صفحات الناسقصي غريب

أربعون يوماً على رحيل الأممي العذب سهيل راغب: الوقوف إجلالاً وانحناءة له

null
الدكتور قصي غريب
– 1 –
الحلم لا ينتهي أبداً، فنحن في مدينة الحسكة – الجزيرة، مدينة المطر، وسنابل القمح، وحقول القطن، وعرائش العنب، وأشجار التين والتوت، وخوابي السمن والجبن، وآبار النفط، وشقائق النعمان، وفرسان الأيديولوجيات والموقف الملتزم، المؤمنون بالقلم والكلمة، وقبالة جدث النجم السهيل الذي هوى مبكراً، وقبل الآوان، وبصوت مبحوح خافت لا يشبه النشيد نصرخ بحزن شفيف في ما تبقى من الأصحاب: قفوا نبكي من ذكرى أروع مثقف ثوري ديمقراطي عرفته المدينة الإيثارية والهامشية والمهمشة إلى حد صارخ ومفجع: قفوا نبكي قليلاً، مثل: البشر على رجل وطني كان يرنو إلى الأمام، ويتطلع إلى الأعلى، مشى على قلبه الذي يسكنه الحمام كطريق للصعود إلى درج الغد للمس وجه القمر، ولكنه سقط فجأة، وبدون سابق إنذار على الأرض التي أحبها كي يستريح في قبر نما عليه العشب..
وفوق الضريح تختلط دموع فرح اللقاء المتعب بدموع الحزن المزمن، فالمعلم والإنسان سهيل راغب ليس معنا، فلقد غدا جذر سنبلة في سهول الجزيرة، وبإجلال يليق بالفارس صاحب الثرى ان تتعالى الأصوات لتتصل بالرب والبشر، فيرتل القرآن والإنجيل، ويقرأ البيان الوطني: العربي، والإسلامي، والشيوعي، والليبرالي بحللهم الجديدة بعد المراجعة، والنقد، والتصحيح، والتصويب، فضلاً عن ذلك تقرأ أشعار محمود درويش، وتغنى أغاني مارسيل خليفة، وأنا الذي فقد ظله سأنشد مرة أخرى” بطاقة هوية: سجل أنا عربي ” كما أنشدتها قبالته أول مرة منذ زمن بعيد، ومن ثم أصرخ بصوت عال له صدى: أنا هنا يا أخي الحبيب، وصديقي العزيز سهيل: أنا هنا في الحسكة في الجزيرة في الوطن، فالحلم لا ينتهي لأننا نربي الأمل، وهذا ما تبقى لنا.
– 2 –
” يا أبتي اغفر لهم إنهم لا يعرفون ماذا يفعلون ؟ ” ففي ظل المتغيرات الدولية الجديدة، وعصر العولمة وهبوب رياح التغيير العاتية التي تقودها الليبرالية المتوحشة لم تضح أبداً الأيديولوجية من الماضي، ولم يعف عليها الزمن مثلما ظن المتكلفون الذين يقولون ما لا يفعلون، ونكصوا على أعقابهم، وولوا الأدبار يريدون عرض الدنيا، فنهاية التاريخ وصدام الحضارات أيديولوجية، واحتلال البلدان وتدميرها، وفرض ما يسمى بديمقراطية الفوضى بالقوة أيديولوجية، وفرض قيم وثقافة وحضارة الآخر بالترغيب والترهيب أيديولوجية، والدفاع والمحافظة على الهوية الثقافية والحضارية من الجانب الآخر أيديولوجية، وكلمات البابا المتعبة، وخطب الملالي النارية أيديولوجية، وصراع القوى الناعم بين الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوربي، والصين، وروسيا، وألمانيا، واليابان أيديولوجية، وذبح الفلسطينيين، وتهويد القدس وإفراغها من أهلها العرب أيديولوجية، والانحياز الأميركي والأوربي للكيان الصهيوني أيديولوجية، والسكوت المريب للأنظمة العربية أيديولوجية، والانبطاح والفرار أيديولوجية، والمواجهة والمقاومة أيديولوجية، والعروبة السياسية أيديولوجية، والإسلام السياسي أيديولوجية، والماركسية اللينينية أيديولوجية، والليبرالية أيديولوجية ” وان التخلي عن الماركسية، وجعل الحزب حزباً برنامجياً ” أيديولوجية.
وعليه فان الأيديولوجية ما تزال سائدة وسارية المفعول في العالم الأول الديمقراطي، وكذلك أيضاً في العالم الذي فقد رقمه الثالث، وتحول إلى اسم جهة من الجهات الأربع تسمى الجنوب، ويسود فيه القهر، والفقر، والمرض، والجهل، والفساد !.
وكذلك أيضاً، فان الرياح العاتية للعولمة، ومعها القوة الغاشمة في ظل الأجواء الدولية لم تستطع أن تلغي الفارق الشاسع بين مفهوم الدولة المدنية الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة، وبين غابة ما يسمى بالفوضى (الخلاقة) القائمة على الطائفية والعنصرية، وبين واقع نيل الحقوق السياسية والثقافية في الدولة، وبين خيال وأوهام وأحلام سياسية لا تتحقق أبداً، وبين الاعتراف بالآخر واحترامه، وبين تهميشه وإلغائه، وبين المحبة والتسامح والحوار، وبين الحقد والانتقام والعنف، وبين المتمسك بالأيديولوجية مع الإيمان بتجددها، وبين المدعي المتنقل بين الأيديولوجيات، وبين البرنامج السياسي في العالم الأول الديمقراطي المتمدن، وبين البيان السياسي الذي يسمونه مجازاً (البرنامج السياسي) أو البرنامجية في العالم الذي فقد رقمه، وتحول إلى جهة.
– 3 –
” وما يستوي الأعمى والبصير “، فمثل جلجامش الذي رأى كل شيء، فان المعلم سهيل راغب رأى ما لا يرى بتجربته الطويلة، وخبرته العميقة، وثقافته المتجددة: ان الأيديولوجية هي الداء العضال المصاب به الكون، ولا شفاء منه؛ لأنها القاعدة التي يقوم عليها البرنامج السياسي والبيان السياسي سواء، ففي عصر العولمة، وهبوب رياح التغيير العاتية التي تقودها الليبرالية المتوحشة كانت مقاربته للأوضاع تبدو أكثر عقلانية وموضوعية وواقعية، وخاصة في لحظة تمسكه المرحلي في الوقت الراهن بالأيديولوجية الماركسية على حساب ما أطلق عليه الآخرون تسمية البرنامجية أو البرنامج السياسي مجازاً مع انه بيان سياسي شعاراتي بامتياز؛ لأنه يفتقد إلى مقومات البرنامج السياسي الصحيح، و قد جاء وقوفه إلى جانب الأيديولوجية الماركسية ليس من خلفية الجمود العقائدي- الدوغما – ولكن أعتقد كان من منطلق فهمه ووعيه العميق لما يجري في العالم، ومنه عالمنا الذي فقد رقمه، وتحول إلى جهة، وكذلك أيضاً فهمه ووعيه العميق للوضع السائد في الوطن، في حين تخلى الآخرون عن الأيديولوجية الماركسية، وتبنوا ما أطلق عليه تسمية البرنامجية أو البرنامج السياسي من منطلق ” هبت رياحك فاغتنمها “، وقد نسوا أو تناسوا: إنهم لا ينتمون ويعيشون في العالم الأول الديمقراطي، وإنما ينتمون ويعيشون في العالم الذي فقد رقمه وتحول إلى جهة، وفيه الجهة الوحيدة التي لديها ما يسمى برنامج سياسي حزب الدولة الحاكم حصراً لامتلاكه كل المقدرات في البلد، في حين أن كل ما ترفعه الأحزاب والحركات هو عبارة عن: بيان سياسي شعاراتي؛ لأنه يفتقد إلى المعطيات الواقعية، والأرقام، والنسب الدقيقة التي يقوم عليها البرنامج السياسي أو ما يطلقون عليه تسمية البرنامجية.
إن ما يطلق عليه تسمية البرنامج السياسي لأي حزب أو حركة في العالم الذي فقد رقمه وتحول إلى جهة عبارة عن: بيان سياسي إنشائي يقوم على الشعارات والمواقف السياسية التي تكون بين رد الفعل والاستجابة لا أكثر، في حين لا يقوم البرنامج السياسي الصحيح إلا في العالم الأول الذي تسود فيه دولة القانون والمؤسسات لأنه يجب أن يرتكز على المعطيات والتطورات المجتمعية الموضوعية، والأرقام، والنسب الصحيحة والدقيقة لإيجاد الحلول الناجعة للمشكلات الواقعية التي تواجه المجتمع، والتي يمكن التعرف إليها، والوصول إليها بسهولة متناهية، في حين أن هذا يعد من الصعوبات في عالمنا لأنه يتم إدخاله في باب أمن الدولة، وهذا ليس صحيح أبداً، ولذلك تتسابق الأحزاب في الدول الديمقراطية بعد معرفتها الدقيقة والعميقة بأوضاع ما تواجهه مجتمعاتها من مشكلات بتقديم أفضل الحلول الناجعة لحلها، وتدخل فيها السباق الانتخابي، فعلى هذا الأساس يقوم البرنامج السياسي، فأي برنامجية هذه التي يدعون بها، ونحن ننتمي ونعيش في العالم الذي فقد رقمه، وتحول إلى جهة، إنها شعارات فارغة مبتذلة ورثة.
– 4 –
في العالم الأول الديمقراطي هناك فرق بين رجل الدولة ورجل السياسة، فالأول يفكر بالجيل القادم، في حين يفكر الآخر في الانتخابات المقبلة، وفي العالم الذي فقد رقمه، وتحول إلى جهة يسود فيه القهر، والفقر، والمرض، والجهل، والفساد هناك فرق بين رجل الأيديولوجية الملتزم الديمقراطي، وبين إمعاة الظاهرة الاستعراضية الشعاراتية الفارغة، فالأول يواجه حل التحديات الفكرية والسياسية بالكلمة والحوار، وهو مشروع واعد لرجل دولة، في حين يواجهها الآخر بالتطير، وبلغة التهديد والوعيد الزقاقية، والهروب إلى الأمام، ومن ثم فهو مشروع رداح غوغائي بامتياز لا يمت بأي صلة إلى ما يسمى بالبرنامجية أو البرنامج السياسي، ولا إلى الديمقراطية.
– 5 –
لقد ” كان على بينة “، فمثلما كان سهيل اسماً لنجم لامع في السماء كان ” في هذا الزمن الصعب ” في الأرض نجماً لامعاً، فهو من الرجال الفرسان الذين قدموا ما باستطاعتهم لشعبهم، وبقي في الصورة، وآثر احترام ماضيه الفكري، وتاريخه السياسي، ولم يقايض المبدأ بالمصلحة الآنية، ولم يحاول أن يقفز قفزة عشوائية إلى الأمام كما قفز الآخرون، وسقطوا على رءوسهم بعد أن فقدوا التوازن، فطوبى للأممي العذب سهيل راغب أين ما كان ثاوياً ؟!.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى