صفحات سورية

الفوضي اجدي من اساليب غاندي

null


محمد كمال غانم

عميرا هاس كاتب في صحيفة هآرتس الاسرائيلية كتب مقالا نشرته القدس العربي في قسم الصحف العبرية في الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي، يقترح فيه حلا لقضية الحواجز الاسمنتية والترابية والتي تسد منافذ الطرق في المدن والقري الفلسطينية في الضفة الغربية، ألا وهو العصيان المدني الّذي تبناه المهاتما غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني في القرن الماضي،
ويتساءل هاس متوجها برأيه هذا لقادة السلطة الفلسطينية، وليس لملايين الفلسطينيين الذين يخوضون برأيه في كل يوم كفاحا مسلحا ضد أجهزة قمعية متطورة وماهرة فيقول: ان من الممكن ارسال جرافة في كل يوم وبتمويل من السلطة لإزالة واحد من تلك الحواجز التي تسد منافذ القري الفلسطينية، وان علي كبار المسؤولين في السلطة أن يرافقوا الجرافة. من مكتب محمود عباس بمن في ذلك هو نفسه، ومن رؤساء اللجان الأمنية وأعضاء اللجنة المركزية ل م. ت. ف وكبار المسؤولين في فتح ووزراء حكومة ومدراء.

ويضيف بأنه اذا كانت هناك شوارع محظورة علي الفلسطينيين فيجب أن يخرج كل هؤلاء المسؤولين والقادة وسكان الضفة في قافلة طويلة من السيارات ويسافرون عبرها.

عدد كبير من الاسرائيليين سيسعدهم هذا وينضمون الي هذه القافلة. يعود الفلسطينيون الي البلاد. وان اعتُقل كبار المسؤولين المرافقين لهذه الفعاليات، فهذا جيّد.

ويعقّب الكاتب الاسرائيلي قائلا بأن هذه الفعاليات لم توقف الاستعمار الكولونيالي وحدها، ولكنها تنطوي علي طاقة كامنة أكيدة لتحطيم الوضع الراهن المريح جدا لاسرائيل (توسيع المستوطنات، المفاوضات الي ما لانهاية، التنديد، اطلاق النار). ويجيب هاس علي اقتراحه هذا بقوله: ان هذه الرؤية المنهجية لا تمتلك أية احتمالية، لأن قيادة السلطة الحالية و م. ت. ف اعتادت علي العيش كطفيلية، هي تخلط بين مصالح شعبها وبين مكانتها التنفيذية المريحة نسبيا، التي أُعطيت لها مقابل استعدادها للمشاركة في المسرحية التي تمليها أمريكا وأوروبا لصالح اسرائيل.

ان ما يطرحه الكاتب من أساليب العصيان المدني والتي اعتمدها المهاتما غاندي، لإزالة حواجز الذل بين القري الفلسطينية، أكثر تبسيطا للواقع، فالوقائع المنهجية علي الأرض تغيرت، والاستعمار البريطاني في الهند لم يدّع في يوم من الأيام أن الهند تخصّه وحده، وكذلك الزمن الكولونيالي في ذلك الوقت كان في انحسار مضطرد في العديد من الأماكن، أضف الي ذلك أن التأييد الدولي لنضال الشعب الهندي، لم يحظ به الشعب الفلسطيني في هذه الأوقات، وحتي المحيط العربي الذي من المفترض أن يقف بجانب الشعب الفلسطيني لما يحمله كلا الطرفان من روابط، هو في حقيقة الأمر يعكس نظرة الولايات المتحدة وأوروبا للمشكلة بشكل عام، أي ان الواقع الفلسطيني يفتقد الحد الأدني من المساندة العربية، اللهم إلا من الصدقات التي يمر بعضها عبر أنفاق رفح الي الجزء المحاصر من أبناء قطاع غزة، حيث حماس هي المسيطرة علي واقع الأمور. أمّا الضفة الغربية والتي يقصدها الكاتب في مقاله، فهي تختلف نظرا لوجود سلطة م. ت. ف في رام الله، والتي تتلقّي ملايين الدولارات من دول الغرب وخاصة من الولايات المتحدة للحفاظ علي الواقع الراهن، وتقطيع الوقت في مفاوضات عبثية، كلما طالت كلما تغيّرت معالم المشكلة لصالح الكيان الصهيوني بالطبع، الي أن يأتي اليوم الذي لا يجدي فيه أي تفاوض. وهنا تدخل القضية في رحم النسيان، ليبدأ التفاوض علي أشياء طارئة أخري في الشرق الأوسط أكثر أحقية بالتفاوض.

واذا ما نظرنا الي الأوضاع علي مختلف الصعد الفلسطينية والعربية والدولية، فاننا لا نجد في أيها ما يبشّر بانفراج أو تقدّم نحو حل، فالشعب الفلسطيني تنخره النزاعات، جزء في الضفة الغربية بقيادة فتح وهي التي تتلقّي الدعم العربي والغربي حتي تظل محافظة علي الدور الّذي أوكل اليها بالتفاوض مع اسرائيل والمشاركة في حصار حماس في قطاع غزة، ولا يخلو تصريح لأي من مسؤولي فتح بالتهديد والوعيد لحماس اذا لم تتراجع وتندم علي فعلتها التي أخرجت فتح من القطاع، اذا أرادت أن تعود الي بيت الطاعة الفتحاوي والا فالحصار سوف يستمر بل ويشتد عنفا وقسوة. ولست أدري ما الذي تعلمته فتح ـ ان كانت قد تعلّمت شيئا عقب أحداث حزيران (يونيو) من العام الماضي ـ ولماذا حصل.. ما حصل؟

شخصيا أعتقد أن علي فتح أن تأخذ عبرة مما حدث، وأن تحاسب نفسها، لأن ما حدث في قطاع غزة في حزيران (يونيو) من العام الماضي، لم يكن وليد الصدفة، وانما هي تراكمات تكدست علي مدي أكثر من عشر سنوات، أي عقب عودة منظمة التحرير الي القطاع والضفة عقب اتفاقية أوسلو 1993، فالأجدر بفتح بدلا من المطالبة بعودة قطاع غزة في السر والعلن الي ما قبل حزيران (يونيو)، أن تطل علي شعبها بوجه غير الوجه الذي جاءت به من المنفي، وأن تطلب السماح والعفو من أبناء شعبها عمّا حدث طوال تلك الفترة. أمّا أن تهدد وتتوعد دون أن تحاسب نفسها وتعترف بذنبها فلن يقبل شعبها في القطاع بعودتها مهما طال الحصار واشتدّت الأزمة.

أمّا علي الصعيد العربي، فالعرب ـ وأقصد هنا الأنظمة العربية ـ أصبحوا أبعد ما يكونون عن هموم شعوبهم، فكيف بهم يكونون أقرب الي الشعب الفلسطيني ومأساته. فالعراق يقطر دما من كل أطرافه، ومصر في انتظار الوريث القادم، وازمة الرغيف لا تترك مجالا للمصري أن يفكّر في شي آخر، والحكومة تقف في وجه حماس وتضيف حائطا اضافيا في وجه فلسطينيي غزة حتي تكسب الرضي الغربي وتثبت أهليتها للدعم الأمريكي الذي يمد في عمرالنظام الي أجل مُسمّي.

وبقية الأنظمة العربية جلّها يتحّسب من الآخر ويتخوف من ايران وبرنامجها النووي وايديولوجيتها الشيعية التوسعية التي أصبحت تقض مضاجع الغرب، الذي أفرغ قاموس التهديد من كل المصطلحات التي كان يأمُل أن تفت في عضد ايران، ويحملها علي التسليم للاملاءات الغربية، التي كانت تأمل أن تكون التجربة الليبية في هذا المجال هي الأكثر تطبيقا في المسألة الايرانية.

أما الأوضاع الدولية، فهي أكثر تعنّتا وأكثر انسجاما من أي وقت مضي مع السياسة الأمريكية خاصة بعد عدد من الانتخابات في الدول الأوروبية التي أتت بساركوزي الي قصر الاليزيه في فرنسا، وكذلك الانتخابات الألمانية التي جاءت بالمستشارة الاتحادية أنجيلا ميركل.

جميع هذه الاعتبارات تجعل من القضية الفلسطينية أكثر ابتعادا عن الاهتمام الجدي الاقليمي والدولي.

اذن فالقضية الفلسطينية تتنحّي جانبا، لقضايا أخري أكثر أهمية في نظر الغرب، وخاصة أزمة ارتفاع أسعار البترول التي توشك أن توقف سنوات الازدهار الاقتصادي العالمي، وكذلك أسعار الدولار الذي قضمته سياسة بوش اللامسؤولة.

وبالعودة الي الحل الذي طرحه هاس في مقاله وهو الطريقة الغاندية لإزالة السواتر الترابية والاسمنتية التي تفتت أجزاء الضفة الغربية، أري حلا أكثر مصداقية وديمقراطية، ألا وهو أن تعلن القيادة الفلسطينية افلاسها وفشلها في تحقيق آمال شعبها، وأن تتقدم باستقالة جماعية واضعة الغرب والعرب والمجتمع الدولي أمام مسؤولياته. وهذا الحل في رأيي لن يكون أكثر سوءا من أن تبقي القيادة الفلسطينية تلعب هذه اللعبة الكاذبة. لن يقف المجتمع الدولي والغرب حينها غير مبال لأن المنطقة برمتها وليس الأراضي الفلسطينية فحسب سوف تدخل في أتون من الفوضي والعنف الذي لن يسلم منه نظام، ولن تكون اسرائيل بمنأي عن هذا الأتون، وسيطال الارهاب أماكن لم يصلها من قبل.

فهل يقبل العالم أن تصل الأمور الي هذا المستوي المرعب؟ بالطبع لا.

كل الاحتمالات مفتوحه، ومهما كانت سيئة فلن تكون أسوأ مما هي عليه الآن.

صحافي فلسطيني مقيم في السويد
القدس العربي

15/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى