صفحات الناسقصي غريب

رحل الأممي العذب !

null
الدكتور قصي غريب
1
في شهر كانون الأول تكون مدينة الحسكة على موعد مع المطر والعيد، فالسهول الشاسعة تنتظر المطر، لتنبت البذار سنابل القمح، ولتتفتح شقائق النعمان في الربيع، والناس الطيبون في المدينة يدقون بأحلامهم وآمالهم باب البهجة ليصنعون نشيد الفرح والحياة على هذه الأرض الطيبة ما يستحق الحياة:”مطر… مطر… مطر”، وفي مقدمتهم:طليعتهم الذين غدا لهم رأي ورؤية في ما يجب أن يكون عليه حال البلاد والعباد، فتدخل المدينة المعطاء التي هي:كدار البسطاء بدون رتاج صورة البهاء الأخيرة، وتحت رذاذ المطر، وأفراح العيد ينشدون، ولكن في هذه اللحظة الوردية لشبق الحياة، والتي يظهر فيها قوس قزح، ويطل على المدينة وأهلها من شرفته السماوية يغافلنا ويباغتنا ويغدر بنا القلب الكبير للوطني والإنسان سهيل راغب، فيهاجمنا بقسوة لم نعرفها أو نعهدها منه، فيجرحنا ويدمي قلوبنا ويرحل مبكراً قبل آوان الرحيل، ويتركنا ننشد وحدنا في العيد، وتحت رذاذ المطر نشيد المطر .
فلماذا يا أبو نوار تتركنا، وتذهب إلى أعماق الأرض وحيداً ؟ لتدمي سنابل القمح وشقائق النعمان، وتجرح المطر، وتجعل من شهر كانون الأول أدمى وأقسى الشهور علينا في المدينة التي أحببتها وأحبتك، لماذا كنت تعد لمشهد طقس آخر ؟ فيه تجرحنا وتدمينا وتبكينا، وأنت المؤمن بفلسفة الحياة، “وفي البدء كانت الكلمة”، ونهجك المحبة والتسامح والإنسانية، لماذا يا حبيبنا ترحل فجاءة وقبل آوان الرحيل ؟ ألم تكن بانتظار عودتي لننشد معاً في شهر كانون الأول نشيد المطر ؟ .
2
في المنفى سماع نبأ موت الأحبة مر، ويخلف في القلب جرح عميق وموجع، فعندما وصلت عبر الأثير هذه الكلمات الإلهية:البقاء لله، “إن لله وان إليه راجعون” توقف لحظة ايقاع الحياة، وساد الصمت والذهول والحسرة، لقد رحل المعلم بعد أن خذله قلبه، وهو يصعد إلى درج الغد، ورحل بعيداً عنا ليسكن في أعماق الأرض التي عشقها، ولينام نومته الأخيرة والأبدية، وكما أجهش المحبون بالبكاء في الوطن، أجهشت بالبكاء الحر والمر، فعلى أبي نوار يبكى، وعليه تبكي البواكي .
لقد رحل الأممي العذب ! المنتمي بشفافية إلى كل الأمم والأديان والطبقات، وكان على مسافة واحدة منها على الرغم من وفائه لانتمائه وإيمانه العميق به، لقد رحل فارس الماركسية اللينينية في مدينة الحسكة، فكبرت مآذن المساجد، وقرعت أجراس الكنائس، فبكى الجميع، وانتحب حزناً على رحيله، ولكن أكثر ما يخشى أن يكون قد رحل آخر فرسانها.
أيها الأخ الحبيب والصديق العزيز سهيل لقد كنت تحبني وأنا عندك، وأنا هنا، فبعد المسافات لم يقطع ما بيننا من وصل، فقد كنت منك على البعد كما على القرب، وكنا كل من موقعه ينشد أنشودة المطر حباً، وكنت دائماً تسألني:العودة لننشد معاً للوطن، ولكن اعترف الآن:بأني قد خذلتك ولم آت، وكنت بانتظاري كما كنت تنتظر الغد، ولكن حتماً سأعود، مثلما ينزل المطر ! .
أنت تعرف، وأنا هنا رحل الكثير من الذين نحبهم، ولم نبك ونحزن عليهم كما يفعل البشر على فراق أحبتهم، ولأنني لا أشعر إلا بمرارة فقدانك أستميحك عذراً، وأنا أعرف:انك تحبني أن أبقي في بئر القلب، وقاع العين:دمعتين لأبكيها بلوعة وحسرة على ثراك عندما أعود، وسأعود يوماً إلى الوطن، وسأبقى أنشد للمطر، ولكن سأبقى أفتقدك أيها المثقف الثوري الأسمر الجميل حياً، ولكنك في قلبي وعقلي روحاً وفكراً، فرحم الرب أبي نوار .
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى