صفحات ثقافية

هل أنا “أزرق”؟

null
ترجمة وتقديم فوزي محيدلي
قصة قصيرة لأليس ووكر الحائزة على “بولتيزر” للرواية
على مدار ثلاث سنوات قمت ووليفي باستئجار بيت صغير في الريف يقع على طريق مرج واسع إمتد، حسبما يبدو، من حافة بيتنا صوب الجبال مباشرة. مهما يكن، كانت الجبال بعيدة جداً، وكانت تقع بيننا وبينها بلدة. وهذه واحدة من المظاهر العديدة للمنزل التي لم أكن أدركها.
كان منزلاً بنوافذ عدة منخفضة وواسعة تمتد من السقف إلى الأرضية تقريباً في غرفة الجلوس التي تقع بمواجهة المرج. ومن إحدى تلك النوافذ وقع نظري للمرة الأولى على أقرب جيراننا: حصان أبيض ضخم، منشغل بقضم العشب، مع رجرجة لعرفه. كان يسير متمهلاً ليس في كامل المسرح الذي امتد إلى ما وراء منظر المنزل، بل فوق الفدادين الخمسة المسيجة، أو ما يقاربها، المجاورة للعشرين فداناً تقريباً الملحقة بالمنزل الذي استأجرناه. سرعان ما علمت أن الحصان الذي يحمل اسم “أزرق” هو ملك رجل يعيش في بلدة أخرى، لكنه الآن في عهدة جيراني. أحياناً “يمتطي أزرق” مراهق قصير وممتلئ الجسم، لكن في أحيان أخرى تمتطيه فتاة أصغر أو صبي، آخر.
يظهر واحدهم في المرج معتلياً صهوة الحصان ويمتطيه بشراسة لعشر أو خمس عشرة دقيقة، ثم يترجل ويصفع أزرق على كفله، وبعدها يغيبون مدة شهر أو أكثر.
كان ثمة العديد من أشجار التفاح في باحتنا، وواحدة منها بجدار السياج مما يكاد يسمح لأزرق بالوصول إليها. سرعان ما صرنا نطعمه تفاحاً وهذا راق له لأنه بحلول منتصف فصل الصيف تغدو حشائش المرج التي كانت خضراء ريانة منذ كانون الثاني جافة من قلة المطر، ولا يكون بوسع أزرق سوى التنقل متثاقلاً وهو يقضم السويقات الجافة بفتور. كان يحدث أحياناً أن يقف الحصان ساكناً قرب شجرة السياج، وحين يخرج أحدنا يبدأ بالصهيل والشخير بصوت عال أو يرفس الأرض. هذا معناه بالطبع: أريد تفاحة.
كان أمراً بديعاً قطفي بعض التفاحات أو رفع تلك التي سقطت ليلاً على الأرض وتدبر إدخالها بصبر واحدة إثر الثانية إلى فمه الواسع المليء بالأسنان. كنت أشعر بإثارة محببة، كما لطفل، بحركة شفتيه الداكنتين والمرنتين وبأسنانه الضخمة التي كانت تقضم التفاحة بكل ما فيها، دون الإبقاء على شيء وكذلك بضخامة وسعة وعلو صدره الذي جعلني أشعر بضآلتي. حينما كنت طفلة اعتدت ركوب الخيل وكنت على علاقة طيبة بفرس إسمها “نان”، إلى ان جاء يوم كنت أمتطيها فقام أخي باخافتها فوقعتُ عنها، رأسي أولاً، فوق جذع شجرة. حين استعدت وعيي، وجدت نفسي في الفراش ووالدتي منحنية بقلق فوقي. وتوصلت من يومها أنا وأمي حتى دون أن نتكلم في الأمر إلى أن ركوب الخيل ليس على الأرجح الرياضة الآمنة لي. منذ ذلك اليوم صرت أمشي بل فضلت المشي على ركوب صهوة الحصان لكن هذا جعلني أخسر عمق الشعور الذي يمكن للشخص رؤيته في عيون الأحصنة.
إذن، لم أكن جاهزة بعد للتغيير الذي في عيني أزرق. كان أزرق وحيداً، كان وحيداً وسئماً بشكل مريع، لم أكن مصدومة أن هذه حالته، مجرد خمسة فدادين للتجول فيها وحبداًبلا توقف حتى لو كان ذلك في أجمل المروج ومرجه كان جميلاً حقاً، لا يمكن لها أن تؤمن أحداثاً مثيرة، اللهم سوى تحول فصل المطر إلى فصل جفاف. لا، صدمت لأنني نسيت أن الحيوات البشرية وغير البشرية يمكنها التواصل جيداً؛ لو أننا ترعرعنا في طفولتنا بجوار الحيوانات لاعتبرنا ذلك من المسلمات. لكن مع بلوغنا فترة الرشد لا نعود نتذكر ذلك. مهما يكن الحيوانات لم تتغير. انها في الواقع مخلوقات “مكتملة” (على الأقل تبدو كذلك، أكثر منا) غير قابلة على الأرجح للتغير وأقصد لجهة طبيعتها للتعبير عن نفسها. أما الشيء الآخر التي تود التعبير عنه؟ وانها حقاً تعبر. لكنها بشكل عام تتعرض إلى التجاهل.
كنت بعد إعطائي حبات التفاح إلى أزرق، أتمشى رجوعاً إلى المنزل مدركة أنه يراقبني. والحال هذه ألن يكون المزيد من حبات التفاح آتية على الدرب؟ هل شكلت التسلية الوحيدة لنهاره؟ إبن وليفي بل شريكي قرر تعلم كيفية ترقيع لحاف فقمنا بالعمل في صمت على مربعات متعاقبة فيه فيما أنا أفكر…
حسناً، أفكر بالعبودية؟ بالأطفال البيض، الذي تولى تربيتهم أناس سود، والذين تلقوا حبهم الأول، الشامل، للجميع، في نساء ملونات.
ومن ثم حين بلغوا الثانية عشرة أو حولها، أخبروا أن عليهم “نسيان” مستويات التواصل العميقة بينهم وبين المربية الزنجية التي ألفوها. لاحقاً يستطيعون أن يقولوا بهدوء “بيعت مربيتي لعائلة صالحة أخرى”. “مربيتي العجوز كانت…”، إملأ الفراغ بالكلمات المناسبة. بعد عدة سنوات لاحقة قد تقول إمرأة بيضاء: “بمقدوري فهم أولئك الزنجيات، أولئك السوداوات ما الذي يردنه؟ انهن مختلفات تماماً عنا”.
وعن الهنود، الذين يعتبرون “كالحيوانات” من قبل “المستوطنين” (تلميع لفظي لما كانوا عليه) الذين لم يتفهوا وصفهم كمجاملة أو إطراء.
وعن الآلاف من الرجال الأميركيين الذين يتزوجون اليابانيات، الكوريات، أو الفيليبينيات وغيرهن من النساء اللواتي لا يتكلمن الانكليزية وكيف يتحدث أولئك الرجال عن مدى سعادتهم بل “منتهى السعادة” إلى أن تتعلم نساؤهم تلكم الإنكليزية وحينها تنهار الزيجات. ما الذي رآه الرجال حين كانوا ينظرون في عيون النساء اللواتي تزوجوهم قبل أن يتمكّن من تكلم الإنكليزية؟
فكرت في نفاذ صبر المجتمع مع اليافعين: “لماذا يرفعون صوت الموسيقى عالياً؟”. ربما استمع الأبناء إلى كثير من موسيقى الناس المضطهدين التي رقص عليها أهلهم قبل أن يولدوا هم، تلك الموسيقى بصرخاتها العاطفية لكن الناعمة الموحية بالقول والحب، وقد تساءل الأبناء بل تعجبوا كيف فشل أهلهم في سماع المطلوب.
لا أدري المدة التي أمضاها أزرق داخل الفدادين الخمسة الجميلة، المملة قبل انتقالنا إلى منزلنا هذا. بعد مرور سنة على وصولنا وترحالنا إلى وديان، ومدن، وعوالم أخرى كان لم يزل هناك.
لكن لاحقاً، خلال سنتنا الثانية في المنزل حدث أمر ما في حياة أزرق، ذات صباح وأنا أنظر عبر النافذة إلى الضباب الذي ارتمى كوشاح فوق المرج، وقع بصري على حصان آخر، بني اللون في الطرف الآخر من الحقل. بدا أزرق خائفاً من ذلك الحصان، ولم يقم لأيام عدة بأية محاولة للاقتراب منه. غادرنا المنزل لمدة أسبوع وعندما عدنا وجدنا أن أزرق قرر إقامة صداقة مع الآخر، وراح الحصانان يرهوان ويعدوان سوية، ولم يعد أزرق يقترب كثيراً كعادته من السياج الذي تحت شجرة التفاح.
وحين يأتي، كان يُحضر معه صديقه الجديد وقد بدت نظرة جديدة في عينيه نظرة استقلالية رباطة جأش انتماء لصيق لعالم الخيل. في النهاية، غدت صديقته هذه حبلى. لأشهر وأشهر فما بيني وبين الحصانين كما بدا لي، شعور متبادل في الانصاف والسلام. كنت أطعم التفاح إلى كليهما. النظرة في عيني أزرق بدت وكأنها تقول بغير خجل “هذا هو المفقود”.
لم يدم ذلك إلى الأبد. ذات يوم وبعد زيارة قمت بها إلى المدينة، خرجت لإطعام أزرق بعض حبات التفاح. وقف منتظراً، أو هذا ما اعتقدته، لكن ليس تحت الشجرة. عندما انتهيت من هز الشجرة وتراجعت قافزة عن وابل التفاح، لم يقم الحصان بأية حركة. حملت بعض الثمرات إليه لكنه اكتفى بقضم نصف إحداها. أما البقية فقد تركها تسقط إلى الأرض. خشيت بداية النظر إلى عينيه لأني لاحظت بالطبع أن”براون” شريكته، قد رحلت، لكني في النهاية نظرت وتأملت. فكرت لو أني ولدت في حالة عبودية وبيع أو قتل شريكي لكان منظر عيني كمنظر عينيه. شرح لي أولاد الجيران ان شريكة أزرق قد “وضعت معه” (نفس التعبير الذي كان يستخدمه العجائز حين التكلم عن أحد الأسلاف خلال فترة الرق والتي كانت تلقح بواسطة مالكها) لكي يتعاشرا وتحمل. ومع انجاز ذلك، استرجعها مالكها الذي كان يعيش في مكان آخر.
– هل ستعود؟ سألت:
ردوا بأنهم لايعلمون.
بدا أزرق كشخص أصابه الجنون. بالنسبة لي أصبح مثل شخص أصيب بمس من الجنون. كان يعدو بسرعة وشراسة كأن شخصاً يمتطيه حول الفدادين الخمسة الجميلة. راح يصهل ويصهل حتى تتقطع أنفاسه. أخذ يمزق الأرض بحوافزه وينطح كذلك الشجرة الوحيدة التي تظلله. كان يرمق بنظراته دائماً وأبداً الدروب التي رحلت عبرها شريكته.
من ثم، كان من حين لآخر، حين يحضر طلباً للتفاح، أو حين آخذ التفاح بنفسي إليه، يشرع بالنظر إلي. كانت نظرة حادة، مليئة بالحزن، نظرة بشرية جداً، كدت معها أضحك (شعرت بحزن شديد يحث على البكاء) من اعتقادي بوجود أشخاص لا يعرفون أن الحيوانات تتألم. أشخاص مثلي نسوا وينسون يومياً، كل ما تحاول الحيوانات إخبارنا إياه”. “كل ما تفعلونه لنا سيحدث لكم، نحن أساتذتكم، كما أنتم أساتذتنا. إننا نوحي بنفس الدرس”، هذا هو المغزى. ثمة أشخاص لم يفكروا مرة بحقوق الحيوانات. أجل، أولئك الذين لقنوا أن الحيوانات تريد، واقعاً، ان تستخدم وأن تساء معاملتها من قبلنا”، تماماً مثلما “يحب” الأطفال أن نرعبهم أو كما “تحب” النساء أن يشوهن أو يغتصبن.. هؤلاء هم الأحفاد العظام الذين اعتقدوا صادقين، كون شخص ما لقنهم، التالي: “لا تستطيع النساء التفكير” ولا يمكن للزنوج الإغماء”. لكن الشيء الأكثر إثارة للقلق من كل ما عداه هو وجود نظرة جديدة أكثر إيلاماً من نظرة اليأس في عيني أزرق البنيتين والواسعتين: نظرة الاشمئزاز من بني البشر، من الحياة، نظرة الحقد. وكان غريباً ما تستطيعه نظرة الحقد. أضفت عليه للمرة الأولى منظر البهيمة. ومعنى ذلك أنه يشيد حاجزاً بداخله ليحمي نفسه من مزيد من العنف وتالياً كل تفاح العالم لا يقدر على تغيير هذه الحقيقة.
وهكذا بقي أزرق جزءاً جميلاً من منظر أرضاً، جميلاً للنظر إليه من النافذة، أبيض مقابل العشب. مرة أتت صديقة في زيارة وقالت بعد النظر خارجاً صوب المشهد المهدىء للنفس: “وكان لا بد أن يكون حصاناً أبيض، صورة الحرية بعينها”.
وفكرت بيني وبين نفسي، أجل تجبر الحيوانات على أن تكون بالنسبة إلينا مجرد “صور” عما عبرت عنه لجمال أخاذ ذات مرة. ونحن إعتدنا شرب الحليب من أبقار “راضية” لا نريد سماع شيء عن حياتها الحقيقية، واعتدنا أكل البيض وأفخاذ دجاجات “سعيدة” وقضية الهامبرغر المأخوذ حسب الإعلان من ثيران معافاة يبدو إنها تسيطر على مصيرها.
وتحدثت وصديقتي عن الحرية والعدالة التي ستتحقق يوماً ما للجميع، ثم جلسنا لتناول شرائح لحم البقر. فكرت وأنا أتناول أول قضمة أنني آكل البؤس. وكان أن بصقتها.

أليس ووكر
ولدت أليس ووكر في التاسع من شباط لعام 1944 في ولاية جورجيا الأميركية، وجاء ترتيبها الثامنة والأخيرة بين أشقائها وشقيقاتها. في الثامنة من عمرها تسبب أحد أشقائها بفقدانها البصر في إحدى عينيها بأصابته لها بندقيتة خردق.
عام 1969 غدت نشطة ضمن حركة الحقوق المدنية لستينات القرن العشرين وبقيت ناشطة حتى في تسعينات القرن. تحدثت باسم حركة النساء، والحركة الناهضة للتمييز العنصري، والحركة المناهضة للأسلحة النووية عام 1984 أسست ووكر دار نشر خاصة بها “دايلدترييز”.
نالت عام 1983 جائزة بولتيرز للرواية عن عملها “اللون أرجواني” كما نالت جائزة الكتاب الوطني للرواية، فضلاً عن “جائزة تاونسند” و”جائزة لايندهرست”. ولووكر إلى ذلك مجموعتان شعريتان.
تحكي رواية “اللون أرجواني” قصة امرأة سوداء تشق دربها مكافحة ليس فقط عبر. ثقافة البيض لكن أيضاً عبر ثقافة السود البطريركية. وقد حول سبيربرغ الرواية إلى فيلم كما تحولت في برودواي إلى مسرحية موسيقية مهما يكن انتقدت الرواية لتصويرها السلبي للرجال.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى