صفحات سورية

ضد الاستقطاب: الطريق الثالث في السياسة العربية

null

خالد الحروب

هي إذن «الحرب الباردة العربية» مرة ثانية نعيش رحاها هذه الأيام. طرفاها محور ما يُسمى «الاعتدال» ومحور ما يُسمى «التطرف» أو «الممانعة» (وكل هذه النعوت بين أقواس نظراً لخلافيتها وتبعية معناها لسياق الاستخدام والمُستخدم). وهناك بطبيعة الحال مصالح حقيقية ومخاوف حقيقية ورؤى وطموحات وأطماع تغلف الصورة التنافسية بين المحورين وهي جلية الوضوح ولا تستلزم تفصيلاً إضافياً، وربما مملاً، كما لا يجب أن تجلب تهويناً أو استسخافاً. وفي خلفية الصورة برمتها قوى إقليمية وخارجية ودول ومشاريع بعضها قيد التطبيق الراهن وبعضها الآخر برسمه، وهي كلها أيضاً مشاريع ثقيلة الوطأة وبالغة الأكلاف والخطورة. واستقطابات هذه «الحرب العربية الباردة» الجديدة شديدة إلى درجة حادة صارت تنعكس على معظم، إن لم نقل، كل مجالات الاجتماع السياسي والفكري والثقافي العربي. آثارها مدمرة تسمم حياة العرب المعاصرة وتشل عقلهم وحركتهم وتقيد أفق مستقبلهم القصير المدى عن التمدد والتفكير خارج قطبي «المعركة». وكأي استقطاب يحصل على أرضية هشة من التوافق على جملة الأساسيات يصبح فجأة كل شيء مهدداً: أشكال ومستقبلات وحدود الدول المنخرطة، الحكومات الهشة المتورطة فيها، وبناها المجتمعية التي ما أن تفيق من تطرف حتى يحضنها آخر، سواء كان تطرف الاستبداد والتبعيات أو تطرف الأيديولوجيا والمقاومات.

والسؤال المهم هنا، وهو في الواقع حاجة سياسية ملحة أكثر من كونه تساؤلاً، يكمن في البحث عن «الطريق الثالث» بين هذين الاستقطابين. وهو سؤال وبحث لا ينطلق من موقع إدانتهما معاً، لأنه ومرة أخرى هناك مصالح ومخاوف حقيقية لا ينبغي التهوين منها عند الطرفين، بل من منطلق مصلحي وبراغماتي يرى في وجود تداخلات واختلافات وثغرات ودوائر متقاطعة تناقضاً مع الصورة التي تريد أن تخلق حدوداً فولاذية بين الاستقطابين. وهو سؤال لا ينطلق أيضاً من معيارية أخلاقية تتغافل عن حقائق الصراعات، أو تتساذج بطلب تعزيز منطق «الأخوة» من دون معالجة الخلافات، بل هو سؤال جوهري ومعرفي ومتسيس نابع من حقيقة أن الاستقطاب العربي الراهن يتسم بحدة بالغة من جهة وبتوسيع الهوة بما يخلق، وحتى يفترض، بداهة وجود منطقة وسطى حتمية في الرأي السياسي والوجهة العامة.

وبشكل أقل تجريداً وأكثر مباشرة يتعين القول إن هناك رأياً عربياً، شعبياً ونخبوياً، غير منجرف بكليته لتأييد هذا المعسكر أو ذاك، بل يرى جوانب الصورة متداخلة ولا يمكن أن تُحشر في المنطق الاستقطابي. ربما ليس هناك مجال لمثل هذا الرأي أن يجد مساحة تتناسب مع وجوده لأن طبيعته غير مغرية ولا تستهوي الإعلام المحتقن الآن الباحث عن الإثارة ولغة الحرب والإقصاء. كما أن الأصوات النخبوية المعبرة عنه ربما تشعر بأن المعركة ليست معركتها، أو تشعر بأنها ستخسر في كل الأحوال إذ أن كل معسكر سيعتبرها حليفة خصومه. وهذه جوانب اعتلال لا خلاف فيه، لكنها لا تنفي وجود ذلك الرأي وضرورة تعزيزه. بل إن على المنطق الاستقطابي أن يسمح ببروز، ويشجع أيضاً، على بلورة «الرأي الثالث» لأن هذا الرأي وما قد ينتجه من أفكار، وما يطرحه من رؤى، وما يطلقه من تحفظات، وما يقترحه من مساومات هو الذي سيكون في نهاية المطاف المنطقة التي تنتج سياسة وتوافقات. دعاة الاستقطاب وأنصاره، خصوصاً في الجانب الإعلامي، لا يقدمون من حلول سوى إقصاء أو إنهاء الطرف الآخر. كلنا يعلم أن ذلك مستحيل، إذ لن تختفي مكونات معسكر «الاعتدال» ولن تختفي مكونات معسكر «الممانعة». فدرس التاريخ القريب في المنطقة يعلمنا أن هذه المكونات تظل في حركة سيولة مدهشة. فـ «ثوري» اليوم قد يصبح «معتدل» الغد، كما صار «معتدل» الأمس «ثوري» اليوم وهكذا. ولأننا ننسى كثيرا فلا بأس من متابعة المقاربة مع مرافقة متأملة لدرس الماضي القريب والطازج، وذلك كله برسم الإشارة إلى الضرورة الراهنة القصوى وهي عدم الانجرار إلى الاستقطاب وحرق كل السفن: عندها الكل سيخسر.

في مطلع سبعينات القرن الماضي نشر مالكوم كير كتابه الذي اشتهر لاحقاً وكان بعنوان «الحرب العربية الباردة: جمال عبدالناصر وخصومه 1958-1970». في ذلك الكتاب التقاط دقيق للحالة العربية السياسية في حقبة عبدالناصر وانقسامها التدميري بين معسكري «الثوريين» و «المحافظين». على ركام دمار ذلك الإنقسام صارت المنطقة العربية ساحة ساخنة من ساحات الحرب الباردة الكبرى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, وتعزز وجود إسرائيل وهزمت العرب مرة ثانية عام 1967، وتأخر العرب في كل المجالات: السياسة، الاقتصاد، الديموقراطية، الثقافة والفن. في ظل الشعارات الكبرى التي كان ينادي بها كل من المعسكرين، سواء الثورة والوحدة العربية ومقاومة الإمبريالية هنا، أو محاربة الشيوعية والتضامن والوحدة الإسلامية هناك، كانت المصلحة الحقيقية والواضحة لكل نظام مختزلة في المحافظة على البقاء مهما كان الثمن. على رغم ذلك الوعي والوضوح في كنه وجوهر المصلحة الملحة لكل نظام أو دولة أرادت الشعوب و «الجماهير» أن تصدق الشعارات الكبرى المطروحة وتقتنع بها. وعوض أن تتطور سياسة عقلانية تحاول جمع المصالح الحقيقية والشعاراتية معاً تحت الشمس وعلى الطاولة، استخدمت تلك الشعارات لتكريس «الحرب العربية الباردة» وتخندق العرب في صفين. ولئن كان انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات قد قاد إلى اختفاء الاستقطاب الدولي ونهاية الحرب الباردة، فإن معالم «الحرب العربية الباردة» كانت قد انتهت بعد حرب تشرين 1973 وما تلاها من إخراج للسوفيات من مصر ثم زيارة السادات لإسرائيل. بخروج مصر من معسكر «الثوريين» تبعثر الاستقطاب العربي، ثم جاء احتلال صدام حسين للكويت وحرب الخليج الأولى ليعمقا بعثرة حدود ومعالم التحالفات التقليدية العربية مع اصطفاف سورية مع السعودية ودول الخليج والولايات المتحدة في تلك الحرب. وهكذا وفي حقبة التسعينات التي تبعت حرب الخليج الأولى يمكن القول ان الاستقطابات العربية ما عادت تتسم بالحدة والتوتر المدمر الذي شهدته عقود الخمسينات والستينات. خلال كل تلك العقود وكما صار معروفاً في دراسات لا تُحصى كانت بوصلة السياسة العربية لكل دولة من الدول العربية هي المصلحة الوطنية (القطرية) لتلك الدولة. وتلك المصلحة، وكما هو ديدن السياسة في كل جغرافيا, كان لها أن تتوافق حيناً وأن تتعارض حيناً آخر مع مصالح الدول الأخرى. وبدل أن يتم الاعتراف بذلك التعارض على قاعدة المصالح والمساومات كانت الإحالة تتم دوماً إلى عالم الشعارات ويتم الاختباء وراءها.

في اللحظة الراهنة تعود «الحرب العربية الباردة» بثوب جديد قديم, وفي بيئة دولية صفتها الأساسية التفكير والممارسة الأميركية الانفرادية المتوترة والمدمرة بعد إرهاب 11 سبتمبر. جديد هذه «الحرب» هذه المرة أن «الامبريالية» التي كانت فتيل «المقاومة والتثوير» وتجسدت في إسرائيل والدعم الغربي لها تمددت وأصبحت موجودة كقوة احتلالية في العراق فضلاً عن استمرار دعمها لإسرائيل. وجديدها أيضاً أن معسكر «الثوريين» يتحالف مع الإسلاميين عكس ما كانت عليه الأمور في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي عندما كان «المحافظون» والإسلاميون يقفون في مربع واحد. كما أن جديدها أيضاً وأيضاً أن إيران التي كانت في خلفية صورة «المحافظين» في السابق وإن لم تكن طرفا فاعلاً معهم أصبحت الآن في مقدمة خصومهم تقود «تيار الممانعة». وهذه الأخيرة دولة ليست عادية بأي معيار من المعايير ولها طموحات إقليمية تخيف دول الجوار بشكل يتجاوز الخوف الذي كانت تثيره طموحات عبدالناصر الوحدوية أو القسرية في أوساط معسكر «المحافظين».

شكل الصورة وتفاصيلها الراهنة لا تحتاج إلى توصيف, لكن ما يحتاج إلى تأمل هو الطاقة السلبية الهائلة الناجمة عن الاستقطاب الراهن الذي تنتجه. وهي طاقة تعمل على تذرية وتعرية أي منطقة وسطى بين حدي الاستقطاب، وهو عملياً منطق ذو سمة «بوشية» (نسبة إلى بوش) يفترض ويفرض الصراخ الجبروتي: «معنا أو ضدنا». والخطورة الكبيرة أن تعرية المنطقة الوسطى تتجاوز وأد «الطريق الثالث» من ناحية سياسية، بل تتعداه لتقضي على «الرأي الثالث» الإعلامي أو «الفكرة الثالثة» الثقافية وهكذا. فمنطق الاستقطاب والحشد لا وقت لديه لـ «ترف» قبول ترفع «الرأي الثالث» عن الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك. بل وأحياناً لا يكون التأييد العام والإجمالي (غير المتحمس والاندفاعي) مقبولاً. رأينا ونرى هذا في نوعية الخطابات الإعلامية المتوترة والاستقطابية سواء المكتوبة أو المرئية. ولئن كان من حق أي كاتب أو صاحب خطاب أن يتجه الوجهة التي يراها سياسياً وأيديولوجياً وحماسياً أيضاً، فإن الوسيلة الإعلامية لا تتمتع بذلك الحق نفسه إلا إذا كانت ترفع راية الأدلجة واضحة بارزة على هوائيات بثها. لكن التردي الإعلامي الاستقطابي الذي نشهده في اللحظة العربية الراهنة يساهم في خلق مشهد بالغ السطحية والسذاجة يتمحور حول «الأسود والأبيض»: أسودهم وأبيضنا. ومشهد كهذا بطبيعة الحال لا ينتج فكراً ولا سجالاً ولا يرقي وعياً عقلانياً نحن في أمس الحاجة إليه. بل هو يكرس منطق الأدلجة ويعزز المساطر الجاهزة لقياس الآخرين وأفكارهم بحسبها وبالتالي تعليبهم في التصنيفات التأبيدية. عندما تتوسع مساحة «الطريق الثالث» غير المؤدلج في أي اجتماع سياسي، أي الرقعة الرمادية، تزداد فرص العقلانية في التحكم في السياسة. أما في أوقات الاستقطاب المؤدلج, حيث سيطرة الأسود والأبيض، فإن الغرائز هي التي تتسلم رايات السياسة وتسير بها وبمجتمعاتها نحو الكارثة.

أكاديمي أردني فلسطيني – جامعة كامبردج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى