صفحات مختارةياسين الحاج صالح

وضع “الدين العام”.. مناقشة في الشأن الديني السياسي العربي

null
ياسين الحاج صالح
[ 1
الدين عام وشريك في العام في البلدان العربية، على تفاوت بينها.
أعني بعموميته جملة أشياء. أولها أنه محدد أساسي لهوية الدولة الذاتية، فهي إسلامية، الإسلام دينها أو دين رئيسها، بصورة يجري تثبيتها وجوبا في الدستور. وثانيها أنه مشارك في التشريع، منفرد به في مجال الأحوال الشخصية عموما، والمرشح الأول لملء أي فراغ تشريعي محتمل في القانون المدني. وثالثها أنه حاضر في التعليم ما قبل الجامعي والتربية العمومية، وبصورة إلزامية لا اختيار فيها. ورابعها حضوره المادي والرمزي الكبير في الفضاء العام، بما في ذلك أجهزة الإعلام العامة، وبما فيها حضور “سيادي” لطقوسه وعلاماته لا يقبل أن يكون مسؤولاً أمام أحد (الأذان بمكبرات الصوت..). وخامسها انتشاره الاجتماعي المقتحم والكاسح، الذي لا يقبل مساءلة عن شرعيته (شريط ديني أو إذاعة دينية في تكسي الأجرة أو ميكروباصات النقل العام، تلاوة القرآن وخطب دينية عبر مكبرات الصوت في عزاء أو “مولد”…)، فضلا عن رموز مرتبطة به كالزي النسائي، وبدرجة ما الرجالي.
اختصارا، ومن أجل التوضيح، يتكون العام الديني من مركبين: نفاذ إلى الدولة، هوية وتشريعات وأجهزة ووظائف عامة؛ ثم ظهور منتشر وجماهيري في الفضاء العام للمجتمع وحياته اليومية. ويتضمن العام هنا معنى العلنية، بل العلنية الفائقة، بخاصة على شكل ظهور صوتي لا منأى عنه، لا في البيوت ولا في أية أماكن عامة، ولا بالطبع في الشوارع. لا يعدو المرء الإنصاف إن وصف مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة، مصر أكثر من غيرها على ما يبدو، بأنها في حالة استعراض ديني دائم.
والبعدان هذان (الـpublic، والـpopular ) هما ما يضمنهما خوسيه كازانوفا في مفهومه للدين العام، هذا الذي يتمرد على الدور الهامشي والمخصخص الذي قررته له نظريات الحداثة ونظريات العلمنة. (كتابه: الأديان العامة في العالم الحديث، المنظمة العربية للترجمة، 2005).
والدين العام في أكثر البلدان العربية هو الإسلام السني (ربما الشيعي أكثر في العراق، وفي لبنان يشاركه الشيعي أيضا). المسيحية تشاركه العلانية والظهور حيثما وجدت (تبث بعض الاحتفالات المسيحية في الإعلام السوري العام، ويعلّم الدين المسيحي لمعتنقيه في المدارس العمومية..)، لكن ظهورها يبقى محدودا جدا (ربما عدا لبنان) بسبب نسبة المسيحيين المحدودة بين السكان، ولكون نفاذها إلى الدولة محدود أيضا. أما المذاهب الأخرى، كالعلوية والاسماعيلية والدرزية في سوريا، فليست عامة ولا علنية، لا حضور لها على مستوى الدولة ولا ظهور لها في الفضاء العام. يلتقي في ذلك على الأرجح وضعا “الباطنية” و”الأقلية”.
والإسلام السني الذي أمكنه تاريخيا أن يطابق نفسه مع “الإسلام” عامٌّ “من فوق” أو عام ممأسس (عبر كونه “دين الدولة”، والمشرِّع في مجال الأحوال الشخصية..، والمعَّلم في المدرسة، والمبثوث وجوبا في وسائل الإعلام العامة..)، وعام “من تحت” عبر نطاقات كثيرة وواسعة من الحياة اليومية لأكثرية الجمهور.
[ 2
من المستغرب أننا لا نكاد نرى وضع الدين العام هذا، أو أنه غير متمفصل مع تفكيرنا في الشأن العام، السياسي والثقافي. من جهة إن حالة الاستعراض الديني الدائم أو جملة المظاهر الاجتماعية السائلة لهذا الوضع حديثة نسبيا. عمرها سنوات. قبل ذلك تصادمت معظم الحكومات العربية مع الإسلاميين السياسيين وحطمتهم أو كادت، فكان أن انزوت نسبيا المظاهر الفردية اليومية للدين والتدين. لكن منذ مطلع القرن الحالي تقريبا تواطأت مجموعة ظروف على تسهيل اكتساح الإسلامية للفضاء العام، حتى ولو لم يطرأ تغير على العلاقة بين الإسلاميين السياسيين ونظم الحكم. من ذلك ثورة الاتصالات (الفضائيات والانترنت والهاتف المحمول)، وهي تسهل أكثر وأكثر زج الدين في الحياة اليومية، وتُيسِّره للاستهلاك اليومي؛ ومنها لبرلة اقتصادية وإعلامية واجتماعية متفاوتة، لكنها تسهل انتشار التعبيرات الدينية اجتماعيا أو الظهور الاجتماعي للدين؛ ومنها دوما الفراغ السياسي والثقافي الهائل الذي تحدثه في مجتمعاتها نظم الاستبداد الحديثة، وهو لا يمتلئ اليوم بغير الدين وعلاماته ورموزه؛ ومنها أخيرا حصانة المساجد (والكنائس) في بلدان لا يكاد يحظى شيء آخر فيها بحصانة. ويتصل بذلك أن احتشاد المؤمنين للصلاة هو “التجمع” الوحيد العصي على حالة الطوارئ في سورية، وأن نصوصا دينية هي “الرأي” الوحيد الذي لا تستطيع سلطات تضيق برأي محكوميها أن تقمعه. بهذا يشكل التدين حدا للفقر السياسي في بلداننا.
ومن جهة ثانية لم تأخذ بالظهور إلا في السنوات الأخيرة ذاتها احتجاجات علنية مقاومة للدين العام، وإن دون مفهوم الدين العام ذاته (تظهر في صلة أكيدة مع تعمم الصيغة السائلة، ومع تصاعد الانشغال العالمي بالشأن الإسلامي بعد 11 أيلول 2001)، الأمر الذي وسّع ساحة ما يمكن التفكير فيه في شأن الدين والدولة والعلاقة بينهما، فساعد على رؤية ما كان يمكن أن يبقى غير مرئي في هذا الشأن.
وأخيرا ثمة اعتبار ثقافي عام وراء عدم رؤية وضع الدين العام، أعني انفصال المحسوس عن المعقول في ثقافتنا العامة وتفكيرنا العام. فلطالما فكرنا في العام كسياسة ودولة، تأثرا بنموذج الدولة المقرر عالميا، ولم نفكر فيه كدين أيضا كما “تقول” حواسنا أو خبرتنا الحية.
[ 3
وليس إلا بديهيا أننا لن نرى عواقب هذا الوضع، ما دمنا لا نراه هو ذاته.
وأولى هذه أن التفكير السياسي والسياسة العملية اللذيْن يثابران على مطابقة العام مع الدولة يضيّقان نطاق السياسة، ويعجزان عن تطوير فهم عملياتها ومحركاتها وتفاعلاتها، ومن ثم عن بلورة خطط عملية لإصلاح هذا العام المركب.
تدارك ذلك يوجب إدراج موقع الدين ودوره في تفكيرنا في الشؤون العامة. هذا ما تقوم به الحكومات تلقائيا (لاتصالها الأقوى بالمحسوس واليومي..)، ويغفله المثقفون والمعارضون السياسيون “العقلانيون” دون وجه حق. وهو ما يحكم على تفكيرهم بأن يكون مثاليا، مشدودا إلى مفهوم للسياسة والعام غير مطابق للواقع، وما يرجح أن يكون الإخفاق نصيب أية سياسات عملية يقترحونها وتصبو إلى عام سياسي غير مختلط بالدين.
ولا ريب في أن الغفلة عن وضع الدين العام في سوريا في السنوات الأخيرة تتسبب في تجزؤ حقل العمل العام، وفي بروز معارضة لجانب من العام لا تعارض جانبه الآخر، أو ترد بصورة اختزالية ومتعجِّلة أحد الجانبين للآخر. وهذا بالمناسبة أحد مصادر انقسام وضعف حركة المعارضة السورية. والخط الأخشن للانقسام هو بين معارضين للدين ومعارضين للدولة، بما يتوافق مع وضع الدين العام وتجزؤ حقل العمل العام، وبما يأخذ في السياق السوري العياني دلالات ملموسة جدا.
وثانية عواقب الدين العام أنه منبع فوّار للتطييف. حضوره السائل، الكثيف والمقتحم، الذي لا يملك المجتمع ولا الأفراد أية حمايات ضده، أو حتى لغة لمساءلته لكونه يقدم نفسه في لغة البداهة الوجودية والأخلاقية، يغذي عند قطاعات واسعة من السكان (جميع المسلمين غير السنيين، وقطاعا من المسلمين السنيين) مشاعر استبعاد وغربة وإحباط، تدفعهم إلى التماثل مع روابطهم الأهلية، أو أقله تضعف استعدادهم لنقدها والاستقلال عنها. بهذا يخدم الدين العام تعزيز سلطة الطائفية على جمهور كان يمكن أن يكون أكثر استقلالية. ومن جهة أخرى، يشكل الانتشار الديني المشهدي نموذجا مهيمنا، يعمم نفسه في المجتمع ككل، مضعفا فرص بروز أفراد مستقلين أو مجموعات عابرة للأديان. يتحقق ذلك عبر “مفعول العرض” الذي يحوزه الاستعراض الديني الدائم.
وعلى هذا النحو يتبادل الدين العام والدولة الاستبدادية التعزيز. فهذه تنكر الحقوق السياسية للمواطنة وتحطم تجارب المواطنين للالتقاء المستقل، فتعطل فرص استقلالهم السياسي والأخلاقي. والدين العام يثير فيهم، بانتشاره، مشاعر الإحباط والاستبعاد بدرجة تتناسب مع عموميته، فيدفعهم إلى الحضن الدافئ والآمن لجماعاتهم الأهلية.
وثالثة عواقب وضع الدين العام، تاليا، تتمثل في أنه يوافق تجدد الاستبداد السياسي ورسوخه. فهو إذ يعزز الوعي الذاتي للجماعات الدينية (والمذهبية) المختلفة، يغذي تباعدها، فيمنح نخبة الحكم تعاليا حيالها جميعا ودورا تحكيميا بينها. ولما كان الاستبداد منشغلا بذاته وديمومته، فإن هذا الشرط يناسبه، ولعله سيحرص على تغذية الشكوك بين الجماعات الدينية المختلفة من أجل أن يدوم. يساعده الدين العام والقائمون عليه خير مساعدة في ذلك.
وهكذا، سيبدو في الظاهر أن لدينا عاميّن (الدين والدولة)، في الواقع لدينا أقل من عام واحد (لسنا مواطنين هنا ولا متساوين هناك).
[ 4
في أي اتجاه يتعين معالجة هذا الوضع المعضل: وجود عاميّن غير متطابقين؟
في المجرد، يمكن التفكير بحذف أحد الطرفين. نحذف الدولة ونعيش في ظل “الإسلام” وحده. هذا هو مشروع الإسلاميين من دعاة “الحاكمية الإلهية”. وهو أسوأ ما يمكن أن يحصل لمجتمعاتنا وللإسلام ذاته الذي لا يعني مشروع الحاكميين غير عبادته وتحويله إلى دولة مقدسة. لكن تاريخ الإسلام ذاته “صوّت” ضد هذا الخيار منذ وقت مبكر، تلا حقبة التأسيس النبوية وقسطا من “الخلافة الراشدة”. معلوم أن الحاكميين ينكرون الصفة المحكِّمة للتاريخ أو “حاكميته”. لكن ما يترتب على هذا هو إرادة فرض مشروعهم بالعنف. وهو ما لا يتكتمون عليه هم أنفسهم.
أو نحذف الدين ونعيش في ظل دولة دنيوية كاملة العصرية؟ وهذا شريك في مرتبة الأسوأ. أقرب شيء إلى ذلك هو سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي في الجمهوريات الإسلامية. النتيجة هنا جعل الدولة دينا مقدسا.
هذان خياران سيئان على حد سواء، ولا يزكي التاريخ القديم والحديث أيا منهما.
ما يتوافق مع التطور التاريخي الحديث هو ترتيب العلاقة بينهما بحيث يكون أحدهما عاما فعلا، والآخر خاصاً.
إما أن يكون الدين هو العام والدولة هي الخاص، أو بالعكس. والمسألة ليست إيديولوجية، بل هي ذات صلة بسعة كل من المفهومين أو طاقته الاستيعابية. والحال إن سوريا مثلا أوسع من الإسلام السني، أو الإسلام، أو أي دين. وهي مؤهلة أكثر منه لاستيعاب متنوعين، دينيا وإثنيا وجنسيا، على قاعدة من المساواة. ونفترض أن ما يعمُّ مختلفين متنوعين هو المؤهل مبدئيا لأن يكون العام.
وعليه يسع الدولة أن تكون العام، بينما يحال الدين إلى الخاص.
لكن، في واقعها المعاين، الدولة ليست مؤهلة لإشغال موقع العام (الدين في مبدئه ذاته ليس مؤهلا لإشغال هذا الموقع اليوم). فهي، والكلام على سوريا، متمركزة حول وظيفة السلطة، وهي تقوم على مبدأ إيديولوجي (قومي عربي) يمكّنها من استبعاد قطاع من مواطنيها غير العرب. وهي فوق ذلك مبتلاة بـ”سوسة” الحكم المؤبد، الذي يتسبب في تقصير يدها اجتماعيا وثقافيا وتشريعيا، تجنبا لاحتكاكات غير مرغوبة مع نخب اجتماعية نافذة، دينية بخاصة. وهو ما يؤدي إلى توسيع المساحة التي يحتلها الدين، أي تعميمه.
هذا يضع مهمة إصلاح الدولة في المقام الأول من أجل تطابق العام بالمعنى الإحصائي وبالمعنى الاستيعابي، ما يمكنها من ثم من دفع الدين إلى الخاص.
[ 5
إلى الخاص؟ هل يمكن خصخصة الإسلام؟
وهل يجب ذلك؟
يبدو لنا أن الصيغة المتطرفة التي تريد فصل الإسلام عن الدولة وعن السياسة والثقافة “فصلا نهائيا”، غير ضرورية، وتؤدي إلى عكس المراد منها. ندافع عن فصل الدين عن السيادة، أي عن الإكراه وعن الولاية العامة، وليس عن السياسة. لا ينبغي أن يحول شيء دون ممارسة الإسلاميين السياسة والعمل العام ضمن إطار ميثاق يحصر الإكراه والولاية العامة بالدولة. وفي اعتقادي أن من يطالب بفصل الدين “فصلا كاملا” عن السياسة، لا يعرف معنى الدين أو السياسة، أو حتى العلمانية. ولعلنا نحقق أفضل فهم لهذا الكلام إن نظرنا إليه هو ذاته كدين أو كسياسة، لا كعلمانية.
قد يقال إن اقتحام “الإسلام” للفضاء العام اليوم لا يتوسل الإكراه، ولا يحيل إلى ولاية عامة. بلى. لكنه من جهة ممارسة لإكراه رمزي كثيف جدا، يكاد يعادل إكراها ماديا. إذاعة القرآن أو خطب الجمعة عبر مكبرات الصوت من مساجد تقل المسافة بينها عن تلك التي يغطيها صوت المكبرات المعششة على مآذنها “تقول” إن السامعين جميعا متجانسون (مسلمون معياريون)، وإن ما هو خارج المسجد هو امتداد متجانس له، بلا بنية داخلية أو تماسك ذاتي أو مقاومة، وأن المسجد سيد نفسه وغيره، لا شيء يعلوه أو يتمايز عنه أو يعترض عليه، وأن غير المسلم المعياري أو غير المؤمن نشاز إما يحذف أو يستتر. لا صوت يعلو (حرفيا) فوق صوت الكلام الإلهي، وتاليا صوت من يتلونه ويشرحونه ويعلقون عليه ويدعون إليه. ما من سبيل لتجنب إقلاق الراحة المقدس هذا الذي يحوز شرعية متعالية لا تُساءل، والذي لا ريب أنه “النموذج العتيق” وراء الشعار المقدس على طريقته والاستبعادي جوهريا: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
هذه الممارسة السيادية لا تنكر الخاص وحده (البيت والمجال الشخصي)، بل والعام كذلك (الدولة والمواطنة…)، وهي تحفظ ضعف الفصل بين العام والخاص في ممارسة السلطة في بلادنا.
حيال ذلك يبدو أننا نحتاج إلى مبدأ إيجابي عام، يمكّن الأفراد من التنظيم والاحتجاج على تجاوزات الأجهزة والسلطات الدينية. هذا شيء نفتقده اليوم تماما. ما يترك المجال مباحا لاحتجاجات طائفية أو جزئية، أو لتدخلات إكراهية من قبل السلطة. وهذه تدخلات استنسابية، وقلما تهتم بصالح الأفراد والمجموعات الطوعية. بل نرجح إنه يناسبها في سوريا أن تثور احتجاجات جزئية، كي تعزز دورها التحكيمي الكلي.
من جهة ثانية، بلى، يمارس الدين العام ولاية عامة، عبر صيغة حضوره الممأسسة: الدستور الذي يجعل منه دين الدولة، وقوانين الأسرة التي تعرّف السكان بدلالة أديانهم، والمدرسة العامة التي تميز بينهم حسب أديانهم أيضا، ووسائط الإعلام العامة. وكلها بالمناسبة تعترف فقط بالأديان المعترف بها إسلاميا. هناك مسلمون موحَّدون (سنيون غالبا) وهناك مسيحيون متماثلون، وهناك ربما يهود. المذاهب الإسلامية الأخرى غير موجودة (عدا في لبنان، وربما العراق اليوم).
لكن هذه قد تعبر عن نفسها من خلال الاحتجاج ضد وضع الدين العام. هذا محقق اليوم في سورية، وبقدر ما يتغلب هذا الدافع فإنه يشحن الاحتجاج بشحنة فئوية وغير ديمقراطية. من المهم لذلك تطوير اعتراض ديمقراطي وعام ووطني على وضع الدين العام، لا يجامل الاعتراضات الجزئية، لكنه لا يواجهها باعتراضات جزئية أخرى. لا مناص من أجل ذلك من نزع الولاية العامة للدين، وتعهد استقلال الدولة عنه. دون ذلك تبقى بلداننا نهبا لانفصال نفسي واجتماعي، هو بمثابة إغراء دائم بانفصال سياسي تام، أو محرك باطن للرغبة في “نزع الإسلام” ذاته. يرى كازانوفا الذي أشرنا إليه فوق أنه ” كلما قاومت الأديان سيرورة التمايز الحديث (..) كلما تمايزت نزعتها للأفول على المدى الطويل”. علما أن “التمايز” و”الأفول” مفهومان للعلمانية، يرى المؤلف أن أولهما هو “الجوهر الصحيح لنظرية العلمنة”، ويتحفظ على الكفاءة التفسيرية لثانيهما.
وخلاصة هذه الفقرة أن خصخصة مطلقة للممارسة الدينية الإسلامية ليست لازمة. وأن التمييز بين عام مطابق للدولة وخاص لا يسكن في غيره الدين ضيق تحليلياً وسياسياً. ربما تلزم مرتبة إضافية، ما دون العام، تقيم فيها التعبيرات الدينية الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويتاح لها التحرك بين النطاقين العام والخاص.
[ 6
في هذا الصدد يمكن اقتراح ترتيب جديد يبدو لنا أن من شأنه أن يصنع قضية إيجابية للمقاومات المستلبة راهنا ضد السلطة الدينية (إما مستلبة طائفيا، أو تابعة للدولة الاستبدادية التي يشكل الدين العام عنصرا تكوينيا لها): الربط الشرطي بين الدور السياسي للدين وبين زوال ولايته العامة الممأسسة والسيادية. يمكن وفقا لهذا الترتيب الدفاع عن دور سياسي عام يقوم به أي إسلاميين محتملين، لكن في سياق العمل من أجل دولة لا تُعرِّف نفسها بالدين أو تمنحه حقا تشريعيا عاما أو تجعل تعليمه إلزاميا أو تتولى هي نشره عبر الإعلام العام. بمعنى آخر: السياسة مقابل السيادة والعمومية؛ أو أوسع دور سياسي للدين، لكن دون دور سيادي أو عام ممأسس. أما جمع السياسة والسيادة، دور سياسي عام للإسلاميين مع الدين العام الممأسس، فهو صيغة متطرفة يصعب كفالة المساواة والمواطنة على أرضيتها.
معنى هذا الترتيب هو أن العلمانية، بعيدا عن أن تكون المدخل إلى استبعاد الدين عن السياسي، هي بالأحرى المدخل الأنسب لقيام الدين بدور سياسي وعام. بالمقابل، إن تمأسس هذا الدور العام في الدولة على نحو ما هو الحال راهنا يتعين أن يلغي مبرر وجود الحزب الإسلامي.
لكن هذا موجود. وهو موجود في سوريا منذ الاستقلال أو قبله بقليل. وهو اليوم، ومنذ ثلاثين عاما، في صراع مع دولة يصعب أن تكون أكثر دينية دون أن تدمر نفسها ومجتمعها؛ ولا تستطيع بالمثل أن تتخلى عن الدين العام، فتتعلمن، لكون نخبها ضعيفة اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا، وكذلك لأن أولويتها العليا موجهة نحو حكم مؤبد لا نهاية له، الأمر الذي يتوافق مع مراعاة الدين والقائمين عليه في كل ما لا يمس بالسلطة. هذه الدولة لا تدوم دون استبعاد التعلمن والتأسلم معا. وإن لم يكن التأسلم مخرجا، لأنه يصنع استبدادا استبعاديا فإن العلمنة تفوق قواها، وتتعارض مع مطلب الحكم المؤبد، رغم أن علمنة متقبلة للحزب الإسلامي هي المخرج العقلاني الأنسب من مشكلة ازدواج العام الحالية. العقلاني بمعنى الأقل تناقضا، والذي يوفر نموذجا متسقا يتيح تنظيم الوقائع الفوضوية الراهنة للعلاقة بين الدين والدولة.
ما نريده هو الربط بين مقاومة وضع الدين العام الممأسس وبين مقاومة الدولة الاستبدادية كعائقين أمام المواطنة والدولة الوطنية الحديثة، أو وضع التحرر من أحدهما في سياق التحرر منهما معا. مفهوم الدولة السلطانية المحدثة يمكننا من توحيد الوجهين، فيؤسس لاعتراض موحد عليهما معا.
أما الاكتفاء بالاعتراض على وضع الدين العام الممأسس منفصلا عن بلورة تفكير وعمل سياسيين في مواجهة الاستبداد السلطاني المحدث، وفقا للسياسة العلمانية الرائجة، فلا يفضي إلا إلى تعزيز هذا دون مساس بذاك، على ما يشهد الحال السوري اليوم. لعله يصح التكلم هنا على علمانية سلطانية، إيديولوجية تلوذ بالحكم الاستبدادي ضد الدين العام.
وبالمثل فإن من شأن الاعتراض أحادي الجانب على الاستبداد السلطاني دون رؤية وضع الدين العام، على النهج الديمقراطي التقليدي، أن لا تثمر غير ديمقراطية سلطانية، ينتظم فيها المجتمع دينيا وملليا. وفي إطارنا التاريخي والإقليمي تبدو هذه أوفق للنكوص إلى الاستبداد السلطاني منه للتطور إلى ديمقراطية مواطنة. ولقد سبقت الإشارة إلى أن ضعف وانقسام حركة المعارضة في سوريا مرتبطان بمطابقة العام والدولة حصرا، وعدم رؤية الفاعلية التمزيقية للدين العام اجتماعيا.
مهم أن نثبّت هنا فكرة أن الدين العام والحكم الاستبدادي ليسا بديلين عن بعضهما، وليس أي منهما سندا ضد الآخر في الصراع الديمقراطي التحرري. السياسات التي تتوسل أحدهما ضد الآخر تخذل نفسها، وتنتهي حتما إلى ترسيخ نموذج الدولة السلطانية المحدثة. وهذه دولة حكم مؤبد ودين عام متبنين وسائل. ولا يزيد قول الإسلاميين إن الإسلام دين ودولة على كونه انعكاسا للواقع السلطاني القديم المتجدد، ومن غير المحتمل أن يختلف تحقيقهم له بغير اللون الإيديولوجي.
[ 7
تلح الحاجة اليوم إلى إخراج العلاقة بين الدين والدولة من التجاذبات الإيديولوجية والسياسية، التي قد تحيل ذاتها إلى تجاذبات اجتماعية ودينية. عبر تناول وضع الدين العام، كان مقصد المقالة أن تنظر إلى الدولة السلطانية، هذه المكونة من حكم استبدادي سلالي مؤبد ومن مجتمع منتظم دينيا أو ملليا، من وجهها الآخر، وجه الدين. نفترض أن إرجاع أي من الوجهين إلى الآخر هو فعل اختزال جائر، وأننا حيال مبدأين مستقلين نسبيا. لكننا ألمحنا إلى غير وجه ارتباط بينهما في الصفحات أعلاه. أشرنا إلى أن سلطة الآمر الديني، متمثلة في “كلام الله”، “نموذج عتيق” لسلطة الحكم وكلامها، وأن أصل ضعف المجال الخاص ربما يكمن في نموذج السلطة الإلهية المطلقة التي لا تحتاج إلى عام وخاص لفهم أو تنظيم عالم صنعته وتحيط بكل ما فيه، وتتشكل السلطة العليا فيه على غرارها. وصيغ تمأسس الدين العام وتعبيراته السائلة هي بمثابة معادلات عصرية للسيادة الإسلامية، تحجبها وتعلنها في آن. المواطنة لا تتحقق على هذه الأرضية، تتحقق على القطيعة معها. قطيعة لا تزال أمامنا، ولا تزال مرغوبة، وإن كنا نرجح ونفضل لها أن تأخذ شكل إعادة هيكلة العلاقة بين “الإسلام” والدولة، بما يضمن حصر السيادة في هذه، أي فصل الدين عن الإكراه وعن الولاية العامة، الأمر الذي لا يمنع ولايات دينية جزئية ودون عامة وغير إكراهية، ولا يقتضي عزل الدين عن السياسة.
[ 8
على أرضية مفهومي الدولة السلطانية والدين العام نتصور عملا مركبا من أجل القطيعة.
من جهة العمل على كسر دوام البنى الاستبدادية التي تصون تكامل ووحدة الدولة السلطانية المحدثة، ومن جهة ثانية وفي المرتبة نفسها من الأهمية يتعين استهداف وضع الدين العام بالتغيير في إطار عمل أوسع على الإسلام، ربما يناسب وصفه بالإصلاح الإسلامي.
لماذا هذا مهم؟ لأنه لم يتحقق انفصال محرّر في تاريخ الديني عندنا، اعتقادا وهياكل وسلطة. هناك تكدس تاريخي عمره من عمر الإسلام، يبرز حينا ويخفت بروزه حينا، لكن لم يقع في أي حين انقطاع أساسي عنه، يتيح تولد معان ومخيلة ورمزيات جديدة ويعيد تشكيل الموروث الإسلامي نفسه في صورة مختلفة.
مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة تختلف عن غيرها، بلى، في أنه تقع على عاتقها مهمات دينية تقع ضمن النطاق التأسيسي أكثر من السياسي. لها بالفعل “خصوصية” تتمحور حول الإسلام، لكنها تتصل بالتحديد باستمرارية طابعه السياسي أو بتناميه. الإسلام اليوم عام، ولا يتشكل عام أكثر استيعابا دون انفصال عن الإسلام العام هذا، أو أفضل عن النظام الإسلامي. الإسلام أيضا يقدم نموذجا سيدا للسلطة العليا لا تتشكل سلطة الدولة لدينا في صورة جديدة دون صراع معه.
عبر مفهوم “الخصوصية”، يحول الإسلاميون معضلة تاريخية لما نتمكن من معالجتها وحلها إلى امتياز فوق تاريخي يوجبون التمسك به. هذا وهم رومانسي مخدِّر، لا صحو لنا إلا الصحو منه.
ومن جهتنا لا نقول إنه “لا يمكن” أن يتحقق لنا أي “تقدم” دون “انفصال عن الإسلام”. لكن يبدو لنا أن تقدما أفضل وأوسع أفقا وأكثر تحررية واتساقا يتحقق بقدر ما نعالج مشكلتنا الدينية بصورة أفضل. لا ترتد هذه إلى وضع الدين العام، لكن هذا وجه بارز لها.
الأولية العملية فيما نرى هي لكسر الاستبداد. هذا مرغوب الآن وفي كل وقت. ومن وجهة نظر المدى الأبعد أقول إنه مرغوب حتى لو ترتبت عليه الفوضى على المدى القصير. التضحية بالعدل من أجل العقل على ما يفعل علمانيو الساعة تخسر العدل دون احتمال كبير لأن تكسب العقل. ترى، كيف يتكون هذا بينما تتثبت ممارسته الراهنة على بتر جوانب أساسية من الواقع (السياسة والدولة، الاقتصاد، الأوضاع الدولية..)، أو على اختزالها كيفيا إلى جانب واحد (الدين طبعا، أو “الثقافة”)؟ هذا فوق أن من شأن “عقل” يتكون في سياق يهمش مطالب العدل، ويتنكر كذلك لمطالب الحرية، أن تتطور فيه عناصر فاشية أو استبدادية محدثة، نراها الآن بوضوح في فكر وممارسة مثقفين علمانيين مكرسين.
لكن الأولوية التاريخية أو من حيث الأهمية هي لتغير أساسي يمس موقع “الإسلام” في النظام العام ونظامه الذاتي ونظرته إلى العالم. يدوم نظام استبدادي جيلا أو جيلين أو ثلاثة، لكن فرصة أن يحل محله نظام استبدادي آخر أكبر دون “انفصال عن الإسلام” تتشكل بموجبه سيادة جديدة، لا يُمارس الإسلام ضمنها السياسة بحرية فقط، وإنما ينال للمرة الأولى استقلاله السياسي أيضا.
[ 9
العلمانية على نحو ما عرفناها فوق، الفصل بين الدين والسيادة، هي بالفعل “الحل الوسط” بين حذف الدين وحذف الدولة، أو بين برنامج الأسلمة إن في صيغة “الحاكمية الإلهية” أو في صيغة “تطبيق الشريعة” وبين نزع الإسلام الذي يسكن خطابات ويداعب مخيلات. ندافع عن علمانية تتعرف بالاعتراض على موقع الدين الحالي في الحياة العامة، أي على الدين العام، تاركة الموقف من تعاليمه للشأن الخاص.
يبقى أن بعض قضايا هذه المقالة: نطاق ما دون العام، الانفصال عن الإسلام، ومفهوم الدين العام ذاته، تحتاج مزيدا من التوضيح والنقاش. ربما يتاح ذلك في المستقبل. كان الغرض من مجمل هذه السطور المساهمة في عقلنة الشأن الديني السياسي، أو ببساطة تنظيم التفكير في هذا الشأن.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى