صفحات الناس

البيضة أم الدجاجة

null
ابراهيم صمويل
على نبل المقصد من القيام بحملات توعية أهلية تتعلق بالحفاظ على البيئة والاهتمام بالنظافة، وانتماء أصحاب الحملات العميق إلى الوطن وحرصهم على ازدهاره وتقدّمه، ورفع الشعور بالمسؤولية لدى كل فرد من الأهالي إزاء المسائل والقضايا العامة… فإنني أرى أن مسؤولية الحفاظ على البيئة والاهتمام والعناية بها والإفادة منها للصالح العام هي مسؤولية رسمية حكومية أولاً، ومن ثم ـ بعد ذلك لا قبله ـ مسؤولية أهلية شعبية.
والأمر في تحديد أولوية المسؤولية في هذا الشأن ليس مجهولاً ولا محيّراً كالسؤال التقليدي عن أسبقية الوجود للدجاجة أم للبيضة؟ بل هو ذو أولوية واضحة تبدأ بدور الجهات الرسمية وأنظمتها وآليات مراقباتها ثم تنطلق نحو الجهات الأهلية الشعبية. من دون ذلك تبدو لي الحملة ـ على نبالة مقاصدها كما قلت ـ أشبه بصرخة في البريّة تذهب سدى وتضيع ما لم تقم الجهات الرسمية، قبل الحملة، بدورها.
والكل يعلم أن الناس، في البلدان المتقدّمة والمحافظة على بيئتها ونظافتها العامة، إنما اكتسبوا عاداتهم الحضارية فضلاً عن الهيئات التعليمية والتدريسية والمؤسسات التربوية والإعلامية وغيرها.. إنما اكتسبوا عاداتهم من قوانين وأنظمة سارية ومضبوطة وضابطة لا تستثني أحداً أو جهة، ولا يُعمل بها في المواسم والمناسبات فقط!.
وفي الواقع لا أحد يجهل أهمية وضرورة وفائدة النظافة والحفاظ على البيئة، لا الجهات الرسمية الحكومية ولا الأهالي والسكان الذين يرضعون مع حليب أمهاتهم مقولة: “النظافة من الإيمان”. الكل يعلم حق العلم، وكل ما في الأمر كيف نحقق ذلك عملياً على الأرض.
قطع الأشجار، وتصحير المناطق الخضراء، وخنق رئات المدن بالأبنية الإسمنتية العشوائية والمخالفة لا يمكن إيقافها بل ومنع حدوثها أصلاً عبر نصيحة جارٍ لجاره، أو عظة، أو مسلسل تلفزيوني، بل هي من مهام جهات رسمية حكومية تملك الحق بحكم القانون بالقيام بالمراقبة والمنع والمخالفة. فوضى المرور، ومخالفات السير، وفقدان الجسور والأنفاق في المدن المكتظة بالسكان، وتخطيط الشوارع ونصب الشاخصات وإلى ما هنالك مما يتعلق في هذه المسألة لا يتمّ فردياً، ولا يحق لجماعة من الناس القيام بتنظيم ذلك لأنها مهمة الجهات الرسمية حتى لو كان المخالفون من عامّة الناس.
في الهيئات والمؤسسات والدوائر الرسمية والأندية الرياضية والجمعيات السكنية وحتى في الفرق الموسيقية ثمة قوانين وأنظمة وتعليمات وإدارة ورقابة تقوم بالإشراف على سير العمل وتحديد المُخالف ووضع العقوبات وتنفيذها. لا ينضبط الناس، في الدنيا كلها، جراء أخلاقهم الفردية وأمزجتهم وميولهم لأنهم ـ بداهةًَ ـ متعددو المشارب ومن فئات وطبقات اجتماعية مختلفة وأهواء وأخلاق متعددة، الأمر الذي أوجب وجود القوانين والأنظمة والشرائع منذ عصر حمورابي إلى الآن. ولعل من الطريف أن نتساءل: رغم معرفة العازفين للحن الموسيقي وخبرتهم وممارستهم لسنوات طوال ومهارة عزفهم… هل ثمة فرقة موسيقية من دون قائد لها “مايسترو” يدربها ويراقب أداء أفرادها ويشير إلى المواضع الناشزة… إلى أن تكتمل السيمفونية وفق ما يراه المايسترو؟! وحتى بعد انسجام المجموعة وأداء أفرادها الرفيع، فإن عينيّ المايسترو تتابع كل عازف على حدة كما يتم التنسيق بين أفراد المجموعة وفق إشارات بالغة الدقة والحساسية. ما من قائد فرقة توكّل على خبرة العازفين وانتحى جانباً مع الجمهور ليستمع إلى معزوفتهم!! وما من مباراة كرة قدم احترافية جرت في العالم إلا وتحت إشراف ومراقبة وضبط حكّام متعددين ولجنة مراقبة وكاميرات منتشرة لضبط أية مخالفة مهما صغرت. ولِمَ المباريات الاحترافية للكبار؟ فنحن الفتيان الصغار كنّا، حين نلعب في الحارة بكرة قماشية ندحرجها من هنا إلى هناك، نتفق فيما بيننا على تعيين فتى منّا ليكون حكماً يفصل في اختلافاتنا حول اللعب والأهداف!!!
والأمثلة لا تعد ولا تحصى، من أصغر خلية اجتماعية يديرها ويراقبها ربّ الأسرة، إلى هيئة الأمم المتحدة التي لا تعقد اجتماعاً لها إلا ويكون أمينها العام حاضراً.
الالتزام بالقوانين، والعمل وفق المصلحة العامة، وثقافة الحفاظ على البيئة والنظافة، والانضباط وعدم المخالفة هي صفات مكتسبة اكتساباً عبر عشرات القوانين والسبل والهيئات والمؤسسات التربوية وما إلى ذلك. أما القول بأن الناس في بلادنا قد طُبعوا على الفوضى وتطبّعوا بعدم الالتزام وبالمخالفة مهما بذلت الجهات الرسمية من جهود لتنظيم سلوك الناس وعاداتهم ورفع سوية وعيهم، فلعلني اكتفي في الرد على أصحاب هذا الرأي الذي صار شائعاً، بالتساؤل التالي: ما الذي يجعل الناس الذين يزاحمون ويتدافعون ويمارسون الفوضى في أسوأ أشكالها داخل مؤسسات كثيرة غير آبهين بأية تعليمات عامة وضابطة للسلوك… ما الذي يجعل هؤلاء الناس، هم أنفسهم، ينضبطون انضباطاً عالياً ويلتزمون التزاماً سلوكياً دقيقاً في مؤسسات أخرى داخل البلد عمدت إلى ترتيب الدور وطريقة الأداء ووزعت مقاعد الانتظار ثم راقبت مسالك الناس إلى آخر ما يمت إلى السلوك الحضاري بصلة؟؟!!. الناس الذين التزموا هنا هم أنفسهم الذين كانوا قبل قليل يمارسون الفوضى العارمة في مؤسسة أخرى.
مما سبق أرى أن المسؤوليات تقع أولاً على الجهات الرسمية الحكومية، ومن ثمّ نقوم بحملات إعلامٍ للناس(ولا أقول توعية لأن ما من أحد بجاهل)، سواء في مسائل البيئة والنظافة أو في عشرات المسائل والمجالات الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى