناريو الانتقال من الاستعمار إلى الحكم الديموقراطي كما حدث في الهند وماليزيا. ب ـ سيناريو الانتقال التدريجي من نظام حكم الفرد أو القلة الى نظام الحكم الديموقراطي، كما حدث في اسبانيا والبرازيل وبولندا وجنوب أفريقيا والفيليبين وكوريا الجنوبية والمكسيك. ج ـ سيناريو انهيار نظام حكم الفرد أو القلة، كما حدث في البرتغال واليونان والأرجنتين.
في السيناريو الأول كما في الحالتين الهندية والماليزية، توافق القادة والنخب على تحويل التركيب السكاني المتنوع عرقيا ودينيا وثقافيا ولغويا الى عامل قوة ووحدة عن طريق إنشاء منظمات عابرة للقوميات والأديان، مثل حزب المؤتمر في الهند، وتحالف الأحزاب السياسية في ماليزيا.
وتمثل السيناريو الثاني في مناحٍ ثلاثة. في الأول مثل اسبانيا والبرازيل، ثم الانتقال من أعلى بقيادة الإصلاحيين من داخل النظام، حيث كان إيمان الجناح الإصلاحي داخل الجيش بالديموقراطية عاملا حاسما في عملية الانتقال ونجاحها. وفي الثاني جرى التحول الديموقراطي من خلال التفاوض بين النظام، أو الجناح الإصلاحي داخل النظام، وقوى المعارضة، كما حدث في جنوب أفريقيا والسنغال ومالي وأورغواي وبوليفيا وبولندا. أما في الثالث فقد جاء التغيير بفضل تصاعد الإضرابات والاحتجاجات الشعبية لإرغام الحكام على الاستجابة لمطالب المعارضة، كما حدث في الفيليبين وكوريا الجنوبية وأوكرانيا ونيكارغوا والمكسيك وأندونيسيا. فقد أدى توسع قاعدة المنادين بالديموقراطية الى دفع الفئة الحاكمة إلى مزيد من التنازل وإلى تخلي القوى الدولية عن النظام ومساندة المطالب الديموقراطية.
وفي سيناريو انهيار الأنظمة الديكتاتورية من الداخل نرى، كما في البرتغال ورومانيا واليونان، أن التحول الديموقراطي جاء نتيجة تظاهرات الطلاب والجامعيين والمثقفين وانقسام النظام وتأييد الجيش للمتظاهرين.
في كل هذه السيناريوهات تطلب الانتقال إلى الديموقراطية، تآكل أسس شرعية الأنظمة الاستبدادية وعدم قدرتها على الاستمرار، وتأييد الجيش أو جناح منه لعملية الإصلاح، في مقابل توافق القوى السياسية التي تنشد التغيير على القواسم المشتركة وتكتلها وقيادتها عملية التعبئة ضد النظام. وعرض الكتاب عقبات التحول الديموقراطي في العالم العربي من خلال دراسة بعض الحالات العربية، فرأى عبد الوهاب الأفندي أن السودان شهد انتقالا ديموقراطيا فاشلا مرات ثلاثاً، لعدم اعتماد الديموقراطية التوافقية، وتجاهل مطالب الجنوب وموقف الغرب السلبي من التحرك الديموقراطي. ورأى عبد النبي العكري أن فرصا ثلاثا أتيحت للبحرين للتحول ديموقراطيا، إلا أنها سقطت لعدم اكتمال المشروع الإصلاحي وانقسام المعارضة وتشتتها والانقسام الطائفي في الجمعيات الأهلية والتنظيمات السياسية.
وفي حالة مصر ذهب عبد الفتاح ماضي الى أن أبرز العقبات أمام التجربة المصرية، ازدواجية التعامل مع القضايا المتصلة بالديموقراطية كمفهوم وكنظام، والخلط بينها وبين السياسة الخارجية الأميركية، حتى عند المعارضة.
وعزا فؤاد الصلاحي عسر التوجه الديموقراطي في اليمن الى تركيب المجتمع اليمني، وضعف البناء المؤسسي في الدولة والمجتمع، فضلا عن تردي المشروع التنموي والصراع الداخلي بين قوى الإصلاح السياسي.
إزاء هذه الأحوال يراهن المؤلفون على بناء كتلة تاريخية ديموقراطية في كل بلد عربي على أساس قواسم مشتركة توحد المعارضة على اختلاف توجهاتها السياسية والايديولوجية، وهو الهدف المركزي الذي يدور حوله الكتاب من البداية.
لكن إذا كان الهدف محددا وواضحا، فكيف الوصول إليه ومن أين نبدأ وكيف؟ هل في الواقع العربي من التناقضات الاجتماعية والإثنية والطائفية والايديولوجية ما حال على الدوام دون تأطير الديموقراطيين العرب في موقف واحد موحد ضد الاستبداد؟ هل الإنسان العربي اللاهث وراء لقمة عيشه والذي يعاني من أمية كاسحة أبجديا وثقافيا، قادر على مواجهة مكر الأنظمة واستبدادها؟ هل بناء الكتلة التاريخية المرتجاة مسألة تمن ومناشدة أم مسألة تطور تاريخي لا يزال متعثرا إلى الآن؟ أليس ثمة عوامل تاريخية مهدت للديموقراطية عند غيرنا ولم تبلغ عندنا بعد مرحلة التحول في الاتجاه، وما هو دور الاستعمار والصهيونية في مثل هذا التحول؟ هل في «العقل العربي» و«الثقافة العربية» ما لا يتلاءم مع الديموقراطية كما يذهب دعاة التفسير الثقافوي للتخلف العربي؟ هل ثمة تغيير جذري في الأبنية الثقافية العربية لا بد منه لإحداث نقلة نوعية باتجاه الديموقراطية؟ أليست الديموقراطية بشكلها الحداثي مرفوضة من الإسلاميين الذين يشكلون السواد الأعظم من المجتمعات العربية؟ وهل هناك تصور واحد ومشترك يمكن أن يلتقي حوله أنصار الديموقراطية في العالم العربي، ويصلح لأن يشكل قاعدة الكتلة التاريخية المنشودة؟ وإذا أخذت في الاعتبار تحفظات الإسلاميين، هل يبقى من معنى للديموقراطية؟
أسئلة كثيرة، دقيقة ومعقدة، لا نجد إجابة عنها في الكتاب الذي حام من فوقها متعاملا معها بتعميم وتبسيط كبيرين مخلين، إلا أنه في المحصلة النهائية وضعنا وجهاً لوجه أمام إشكالات الديموقراطية في العالم العربي، ولعل في ذلك بداية التحول في الاتجاه الديموقراطي.
لماذا انتقل الآخرون إلى الديموقراطية وتأخر العرب؟
تأليف: مجموعة من الباحثين
مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009
304 صفحات.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى