صبحي حديديصفحات سورية

أفغانستان الراهنة: صناعة الحرّية أم تتويج أمراء الحرب؟

null
صبحي حديدي
في العاصمة الأفغانية كابول، أمام نعوش الجنود الفرنسيين العشرة الذين سقطوا ضحية كمين محكم (الخسارة البشرة الأفدح للجيش الفرنسي منذ ربع قرن، والأضخم في حادثة واحدة لقوّات التحالف الغربية في أفغانستان منذ 2002)، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنّ القوّات الفرنسية تتواجد هناك لكي ‘تلعب دوراً في حرّية العالم’، ولأنّ ‘المعركة ضدّ الإرهاب إنما تُخاض هنا’. من جانبه، لم يفوّت الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الفرصة السانحة للغمز من قناة جارته الباكستان، فاعتبر أنّ ازدياد أعمال العنف ناجم عن عدم الإنتباه إلى الملاذ الذي يمنحه البعض للعصاة. حصيلة تتكامل، رغم تنافرها الظاهر، بين البلاغة/ الجعجعة حول حروب الحرّية بالنيابة عن العالم (وكنّا نظنّ أنّ الحرب ضدّ الإرهاب تُخاض في العراق أوّلاً، على يد أبناء العمّ سام!)؛ والبلاغة/ السفسطة حول سبب واحد وحيد (المناطق الحدودية الباكستانية) لاستمرار العمليات ضدّ قوّات التحالف، وكأنّ الجنود الفرنسيين سقطوا هناك، وليس على مبعدة أميال قليلة من العاصمة كابول. هي، استطراداً، حصيلة ترحيل الفشل ـ المتعاظم على أصعدة عدة، سياسية وعسكرية واقتصادية ومدنية وثقافية… ـ إلى اعتبارات أخرى لا صلة لها بما يتطوّر على الأرض من حقائق راسخة.
ولكن، مَن ينتظر من ساركوزي أنّ يقول إنّ الفرنسيين سقطوا بسبب سياسة أطلسية خاطئة، بدأت على يد سلفه جاك شيراك وتفاقمت أكثر منذ أن دخل قصر الإليزيه، افترضت أنّ نشر المزيد من القوّات سوف يصنع الديمقراطية، بعد أن يفرض الأمن والإستقرار؟ الحرّية التي من أجلها ينتشر الفرنسيون في أفغانستان ليست غائبة عن الشارع الشعبي العريض والمجتمع بأسره فحسب، بل هي الغائب الأكبر عن البرلمان الأفغاني نفسه: مفخرة كوندوليزا رايس وزلماي خليلزاد ورهط المحافظين الجدد هنا وهناك في الثقافة السياسية الغربية، وليس في أمريكا وحدها. وإذا كان الطالبان و’الحزب الإسلامي’، بزعامة رئيس الوزراء الأفغاني الأسبق قلب الدين حكمتيار، قد تنازعا المسؤولية عن الكمين الذي نُصب للجنود الفرنسيين، فإنّ أمراء الحرب المسيطرين على البرلمان الأفغاني لا يختلفون البتة حول مسؤولية وأد الحريات، على قلّتها وضآلتها، بل يتفاخرون بنسبها إلى أنفسهم.
آخر الوقائع الصارخة كان تجميد عضوية النائبة مالالاي جويا في البرلمان لمدّة ثلاث سنوات، المنتخَبة شرعياً عن منطقة ‘فرح’ رغم أنها لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد. جريمة جويا أنها، منذ عام 2003 عند انعقاد مجلس الـ ‘لويا جرغا’ للتصديق على الدستور الجديد، لم تتوقف عن فضح أمراء الحرب الذين يعيثون في البلاد فساداً، ويحظون بدعم مزدوج من رجال كرزاي والسفارة الأمريكية. إذاعة الـ BBC أطلقت على جويا لقب ‘أشجع امرأة في أفغانستان’، أمّا زملاؤها أمراء الحرب في البرلمان فقد اختاروا لها سلسلة ألقاب تتراوح بين ‘الكافرة’ و’الشيوعية’ و’العاهرة’! وهل في وسع كرزاي أن يصغي إلى ما تقوله النائبة الموقوفة جويا، أو سواها، حول عشرات التفاصيل المرعبة في هذا الملفّ؟ ومؤخراً، في حوار مع فاروق سوليهيريا، الصحافي المقيم في السويد، قالت جويا إنّ الولايات المتحدة تريد إدامة الوضع الراهن في أفغانستان، حيث البلد ينزف ويعاني، لأنّ هذه هي أفضل الذرائع لبقاء الإحتلال الأمريكي. أكثر من هذا، إنهم لا يتورعون عن مغازلة رجال الطالبان أنفسهم، كما حدث مؤخراً حين أصدر كرزاي قراراً بتعيين الملا سلام، القائد السابق في الطالبان، محافظاً لمنطقة ‘موسى قلعة’. والشارع الأفغاني الشعبي يقيم، في يقينها، درجة عالية من التماهي بين الوجود العسكري وأمراء الحرب، بدليل التظاهرات الحاشدة التي تخرج رافعة شعارات ضدّ الفريقين، على قدم المساواة.
ثمّ هل ننتظر من كرزاي أن ينتبه، بدوره، إلى أكثر من ملاذ آمن يمنحه أمراء الحرب هؤلاء إلى مجموعات الطالبان، لأسباب عديدة جلية تخصّ ديمومة مؤسسة استثمارية استحقّت بالفعل لقب ‘شركة الجهاد العالمية’ Jihad Enterprise International، أنتجت شبكة مصالح إقتصادية ومالية واسعة النطاق، وتاجرت بالسلاح والسلع المهرّبة والمخدّرات أساساً؟ ومنذ عام 1988 كانت مجلة The Nation الأمريكية قد كشفت النقاب عن حقيقة تغاضي المخابرات المركزية الامريكية عن عمليات تهريب المخدرات في الشاحنات الأمريكية (نعم: الشاحنات الأمريكية!) التي كانت تنقل السلاح والمؤن للمجاهدين من ميناء كاراتشي إلى بيشاور. وهل نتوقع من كرزاي، حامل الجنسية الأمريكية، أن يتنبّه إلى حقيقة بسيطة مفادها أنّ تلك المؤسسة القديمة ـ الجديدة القديمة نهضت بتخطيط مباشر من الإستخبارات الأمريكية، تحت إشراف زيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في رئاسة جيمي كارتر (الذي، للإيضاح، يقدّم المشورة اليوم إلى المرشح الديمقراطي باراك أوباما)؟ هذا الرجل كان مهندس توريط السوفييت في أفغانستان، وإطلاق تلك الصناعة الجهادية التي أعطت الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن، وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم. وفي حوار شهير نشرته أسبوعية ‘لونوفيل أوبزرفاتور’ الفرنسية سنة 1998، أعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان. وحول ما إذا كان يندم اليوم على تلك العملية، ردّ الرجل: ‘أندم على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ في يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً، كتبت مذكرة للرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الإتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به’. ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية وما أسفر عنه ذلك الدعم من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل، فيجيب بريجنسكي: ‘ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الهائجين الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة’؟ والمرء يعود بالذاكرة إلى خريف 2001، عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان، حين لاح أنّ عودة الموسيقى إلى شوارع كابول، ومسارعة الشبان إلى قَصّ اللحى، وتهافت أبناء القبائل على تبديل الولاءات والبنادق من صفّ إلى صفّ ومن كتف إلى كتف… كانت أبرز، وأوضح، علائم انتصار الولايات المتحدة في أولى جولات ‘الحرب ضدّ الإرهاب’، كما قيل لنا. ورغم أنّ عودة الموسيقى إلى آذان الأفغان ليست بالأمر التافه بالطبع، غير أنّ المرء لا ينتظر من أمريكا أن تذهب إلى الحرب دفاعاً عن غاية ثقافية مثل هذه، فكيف بتنفيذ غزو عسكري شامل من أجل إحياء الحرّيات العامّة وإقامة نظام علماني ـ ديمقراطي هناك.
ثمة، إذاً، عمل كثير كان ينتظر الولايات المتحدة، وحليفاتها بالطبع. وتلك، في عبارة أخرى، كانت بداية إعادة إنتاج ورطة الجيش الأحمر السوفييتي هناك: مستنقع حروب العصابات، وحروب الطوائف، وحروب القبائل. ذلك لأنّ أفغانستان الراهنة، أو ربما أفغانستان ما بعد حكم الطالبان، لم تكن تبدو مختلفة كثيراً عن أفغانستان ما بعد انسحاب السوفييت في عام 1989، وهي ما تزال إمارات مبعثرة قائمة على الولاءات الإثنية والقبائلية أكثر من الخطوط الإيديولوجية والتيّارات الحزبية، ولم يكن يضاهي الإضطراب السياسي الشامل سوى الفوضى العسكرية المنطوية على كلّ المخاطر.
وهكذا فإنّ الأسئلة القديمة أعادت إنتاج نفسها تباعاً، وكأننا أخذنا نعيش مرحلة ما بعد انسحاب الإتحاد السوفييتي وسقوط نظام نجيب الله: أيّ أفغانستان يريد العالم بعد سقوط نظام الطالبان؟ وإذا فشلت معظم المجموعات القبائلية والإثنية في الإرتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، فهل ستواجه البلاد مخاطر انقسام الأمر الواقع، وفق خطوط إثنية ومذهبية وقبائلية تُجهز على ما تبقّى من وحدة إجتماعية ـ سياسية في طول البلاد وعرضها؟ هل ستبادر أية قوّة إقليمية (الباكستان؟ إيران؟ روسيا؟) إلى ‘لَبنَنة’ أفغانستان على غرار ما فعلت سورية في لبنان؟ أو ربما ‘عرقَنة’ البلد، كما نقول بعد اتضاح مخاطر تقسيم العراق؟ وكيف يمكن للإنشطار السنّي ـ الشيعي أن يؤثّر على العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية خصوصاً؟ وأين ستقف الولايات المتحدة والقوى الغربية عموماً من مسألة تقسيم واقتسام النفوذ الإقليمي بين روسيا والصين والباكستان وإيران والهند والجمهوريات الإسلامية المجاورة؟ وفي ورقة بعنوان ‘الدول الماركسية ـ اللينينية الجديدة والصراع الداخلي في العالم الثالث’، كُتبت سنة 1985 بتكليف من مؤسسة Rand Corporation الأمريكية، اعتبر فرنسيس فوكوياما أنّ أفغانستان هي البؤرة الأهمّ بين جميع المراكز المناهضة للشيوعية (أو ‘حركات التحرّر الوطني’ كما كان يحلو له وصفها). لكنّه اعترف بأنّ البلد يتّصف بشخصية إسلامية شديدة المحافظة، ‘في عالم يشهد صحوة إسلامية لا سابقة لها’. وإذا كانت صفة ‘المحافظة’ هذه تطبع العديد من الدول الإسلامية الحديثة، فإنّ ‘قلّة قليلة من هذه الدول ما تزال على هذه الدرجة من التداخل القَبَلي والنأي عن الثقافة الحديثة’. ‘حركة التحرر الوطني’ تلك انتصرت بعدئذ، وسقطت كابول وسط هتافات ‘المجاهدين’ وغبطة ضبّاط المخابرات المركزية الأمريكية وضبّاط المخابرات الباكستانية وضبّاط الجيش الأحمر على حدّ سواء. وهكذا انطوت صفحة 14 عاماً من حرب العصابات التي أودت بحياة ما يقارب المليونين، وشرّدت سبعة ملايين داخل البلد، فضلاً عن خمسة ملايين مهاجر عاشوا على الحدود مع باكستان وإيران. آنذاك لم يكن التاريخ قد انتهى تماماً في نظر فوكوياما، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تكون أفغانستان بلداً إسلامياً محافظاً ومتخلفاً من جهة؛ وأن تكون ‘حركة تحرر وطني’ من جهة ثانية، دونما تناقض أو تعارض أو تنافر! كذلك كان طبيعياً تماماً أن يكون رجل مثل أسامة بن لادن، أو أستاذه ومعلّمه الروحي عبد الله عزام، أو سائر ‘الأفغان العرب’، في عداد أبطال حركة التحرّر الوطني الذين تعتدّ بهم الولايات المتحدة، وتمتدح ما قدّموه من خدمات ضدّ الشيوعية. الأبطال هؤلاء صاروا، كما هو معلوم، أهداف الحرب الشاملة التي تشنّها الولايات المتحدة في أفغانستان، وفي العراق، وفي مشارق الأرض ومغاربها! وهذا النوع من المفارقة الأمريكية ليس جديداً ولا مفاجئاً، ومثله امتناع فوكوياما هذه الايام عن استخدام تعبير ‘حركة تحرر وطني’ في وصف أفغانستان. وكيف له أن يفعل بعد أن مات التاريخ في النظرية، ثم بُعث من القبور ليمشي على قدميه في مزار الشريف وكابول وقندهار، بعيداً تماماً عن النظرية، في هيئة أشباح تخيّم بظلالها الدامية الثقيلة على خرائط الأرض التي قيل إنها هدأت واستسلمت لجبروت الإنسان الغربي الأخير، حيوان اقتصاد السوق، وحيد القرن، خاتم البشر والصراعات والنظريات والأيديولوجيات؟ وإذْ يتشدّق بالحديث عن صناعة الحرّية في أفغانستان، لعلّ من الخير للرئيس الفرنسي أنّ يتذكر صناعات أخرى: حركة الطالبان صُنعت في ‘شركة الجهاد العالمية’، وانقلاب أسامة بن لادن من ‘مجاهد’ و’مقاتل من أجل الحرية’Freedom Fighter (حسب عبارة رونالد ريغان) إلى ‘عدوّ الإنسانية رقم واحد’ كان صناعة تلفيق أمريكية كلاسيكية، وليس بالموسيقى وحدها تُصنع حرّيات الأمم! ‘
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى