الأزمة المالية العالمية

مناهضة العولمة… وأصولية السوق!

محمد عابد الجابري
تميز الأسبوع الأخير بثلاثة أحداث، متشابهة مترابطة، شغلت وسائل الإعلام العربية والعالمية لكونها تشكل بمجموعها مظاهر لأزمة منقطعة النظير تهم الناس جميعاً، وعلى صعيد العالم كله، بهذه الدرجة أو تلك من العمق والحدة. وهذه الأحداث هي: 1) مظاهرات الاحتجاج التي قامت ضد مؤتمر “العشرين الكبار”، التي عمت معظم عواصم العالم، والعالم الغربي بصفة خاصة، وبكيفية أخص عاصمة بريطانيا المضيفة لهذا المؤتمر. 2) هذا المؤتمر نفسه. 3) مؤتمر القمة العربي المنعقد في دورته العادية في الدوحة.
وما يربط بين هذه الأحداث الثلاثة أمران اثنان: أولهما يقع على مستوى البنية السطحية، ويتعلق الأمر باصطناع النجاح والتعبير عن التفاؤل والنفخ في “النتائج” المتحصل عليها… الخ، والثاني يقع على مستوى البنية العميقة، وهو كونها جميعاً تعكس بوضوح، وبإلحاح وإصرار، ثلاث أزمات بنيوية، متشابهة ومترابطة وإن كانت متباينة… وسنبدأ بالحدث الأول، لننتقل بعده إلى الثاني ثم الثالث. وهذا الترتيب لا يكتسي دلالة على مستوى درجة الأهمية، وإنما هو مسألة منهجية لا غير.
انطلقت الحركة المعارضة للعولمة، التي خرجت من جوف العولمة نفسها ومن عقر دارها (مدينة سياتل بالولايات المتحدة الأميركية)، في أواخر نوفمبر 1999، وذلك في صورة مظاهرة صاخبة ضد المؤتمر الوزاري للمنظمة العالمية للتجارة، وهي المنظمة التي تم إنشاؤها قبل ذلك بسنة لتكون “الجهاز المنظم لعولمة التجارة الدولية”. لقد تواعد عشرات الآلاف من معارضي العولمة عبر العالم، للاحتجاج -أمام المقر الذي عقدت فيه تلك المنظمة مؤتمرها- والاعتراض ضد العولمة وآثارها السلبية في ميدان الشغل والتشغيل كما في ميدان الصحة والبيئة… الخ. ومع أن المتظاهرين قد تمكنوا بمعنى ما من المعاني من إفشال الاجتماع، فإنه لم يكن له لذلك ما بعده على صعيد النتائج، سوى عزم المتظاهرين على استئناف التظاهر كلما تواعد أقطاب العولمة لعقد اجتماع أو مؤتمر دوري في هذه العاصمة أو تلك من عواصم العالم ومدنه الكبرى: وهكذا فمن سياتل إلى واشنطن إلى كولونيا بألمانيا إلى لندن إلى برشلونة إلى بروكسل… ثم إلى لندن مرة أخرى هذا الشهر. ومع أن مصادمات قد حدثت مع الشرطة، في بعض العواصم، خلال هذه المظاهرات، فقد بقيت من قبيل الأحداث العابرة فضلا عن أنها لم تكن تدخل في استراتيجية هذه الحركة المناهضة للعولمة التي التزمت منذ بداية قيامها مبدأ “النضال ضد العولمة وسلبياتها بوسائل الضغط الديمقراطي”.
فعلا، لقد اختار زعماء هذه الحركة النضال ضد النظام العالمي العولمي “من داخله وبالوسائل التي يتيحها”. يقول أحد الزعماء المؤسسين لهذه الحركة، جوزي بوفيه: “إن المسألة المركزية هي معرفة كيف نؤسس للنقاش حول الديمقراطية والشفافية بين الدول والجهاز الدستوري ونشاط المواطن، وذلك من أجل إقرار قواعد أكثر عدلا وإنصافاً، ليس فقط في مجال التجارة بل أيضاً في مجال البيئة ومجال حق الشغل وحقوق الإنسان”. لقد ارتأى أنه “يكفي إخضاع السوق لقواعد، ودمقرطة المؤسسات الدولية، لكي يغدو في الإمكان تحسين وضعية الفلاحين والعمال في العالم أجمع”. ويضيف: “إن السوق موجودة، والمسألة ليست مسألة إنكارها أو تجاوز وجودها، بل المسألة هي إخضاعها لقواعد”. وبعبارة أخرى “يجب أن تقوم سلطةٌ تواجه سلطة السوق وقواعدُ مستقلة تخضع لها السوقُ خضوعاً”. ومع أنه كان يدرك تماماً “أن الدولة والمؤسسات الدولية من قبيل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي هي أدوات في خدمة طبقة اجتماعية معينة، فقد ارتأى أنه يجب النضال من أجل استعمال هذه المؤسسات لأغراض أخرى غير تلك التي أسست، في الأصل، من أجل خدمتها”.
والسؤال الآن: هل نجحت هذه المنظمة التي واصلت التظاهر كل سنة وعلى مدى عقد من الزمن في تحقيق أي تقدم أو أية نتائج، سوى تكرار التظاهر بنفس الشكل وبنفس الاستراتيجية؟ إن معطيات الواقع تجيب بالسلب. فالعولمة وأساليبها قد استمرت واستفحل أمرها بوقوعها في قبضة أخطبوط “الليبرالية المتوحشة” التي أدت إلى ما يدعى اليوم بـ”الأزمة المالية العالمية” التي انعقد مؤتمر لندن الأخير من أجل معالجتها!
لماذا، إذن، لم تحقق مظاهرات “الحركة العالمية المناهضة للعولمة” أي هدف من أهدافها؟ لماذا لم تلمس لنفسها ونضالها سبيلا يمكن أن يكون مؤثراً فعلا في مسار “العولمة” السلبي؟
الواقع أنه سيكون من الخطأ تماماً بناء التحليل على أساس أن الأمر يتعلق بحركة واحدة متجانسة ذات أهداف ومبادئ يلتزم بها الجميع. إن الأمر يتعلق في الحقيقة بتيار عريض يضم ما لا يحصى من المنظمات والتنظيمات والجماعات منها ما تشغله قضية العمال العاطلين والمستضعفين من الفقراء، ومنها ما يركز اهتمامه على قضايا الصحة والبيئة والتعليم، ومنها ما يواجه النظام العالمي “الجديد” بوصفه إمبريالية جديدة، ومنها ما يركز على الاستغلال الذي تتعرض له بلدان العالم الثالث… الخ. وإذا كانت هذه الهيئات والحركات قد اختارت الكفاح العلني السلمي، الذي لا يخلو من عنف من نوع الصدامات التي تحدث مع الشرطة نتيجة محاولة الهجوم على هذه المؤسسة أو تلك من مؤسسات العولمة، فإنها قد التزمت بصورة عامة النأي بنفسها عن أعمال التخريب والإرهاب وما في معناه.
ومع أن خصوم هذه الحركة من كبار “الليبراليين” قد حاولوا رميها بتهمة “ابن لادن” بعد 11 سبتمبر 2001، بدعوى أن “معاداة العولمة تعني معاداة الأميركان وبالتالي التحالف مع ابن لادن”، فإن هذه الدعوى لم تنجح في كسب اهتمام الرأي العام الأميركي والغربي على العموم. كما لم تنجح محاولات أخرى من هذا القبيل. ويهمنا هنا أن نشير بصفة خاصة إلى أن المخابرات الإيطالية قد حاولت “زرع” عناصر من المنظمة المتطرفة المعروفة بـ Black Block، والشهيرة بنزعتها الفوضوية، في صفوف الجموع التي كانت تستعد للقيام بمظاهرة ضخمة في مدينة جنوة، وكان الهدف الذي أرادت المخابرات الإيطالية تحقيقه من تلغيم وتخريب تلك المظاهرة هو جرها إلى أعمال عنف يمكن أن تتخذ ذريعة لتجريمها وبالتالي اعتقال زعمائها والتماس سبيل قانونية لمنع أنشطتها. وقد نجحت المنظمة في اكتشاف عملية التلغيم تلك فأفشلتها، وواصلت العمل بطريقتها السلمية التي اختارتها الأغلبية العظمى من أجنحتها. وعبثاً حاول دهاقنة “الليبرالية الجديدة” التفاوض مع زعماء هذه الحركة العالمية المناهضة للعولمة. ذلك لأن هؤلاء يرون أن المسألة ليست مسألة خلاف بين طرف وطرف، بل إن المسألة هي مسألة نظام دعائمه الرئيسية هي الشركات المتعددة الجنسية التي تمارس نفوذاً سياسياً هائلا على الحكومات المنتخبة مما يجعل عملية الانتخاب وبالتالي الديمقراطية تفقد وظيفتها وتتحول إلى واجهات للقوى الرأسمالية العالمية المستغلة.
ومن هنا أخذت الحركة العالمية المناهضة للعولمة تركز على الشركات العملاقة والمتعددة الجنسية، وتتهمها بكونها تشجع اللامساواة الاجتماعية وتقوم بممارسات غير مشروعة في ميدان التشغيل، ولا تهتم بالبيئة ولا بشروط المحافظة على الثروات الطبيعية فضلا عن التسبب في قيام كوارث بيئية، إضافة إلى التنديد بالدور الذي تلعبه المؤسسات الاقتصادية الكبرى والمنظمات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية… ليس فقط بوصفها تقوم بدور “الجندرمة” (الدركيين) للممارسات التجارية العالمية غير المسؤولة، فتحدد لها قواعد العمل وتسهر على تطبيقها، بل أيضاً لأنها رأس الحربة بالنسبة لعولمة الاقتصاد. إن الشركات الكبرى المتعددة الجنسية “ليست مجرد مؤسسات تمدنا بالمنتجات التي نستهلكها جميعاً بل هي أيضاً القوى السياسية الأكثر نفوذاً وقوة في عصرنا”. وبالجملة توجه المنظمات المناهضة للعولمة سهامها ضد النظرية الرأسمالية التي تعنى بـ”سعادة” الفرد، ولا تهتم بالمجموع ولا بالثقافات ولا بالبيئة بل تضحي بكل ذلك على مذبح “الجري وراء الربح”.
إنه وعي واضح وعميق بوضعية “الخصم”، أعني العولمة ونتائجها السلبية! فلماذا لم تلمس هذه “الحركة المناهضة للعولمة” لنفسها ولنضالها سبيلا يمكن أن يكون مؤثراً فعلا في مسار “العولمة” السلبي؟
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى