صفحات سورية

لعبة الأمم في الشرق الأوسط تحصل من دون العرب

null

حسن شامي

بالاستناد الى بعض وجوه الحداثة السياسية ومعاييرها، يمكن القول، وإن بشيء من الاختزال، ان إيران أمة، وتركيا أمة، وإسرائيل أمة، العرب ليسوا أمة. يمكن ان نضيف ايضاً ان العرب هم اليوم أبعد من أي وقت مضى عن استجماع الشروط المادية والمعنوية للسير التدريجي نحو بناء القوام السياسي للأمة التي تعج بها بياناتهم الرسمية وغير الرسمية، خصوصاً عندما تتعاظم لعبة الأمم في الشرق الأوسط الكبير.

هذا التشخيص قابل، بطبيعة الحال، للاستخدام بطرق مختلفة، بل حتى متقابلة، إذ تتأرجح بين الرثاء التاريخي والقدرية التي تتولى تطبيع العجز المفضي الى نوع من العدمية السياسية، وبين الشماتة المشتقة من صلافة (سينيكية) استراتيجيات دولية عموماً، وأميركية تخصيصاً، باعتبارها واقعية سياسية أو جيو – سياسية.

ويرجح في الظن ان هذا التشخيص لم يغب عن بال وزير الدفاع الأميركي روبيرت غيتس حين اعلن أن إرسال حاملة طائرات ثانية الى الخليج هو للتذكير (تذكير إيران بالطبع) بقوة واشنطن العسكرية. وقد أرفق هذا التذكير بما يشبه الاستدراك للتأكيد على انه لا يعني وجود نية لضرب ايران. إنه مجرد تذكير لعل الذكرى تنفع.

وقد يتزايد استعراض القوة، في المدى القريب، بحسب ما يرشح عن التصريحات الأميركية والإسرائيلية حول ضرورة عزل «حماس» ومواجهتها مما يشكل التفافاً على المساعي المصرية للتهدئة على الجبهة الفلسطينية – الإسرائيلية، والفلسطينية – الفلسطينية.

يفترض هذا التذكير ان ثمة في ايران، ليس على مستوى قيادتها الحالية فقط، من ينسى، أو يسهو عن، حجم القوة الأميركية، من الصعب على المراقب ان يصدق بأن في ايران من يجهل، أو ينسى، وجود ما يربو على المئة وخمسين ألف جندي أميركي في العراق، ووجود قوة عسكرية اميركية في افغانستان المجاورة والعديد من القواعد العسكرية المنتشرة في عدد من البلدان العربية وغير العربية. من الصعب أكثر أن ينسى الإيرانيون، في ظل احتدام النزاع وفرض العقوبات المتعلّقين بالملف النووي، ان الدولة الإيرانية مدرجة اميركياً في عداد «الدول المارقة» وأنها على لائحة «محور الشر» التي تضمّها الى جانب كوريا الشمالية فيما يمكن حذف العراق، وإن مؤقتاً، من هذه اللائحة بعد سقوط «دولة» صدام حسين والشروع في تطبيق واختبار المقولة الاستراتيجية الأميركية المتحدثة عن «بناء الأمم». وتعلم الإدارة الأميركية أن هناك نوعاً من الإجماع القومي، المتعالي عن الانقسامات الداخلية الحقيقية، على حق الأمة الإيرانية في امتلاك الطاقة النووية السلمية (وغير السلمية ربما)، والقدرة على إطلاق أقمار صناعية بالتالي، بعبارة أخرى، يخاطب التذكير بالقوة الأميركية ليس النظام المستند الى نوع غامض بعض الشيء من الديموقراطية الدينية، بحسب خبراء ومحللين سياسيين، بل الأزمة الإيرانية نفسها.

في ما يخص تركيا، رأى المراقبون قبل أشهر قليلة، كيف مارست الإدارة الأميركية ضغوطاً على الدولة التركية كي لا ترد على مقتل حوالى عشرة جنود أتراك على يد حزب العمال الكردستاني، فيما راحت الإدارة ذاتها تدفع المسؤولين الإسرائيليين من ظهورهم لتوسيع نطاق الحرب على «حزب الله» اللبناني، وعلى لبنان في معنى ما، إثر عملية أسر الجنديين الإسرائيليين ومقتل سبعة جنود آخرين في تموز (يوليو) من عام 2006. على ان الإدارة الأميركية عادت وتركت القوات التركية تتوغل داخل الأراضي العراقية في حملة عسكرية، محدودة وموقتة بحسب ما أعلنت القيادة التركية آنذاك، لضرب معاقل حزب العمال الكردستاني. التزام الأتراك بضبط النفس في البداية، واتخاذ القرار، بعد فترة وجيزة، باجتياز الحدود العراقية، ومن ثم الانسحاب بعد صدور تصريحات متضاربة حول مدة الحملة العسكرية وحدود توغلها، يجيزان الاعتقاد بأنهما خضعا لمفاوضات مع الإدارة الأميركية لم تكن، على ما يبدون ودية أو باردة، بل كانت على الأرجح أكثر من فاترة إن لم تكن ساخنة. وقد يكون مفيداً، ها هنا، ان نذكر، ما دمنا في معرض دلالات التذكير وحمولاته، ان البرلمان التركي رفض عرضاً أميركياً مغرياً بالسماح للقوات الأميركية بعبور الأراضي التركية للدخول الى العراق واجتياحه لإسقاط نظام صدام حسين واحتلال البلد في عام 2003. «لقد وضعنا على الطاولة رزمة ضخمة من المال يبلغ مقدارها عشرين مليار دولار»، مع الوعد بتقسيط مبلغ مواز لهذا المبلغ على مدى سنوات عدة. هذا ما قاله حرفياً مسؤول أميركي كبير آنذاك في معرض تقويمه للمفاوضات مع تركيا. مع ذلك، جاء التصويت في البرلمان التركي، إثر مناقشة ديموقراطية لوجهات النظر، في غير صالح العرض الأميركي، ما استدعى تعديلاً في الخطة ودخلت هذه القوات، من دون مناقشة، من أراض عربية.

في إسرائيل، تجري الاستعدادات للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس الدولة العبرية والإعلان في منتصف أيار (مايو) من عام 1948 عن استقلالها عن الدولة التي سمحت بنشوئها، أي بريطانيا. من المتوقع جداً ان نرى ونسمع في الأيام القليلة القادمة، أي خلال احتفالات ستشهد تغطية إعلامية واسعة ومكثفة، مشاهد وتصريحات تتجاوز الاعتراف بإسرائيل كدولة – أمة، وتتركز على «المعجزة» أو «الأعجوبة» الإسرائيلية مع إسباغ صفة الفرادة والاسثتنائية الخارقة على استرداد (سرقة) أراضي سلبت من أصحابها قبل اكثر من ألفي عام. ومثل هذه الفرادة المتجسدة في كون إسرائيل واحة الديموقراطية الوحيدة المحاطة بصحراء عربية مسكونة بنظم سلطوية وتسلطية واستبدادية، يستحق مكافأة تتعدى المديح الأخلاقي للإقرار بشرعية ان تكون الدولة العبرية قوة إقليمية عظمى. ولكي تبقى هذه المعادلة ينبغي الإبقاء على صورة التقابل بين واحة وصحراء، بين ديموقراطية واستبداد، بين النمو والتخلف، بين الحداثة والتقليد، وما يشبه هذا النوع من الثنائيات. فهذه الأخيرة حاجة استراتيجية وهي تتطلب على الدوام إعادة إنتاج التصحر، من الداخل ومن الخارج. ستكون العروبة مقبولة إذا اندرجت في هذه الاستراتيجية. وهذا ما يجيزه الى حد بعيد الاقتصاد السياسي للنظام العربي الموزع بين اقتصاد ريعي، واقتصاد يحتاج الى المساعدات السنوية (كما هي حال مصر المؤهلة لأن تكون أمة أو مركز أمة) واقتصاد خدمات في المجالات التي قررها منطق اشتغال اقتصاد الخارج وليس الداخل.

استواء البلدان الثلاثة، تركيا وإيران وإسرائيل، أُمماً في المعنى السياسي للكلمة، لا يعني ان هذا الاستواء لا يعرف الخلل أو الاضطراب أو خطر التفكك. بل يعني ان الوجهة العامة لسياسات هذه البلدان تحرص، من مواقع مختلفة، ووفق استراتيجيات مختلفة، على تحقيق أعلى قدر ممكن من الاندماج الوطني بين جماعات وإثنيات ولغات مقيمة فيها. الحالة الإسرائيلية هي الأكثر صعوبة بالنظر الى كونها حالة استعمارية من جهة ونظام تفرقة عنصرية (ابارتايد) من جهة أخرى. وهذا بالضبط ما يستدعي حقن صورتها بجرعات كبيرة من الاستثنائية التي تضعها فوق السياسة والتاريخ. السياسة الأميركية تدور على لعبة الصراع بين الأمم الثلاث، وليس مطروحاً على العرب سوى ان يكونوا مادة هذا الصراع وساحاته وتاريخ العرب الحديث هو بالضبط تاريخ منعهم وامتناعهم من تحصيل صفة سياسية لائقة حتى لكياناتهم الوطنية. وما يجري العمل عليه هو تعديل العلاقة لتصبح علاقة تربوية وإرشادية بين واحة متحضرة وناشطة وبين صحراء قبائل لا تعرف فنون الإنتاج. لن نناقش هنا مفهوم الأمة. على ان ما يميز البلدان المشار إليها عن عوالم العرب، في المشرق خصوصاً، هو غياب العائلية السياسية فيما لا تنفصل، عند العرب، استراتيجيات السلطة عن استراتيجيات القرابة وتنويعاتها.

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى