ثورة ليبيا

“خيمة سرت العظمى”

أمين قمورية
قبل أسابيع كان مجرد توجيه انتقاد لفظي الى النظام في ليبيا  يعتبر ضرباً من ضروب الجنون، فعلى مدى 42 عاماً، اي منذ تسلم العقيد معمر القذافي السلطة بعد اطاحته حكم الملك ادريس السنوسي بانقلاب عسكري في “الفاتح من سبتمبر” (ايلول) 1969، اكمل نظام الحكم القائم في طرابلس مهمة تصحير ليبيا بالكامل، ليس جيولوجيا فحسب بل سياسياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً، اذ اجهز النظام على المعارضين او اصحاب الرأي الآخر وحتى انه “نظّف” البلد من كل انواع الحياة السياسية والمدنية والنقابية، ومارس قمعاً لا مثيل له ضد الحريات على اشكالها، لا سيما حرية التعبير والاعلام، وفرض سلطة ديكتاتورية وكرس عبادة الزعيم الفرد تحت شعار: “كل السلطة للشعب والجماهير”.
في اقل من اسبوع انهار النظام المرعب والمخيف كما تنهار قصور الرمل تحت ضربات امواج البحر. وخسر العقيد كل حصونه وقلاعه، ولم تنفع تهديدات ولده “السيف الخشبي” بالحرب الاهلية وتوعده بسفك انهار من الدماء، في لجم المنتفضين الذين كان انفجارهم عظيما بعد اربعين سنة من الضغط الهائل والكبت.
راهن العقيد على عصبية قبلية تتمحور حوله وتقيه “شر” القبائل المتمردة في بنغازي ومدن الشرق التي اعياها التهميش والتنكيل، وسعى اولا الى شراء ولاء هذه القبائل بالمال لضمان سكوتها على جرائمه، إلّا أنه عندما وجد شيوخ القبائل ان الاحتلال الايطالي كان اكثر رأفة بأبنائهم من “قائدهم المفدى” صاروا هم انفسهم عماد الانتفاضة وحماتها. ثم عمد العقيد الى تأليب قبائل الغرب والوسط والجنوب على قبائل الشرق ملوحا بفزاعة الحرب الاهلية التي لن تبقي ولن تذر. لكن ايام الثورة حملت له انباء غير سارة. رفلة، كبرى القبائل الليبية تنضم الى الثورة. قبيلة ترهونة التي شكل رجالها عماد الجيش الليبي طوال عقود تبرأت ايضا من النظام ورفضت الانسياق الى الفتنة التي دعا اليها “السيف الخشبي”. ولم تتردد قبائل الطوارق في الجنوب في رفع شعار اسقاط نظام القذاذفة  “الظالم  والمستبد”. ولم تتوانَ الزوي، كبرى القبائل في الوسط، من التحذير من منع تدفق النفط من آبار مناطقها الغنية اذا استمر تدفق الدم الليبي في مدن الساحل الشمالي.
دخل العقيد الحرب بلا عدّته القبلية وحتى بلا جيشه، بعدما امعن طوال سنوات في تفكيك هذه المؤسسة واذلال رجالها خوفاً من هوس بانقلاب عسكري يعده ضباطها تماماً كما فعل هو نفسه قبل اربعين سنة مع “سيده” الملك. وعندما انضم الجيش ورجال الشرطة المحليون الى اهلهم في انتفاضتهم لم يجد سلاحاً يخوض به معركة عمره سوى المرتزقة والمنبوذين من أفارقة وآسيويين.
“قائد ثورة الفاتح” و”زعيم الجماهيرية العظمى” و”ملك ملوك افريقيا” و”إمام المسلمين” و”عميد الحكام العرب” لم يجد من يخوض عنه حربه في الداخل، ولم يجد من بين موظفيه في الخارج من يدافع عن صورته التي لا يمكن تلميعها أبداً، بعدما انشق عنه ديبلوماسيوه الواحد تلو الآخر.
لن يبقى الى جانبه سوى افراد قبيلته الخائفين مثله على نفوذهم وجاههم وتسلطهم، علماً ان ولاء هؤلاء بات مشكوكاً فيه بعد انهيار الهيكل على رأس بانيه.
الحجر الثالث المرشح للسقوط في دومينو التغييرات الزلزالية التي عصفت بالديكتاتوريات العربية، بات معروفاً، لكن غير المعروف هو سرعة الايقاع. وفي أسوأ الاحوال فإن أقصى ما يمكن الزعيم المنبوذ فعله هو نصب خيمة في مسقطه سرت، يمكن ان يسميها “خيمة سرت العظمى” ليقود منها آخر حروبه المجنونة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى