صفحات سورية

العــــار

null

الياس خوري

هل تذكرون النابالم؟

في الخامس من حزيران سمعنا للمرة الاولي اسم هذه القنبلة الحارقة، التي تترك اثرا لا يمحي علي اجساد ضحاياها. كان النابالم هو الاكتشاف، حريق لا يمكن ايقافه، واجساد مشوهة وموت. الصورة التي انحفرت في ذاكرتي، عن تلك الحرب، التي اطلق عليها اسم حرب الأيام الستة، هي النابالم، والأجساد المحترقة، في زمن العار.

هذا هو الاسم الذي كان يجب ان يطلق علي تلك الحرب. كلمة نكسة التي اجترحها هيكل في خطاب الاستقالة الذي القاه عبدالناصر، تبدو مضحكة، وسخيفة. اما كلمة هزيمة التي شاعت بعد كتاب صادق العظم: النقد الذاتي بعد الهزيمة، فتبدو اكبر من الواقع. اذ لم يحارب احد، كي نتكلم عن هزيمة ثلاثة جيوش عربية، ما جري كان اشبه بكابوس، صنعه العار.

منذ عام 1967، والعالم العربي عاجز عن التعامل مع عاره. المقاومة الفلسطينية كانت ردا جزئيا، وحرب الاستنزاف كانت محاولة لاستعادة شيء من الكرامة، وحرب تشرين كانت احتمالا مجهضا، وبقي العار مرسوما علي الذاكرة والوعي.

حتي الاستسلام الذي اسسه انور السادات، لم يستطع ان ينسينا العار، بل جاء ليضيف عار الخنوع الي عار العجز.

ولعل اكثر علامات هذا العار بروزا، هو ان المؤرخين العرب، لم يكتبوا سردا موثقا لوقائع تلك الأيام السوداء علي الجبهات الثلاث. القائد الفعلي للجيش المصري، عبد الحكيم عامر انتحر ام قتل؟ الله اعلم، قادة سلاح الطيران المصري حوكموا، ولكن الحقيقة التاريخية لم تظهر بعد. اما علي الجبهتين السورية والاردنية فلا شيء، كأن لم تكن هزيمة ولا مسؤوليات، طوي الموضوع، وكان علينا ان نصدق المقولة البعثية الشهيرة ان حماية النظام اهم من حماية الاوطان!

نكتشف انه بعد اكثر من اربعين عاما علي تلك الحرب، فان الارشيف المتعلق بها لا يزال خارج امكانية الوصول اليه. وهذا يعني ان كتابة التاريخ العربي المعاصرعملية مستحيلة.

مؤرخو الحقبة الكولونيالية وجدوا الحل عبر اللجوء الي ارشيفات الدول الكبري التي تفتح في العادة بعد فترة زمنية محددة للباحثين. اما مرحلة ما بعد الاستقلال فيكتنفها الغموض، اذ لا ارشيف ولا من يسمحون. عليك ان تبحث في ارشيفات وزارات الخارجية للدول الكبري، او عليك ان تلجأ الي الارشيف الاسرائيلي، الذي يتعرض للعديد من عمليات المحو، بحسب المؤرخين الاسرائيليين الجدد. هكذا يبقي عار 1967، من دون قراءة علمية دقيقة، تكشف لنا عن هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا الحديث، التي لا نزال الي اليوم نعيش فيها.

لماذا لا يفتح ارشيف الجيوش المصرية والسورية والاردنية للباحثين؟

الجواب الأول هو التذرع بحجة الاسرار العسكرية، وهي حجة باطلة كما يعلم الجميع. اذ ان ما يسمي اسرارا ليس سريا سوي علينا. اما اسرائيل والولايات المتحدة فهما تعرفان تفاصيل التفاصيل. لذا تبدو هذه الحجة مضحكة وسمجة.

الجواب الثاني هو الخوف من الحقيقة، وهذا يعود الي الجمود السياسي في المشرق العربي. فحين لا يكون هناك تداول للسلطة، يصير الكلام عن الماضي كلاما عن الحاضر. حتي حين تنقلب السلطة مثلما حدث بعد الانقلاب الساداتي، فان كشف الارشيف يصير ادانة للنظام برمته. اما في سورية والأردن، فان الكلام عن حرب حزيران هو كلام عن النظام نفسه، فالأبناء الذين ورثوا الآباء لا يستمدون شرعيتهم الا من الماضي الذي صار حاضرا.

وحين لا يستطيع مجتمع سياسي التعامل مع الماضي في وصفه مضي، فهذا يعني ان الحاضر لا وجود له، او انه غائب تماما، وان هذا المجتمع صار اسير ماضيه.

لذا ليس مستغربا ان لا يقوم بالنقد سوي ماضي الماضي، وان تصير اللغة السياسية خاوية وميتة، ويهيمن الجهل وتجهيل المسؤوليات.

لكن المشكلة لا تقتصر عند علاقة المعرفة بالوثائق المحجوبة، بل قد تمتد الي علاقة الاعلام بالحاضر المعيش، بحيث يمنع الحاضر الصحافيين والباحثين من القيام بمهماتهم. وانا اتكلم هنا عن تجربة الحرب اللبنانية الطويلة، التي شهدنا في الأسبوع الثاني من ايار/مايو بعض احتمالاتها. كنا نعي، خلال الحرب، عجزنا عن الوصول الي مكان الحدث. فالانقسام الطائفي جعل من عمل الصحافيين اللبنانيين شبه مستحيل، اذ ان صفتك المهنية لا تحميك من امكانيات الخطف والقتل. كما ان تعامل قوات الاحتلال الاسرائيلية معنا، كان يعني منعنا من العمل في شكل عملي. لذا فان التحقيقات الصحافية عن حرب لبنان او عن الاحتلال، لا نجدها في الغالب الا منشورة في الصحافة الأجنبية، مع كل ما يحمله عمل الصحافيين الاجانب، رغم النوايا الحسنة عند الكثيرين منهم، من جهل وافتراضات استشراقية.

ولعل كشف مذبحة شاتيلا وصبرا، خير مثال علي ما نقول. فالعمل الاساسي قامت به وسائل الاعلام الاجنبية، لأنها كانت تحمل حصانتها، والكتاب الاول كتبه الصحافي الاسرائيلي الشجاع امنون كابيليوك، بمساعدة مناضلين ومناضلات فلسطينيين ولبنانيين، والنص الأدبي الأول كتبه جان جينيه، في عمل يمثل احدي ذري الابداع عند هذا الكاتب الفرنسي العظيم.

المسألة كما نري مرتبطة بمسألة واحدة اسمها الحرية والديموقراطية. لا معرفة بلا حرية، ولا قدرة علي ان نتجاوز العار بالمعرفة، الا حين نؤسس الحاضر، ولا نبقي امتدادا لماض يرفض ان يمضي.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى