صبحي حديديصفحات العالم

فرنسا ساركوزي: حاضنة الحرّية أم ملاذ الطغاة؟

null
صبحي حديدي
كما شاء الرئيس الفرنسي دعوة عدد من رؤوس أنظمة الإستبداد والفساد المتوسطية للمشاركة في العرض العسكري الخاص بعيد الثورة الفرنسية، قبل سنتين، في قلب باريس، بمناسبة مؤتمر الإتحاد المتوسطي كما سارت الذريعة؛ فإنه بالأمس شاء دعوة عدد من أنظمة الإستبداد والفساد الأفريقية، للمشاركة في المناسبة ذاتها، بذريعة الاحتفاء بالذكرى الخمسين لاستقلال هذه الدول/ المستعمرات الفرنسية السابقة. وفي الأمر مهانة فرنسية، مزدوجة في الواقع، للشعوب التي يحكمها، وينهبها، هؤلاء: ليست عاصمة الدولة المستعمِرة، سابقاً، هي المكان الأفضل للاحتفاء بالذكرى الخمسين للإستقلال، من جانب أوّل؛ وليس في هذا التوقيت بالذات، حين تحتفل الإنسانية جمعاء، وليس فرنسا وحدها، بعيد سقوط واحد من أبغض رموز الإستبداد: سجن الباستيل.
غير أنّ اليمين الحاكم في فرنسا شاء، من جانبه، إضافة بُعد آخر على المهانة المزدوجة تلك، حين أقرّت الجمعية الوطنية، برلمان فرنسا، مشروع قانون يحظر على المحاكم الفرنسية قبول دعاوى ضدّ مجرمي الحرب، إلا إذا كانوا يحملون الجنسية الفرنسية، أو كانت الجرائم المنسوبة إليهم قد ارتُكبت على الأراضي الفرنسية. وهذا قانون مخزٍ حقاً، ويشكل ارتداداً صريحاً وفاضحاً عن تشريعات فرنسية سابقة، كما أنه يتناقض مع القوانين المعمول بها في معظم الدول الأوروبية. ومن المأساوي أن تكون فرنسا، بلد حقوق الإنسان كما يحلو لأبنائها أن يتفاخروا، هي الملاذ الآمن لأصناف شتى من الطغاة والقتلة والجلادين ومصاصي دماء الشعوب.
وإذْ يشدّد جان ـ كريستوف روفان، السفير الفرنسي السابق لدى السنغال، في حديث مع صحيفة الـ’موند’، على حنين بعض المسؤولين الفرنسيين إلى عقود الإستعمار القديم، وتعطشهم إلى إدامة صيغة أعلى من الهيمنة على مقدّرات أفريقيا، ضمن ما يُعرف بسياسة ‘فرنسأفريقيا’ Fran’Afrique؛ فإنه يؤكد أنّ السكرتير العام لقصر الإليزيه، كلود غيان، هو مهندس هذه الاحتفالية الأفرو ـ فرنسية. ولا يرتدي التفصيل صفة المصادفة العابرة إذا تذكّر المرء أنّ غيان هو، نفسه، الصديق الصدوق للنظام السوري، ليس في عهد ساركوزي الرئيس فحسب، بل منذ أن تولى الأخير حقيبة الداخلية وكان غيان مدير مكتبه، حتى في ذروة غضبة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على بشار الأسد، بعد اغتيال رفيق الحريري.
والحال أنّ نبش بعض دفاتر ماضي فرنسا الأفريقي ليس سوى الجولة الأحدث في رياضة ساركوزي الأثيرة، التي لم يتوقف عن ممارستها منذ انتخابه في أيار (مايو) 2007، أي الظهور بمظهر القادم إلى الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد الفرنسي من منطقة بكر، جديدة تماماً، مبتكرة مستحدثة، لم يطأها قبله أيّ سياسي في تاريخ الجمهورية الخامسة. فبعد اقلّ من خمسة اشهر على انتخابه، ألقى ساركوزي خطبة عصماء عجيبة، تكاد غرائبها تجعل المرء يفكّر في أنّ كبار زعماء التحرر الوطني، من أمثال أحمد سيكوتوري أو كوامي نكروما أو جمال عبد الناصر، هم الذين ينطقون… بلسان رئيس فرنسا الراهنة! هنا بعض الفقرات، التي اقتُبست بالحرف:
ـ ‘أناشد الأمم المتحدة أن تعالج مسألة توزيع الأرباح، ومكاسب البضائع الجديدة والموادّ الخام ومنافع التكنولوجيا، على نحو أكثر عدلاً. وأن تعالج قضية إدخال أخلاقية جديدة إلى الرأسمالية المالية، بحيث توضع في خدمة التنمية’.
ـ ‘العدالة تعني توفير فرص النجاح ذاتها لكلّ طفل فقير في العالم، تماماً على غرار ما يتوفر من فرص لكلّ طفل غني’.
ـ ‘ارتباط المرء بعقيدته الدينية، بلغته وثقافته، وبأسلوب عيشه وفكره ويقينه، كلّ هذا طبيعي وشرعي وإنسانيّ بالمعنى العميق. وإنكار هذا الأمر يزرع بذور الإذلال. إنه يشعل نيران التعصب القومي، والتشدد المذهبي، والإرهاب الذي نزعم أننا نحاربه’.
ـ ‘لا يمكن تفادي صدام الحضارات عن طريق إجبار الجميع على اعتناق اليقين ذاته، والتنوّع الثقافي والديني ينبغي أن يكون مقبولاً في كلّ مكان ومن الجميع’.
ـ ‘الأمم المتحدة تجسّد ما هو كوني في كلّ الإيديولوجيات، وكلّ الأديان، وكلّ العقائد، ولهذا فإنها المكان الوحيد في العالم حيث يستطيع جميع الناس التحادث فيما بينهم، وفهم بعضهم البعض…
وقبل التبشير بأركان العالم الورديّ الجميل العادل هذا، كان ساركوزي قد طالب بـ ‘صفقة جديدة’: ‘ما نحتاج إليه الآن هو ذهنية جديدة… ونحتاج إلى صفقة جديدة’ ترتكز على فكرة أنّ ‘المنافع المشتركة التي تخصّ الإنسانية بأسرها، هي مسؤوليتنا جميعاً’. ولكي لا يكون ثمة التباس حول الطبيعة التاريخية والدلالية للمصطلح، اختار ساركوزي أن يستخدم الأصل الإنكليزي New Deal! ورغم أنّ مفردات الخطاب قُدّت من لغة خشبية طوباوية تفوح منها روائح الزيف والنفاق وذرّ الرماد في العيون، فإنّ اختيار ساركوزي ذلك المصطلح، وهو فصل في تاريخ الولايات المتحدة والإمبريالية الحديثة، كان ينقض ما بشّر به قبل حفنة كلمات في الخطاب ذاته، من وجوب الامتناع عن فرض العقائد على الآخرين.
المسألة لا تقتصر على هذا الجانب، حتى في حدوده الدنيا التي تخصّ استقواء ثقافة على أخرى، لأنّ الحديث عن صفقة جديدة في العلاقات الدولية بين الشمال والجنوب، وبين الغنى والفاقة، والقوّة والضعف… ليس سوى الصفقة القديمة المكرورة المتكررة ذاتها، حيث اختلال التوازن أو انعدامه إنما يُسقط المعنى الأبسط التبادلي لأية وكلّ صفقة بين فريقين، إذا جاز الحديث هنا عن فريقين أصلاً. وفي الأساس، قبل هذا وذاك، كانت ‘الصفقة الجديدة’ هي مشروع الرئيس الأمريكي فرنكلين د. روزفلت لإنقاذ الولايات المتحدة خلال حقبة الركود الكبرى، سنوات 1933 و1938، وتضمنت سلسلة برامج ومؤسسات بعضها كان غير دستوري وألغته المحكمة العليا، وبعضها الآخر (مثل أنظمة التأمين الاجتماعي) ما تزال عواقبه تثقل كاهل المواطن الأمريكي محدود الدخل.
ومما له دلالة أنّ ساركوزي أعاد طرح المبادرة إياها، مع تغيير في بعض المفردات، على ضيوفه الأفارقة، في حقبة لا تشهد انحسار النفوذ الفرنسي، السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي في أفريقيا الفرنكفونية فحسب؛ بل تشهد انكماش فرنسا ذاتها، على ذاتها، نحو إجراءات رجعية، ومرتدة بمعنى ما، ضدّ مكاسب اجتماعية جوهرية، أسبغت على الدوام صفة فريدة على ما يُعرف باسم ‘الاستثناء الفرنسي’. كان ساركوزي يتشدّق بالانفتاح، مجدداً، على المستعمرات السابقة؛ وفي الآن ذاته كانت شعبيته لدى الرأي العام الفرنسي، في مختلف شرائحه الاجتماعية ومشاربه الإيديولوجية، تنغلق وتضيق وتبلغ حضيضاً غير مسبوق؛ وائتلافه اليميني الحاكم يزمع إقرار واحد من التشريعات الأشدّ إثارة للنقمة الاجتماعية، أي رفع سنّ التقاعد؛ ويتشاطر، في الجمعية الوطنية، على تشريعات مثل حظر النقاب، أو إعفاء مجرمي الحرب من الملاحقة على الأراضي الفرنسية.
وليس في الوسع، هنا، سوى استذكار عالِم الاجتماع، والمفكّر الفرنسي الكبير، بيير بورديو (1930 ـ 2002)، أحد آخر الكبار المحترمين، ممّن كرّسوا الكثير من الجهد المعمّق المنتظم والمنهجي لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة، ولم يكتفوا بالتأمّل المحض بل انخرطوا في الفعل أيضاً، وفي المشاركة المباشرة. ولقد كان بورديو شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبوي؛ وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية (على الطراز الذي أشاعه جان بودريار مثلاً، الذي اعتبر أنّ حرب الخليج الثانية، 1990، لم تقع!)، التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح اللعب.
ولم يكن غريباً بالتالي أن بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995، للأسباب ذاتها التي تشحن الشارع الفرنسي اليوم. ولم يكن غريباً، أيضاً، أنه آنذاك وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء، التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء؛ والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط، يؤمنون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر ممّا تعرف الأمّة نفسها.
آنذاك، حين شارك مباشرة في قرار الإضراب العامّ، كانت سخونة الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي، والشجون الكبرى التي ينطوي عليها ويستولدها صباح كل يوم، قد جعلت بورديو يعفّ عن الإشارة إلى أنّ المواطن الفرنسي يعيش في نظام ديمقراطي يعطيه حقّ الإضراب، مثلما يعطيه الحقّ ـ كلّ الحق ـ في الذهاب إلى صندوق الإقتراع ووضع الورقة التي يشاء، بعيداً طبعاً ـ ولكي نتذكّر أحوالنا مع أنظمتنا ـ عن تقاليد صيغة الـ 99,99، أو بيعة القائد مدى الحياة أو إلى الأبد. الفرنسي، بمعنى آخر، كان هو الذي انتخب هذا النفر الليبرالي الإصلاحي البربري الملتفّ حول ساركوزي، وكان يعرف جيداً أن برامجهم ستكون هكذا.
والفرنسي مارس ما يشبه ‘فشة الخلق’ ضد الرئيس السابق فرانسوا ميتيران وحزبه الإشتراكي، الذي انقلب في تلك الحقبة (دون أن يبرأ منها تماماً، في الواقع) إلى تذكرة صريحة بغيضة بأسوأ مآلات الإشتراكية الإصلاحية لأحزاب الأممية الثانية العتيقة (أو ‘الأممية الثانية والنصف’ حسب التعبير الشهير الذي صاغه فلاديمير إيليتش لينين). ليس هذا فقط، بل إن الفرنسي أنزل العقاب الصارم بسياسات ورجالات عقد كامل من الحكم ‘الإشتراكي’، ولكنه اختار صيغة مازوشية عجيبة سرعان ما ارتدت إلى نحره، فانقلب هو وفرنسا إلى ضحية أولى لذلك العقاب!
وبين أفضل الفزّاعات التي يستخدمها ساركوزي لإدامة الحال المازوشية، ثمة سلسلة المفاهيم التي تضخّم رهاب الفرنسيّ مثلما تدغدغ نزوعاته القوموية، وكلّ ما يتصل بالقلق حول الهوية (وفي عدادها، بالطبع، حكايات الحجاب والنقاب واللحم الحلال…)؛ وبالذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض (الضمان الاجتماعي، الاقتصاد العائلي، دفاتر التوفير، والتقاعد…)؛ ثمّ كلّ ما يتصل بالحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة، وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية على حدّ تعبير بيير بورديو. ومنذ أحداث عام 1968 (التي طوت صفحة الديغولية، ولم يكن غريباً أن يدعو ساركوزي إلى ‘تصفيتها’، دون حياء من المحتوى الجلف غير الديمقرطي لفكرة التصفية)، وفرنسا في حال من البحث المضني: عن هوية، فكرية وثقافية واجتماعية، تميّزها عن الحليف القريب، المانيا، والحليف البعيد، أمريكا.
أمّا المستعمرات السابقة، وهي ليست بالحليف في أيّ حال، فإنها شعوب شخّص ساركوزي مشكلتها الكبرى هكذا: ‘دراما الإنسان الأفريقي تكمن في أنه لم يدخل التاريخ يوماً’، كما قال في خطبة دكار الشهيرة، سنة 2007، بعد أشهر على انتخابه رئيساً لفرنسا، المستعمِرة السابقة، وسيّدة الفرنكفونية… سابقاً ولاحقاً. وفي علم النحو الفرنسي ثمة صيغة فعلية تُدعى ‘الزمن الماضي الناقص’، أتاحت لعدد من المفكرين أن ينقلوا الصيغة الفعل من فقه اللغة إلى فقه الحياة اليومية، فلم يجدوا صعوبة كبيرة في وصف الحاضر الفرنسي بأنه… زمن ماضٍ ناقص!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى