صفحات سورية

في أخطار المظلومية السنية اللبنانية المستجدّة

null

دلال البزري

كان ما ينقصنا أن ينتكس اندماج سنّة لبنان في الكيانية اللبنانية، بعدما سبقهم اليها شيعته الذين نسوا الامامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين؛ ونسوا مقولة «لبنان وطن نهائي»، فتاهوا في غياهب القبضة الامنية والتعبوية الحديدية لحزب يهدّد بتفجير الوطن إن مُسّ سلاحه، وليس فقط بـ«قطع الايدي».

إنتكاسة لبنانية سنة لبنان وصعود مذهبيتهم هما نتيجة الفتنة التي سبقهم اليها «حزب الله» على ارض خصبة. يتلقّفها بلهفة المشتاق النظير السني لـ«حزب الله»: أي التطرف السني المسلّح فيذكيها بقوة وسرعة.

ينكر «حزب الله» التهمة طبعاً. يطلق حملة اعلامية رثّة، عنوانها «احتواء الآثار الجانبية» للعدوان على بيروت. شاشته قناة «المنار» تمرّر سبوت اعلامي عنوانه «تحية الى بيروت…» مصحوبة بموسيقى «تصالحية». وتعرض بضعة رجال جُمعوا على ما يبدو في مقهى، يدخنون النارجيلة، كأنهم في ايام عزّ وسلام، ويؤكدون، الواحد تلو الآخر، وباللهجة البيروتية المعروفة، انه «لا فرق بين سني وشيعي!»، «لا يوجد فتنة على الاطلاق!» و«نحن نحب الشيعة!» الخ.

إنكار الفتنة من باب إنكار المسؤولية عن اشعالها. وإنكار الفتنة بحجة ان الصراع سياسي فحسب، وكأن الفتنة ليست صراعا سياسياً… فهي من باب خدمة علمانية مجانية لسلاح طائفي مذهبي. اما إنكار الفتنة واطلاق عبارات التشفي والشماتة وسط اصحاب اللون الواحد، أو الترحيب والابتهاج بغزوة «تعانق الانجاز والانتصار»، أو إطلاق تصريحات من قبيل ان الغزوة هذه انما «أسقطت مؤامرة شبيهة بمؤامرة حرب تموز» ولكن في النهاية «تعطّلت هذه المؤامرة كما تعطلت مؤامرة حرب تموز» (السيد امين السيد)؛ او من قبيل ان هذه الغزوة صراع بين «مشروع اميركي» و«مشروع المقاومة»، او وصف احد قياديي «حزب الله» الغزوة بأنها «حرب صغيرة (…) نظيفة وخاطفة (…) عملية جراحية موضعية تمّت باللايزر وليس بشق البطن»… هذا كله من باب صلافة لا تستطيع ان تخفي شبهها بالنهج الاسرائيلي، ولا ان تخفي غرورها بـ «الإنتصار» الذي حققته على العاصمة وعدم استعدادها لبحث هذا الانتصار. واللافت ان الحزب لم يعطه صفة محددّدة: إلهي؟ إستراتيجي؟ تاريخي؟ «وعد صادق»؟

وبالتبعية طبعا فان الذين سقطوا في الاشتباكات الدامية التي رافقت غزوة الميليشيات بقيادة الحزب ليسوا بشهداء؛ ربما لم يرحلوا، ربما يكون رقم المئة قتيل غير صحيح… شهداء هذه المعركة هم وحدهم الذين تصدّوا لـ»المشروع الاميركي» بمحاولة صعودهم الى الجبل، فقضوا بتصدّي الاهالي لهم.

هذه ليست مسؤولية الحزب الوحيدة في إشعال الفتنة المذهبية: السنوات الطويلة من التعبئة العقيدية والخطاب، والانقلاب السوسيولوجي الذي كرّسه الحزب لدى شيعة لبنان بتحويلهم الى الاصولية والاساطير الخلاصية. ولسان حالهم رافع للمظلومية التاريخية والاقصاء التاريخي عن مغانم الحكم وامتيازاته، واللذين تحولا بقدرة قادر الى صراع سني شيعي. من كان شيوعيا، ينطق بالطغمة المالية وصراع الطبقات والاقطاع السياسي، تراه اليوم يسرد التاريخ المعاصر للبنان على قاعدة «نظامه السني» الذي حكمه، وحكم العرب اجمعين.

المسؤولية عن تلك الفتنة ينبغي مناقشتها بوضوح، وإلا كانت الاستعانة بالفولكلور لمعالجتها بما يتيح المجال لمزيد من تأجيجها.

الآن: السنة طائفة كبيرة في لبنان. ولكنها ليست صاحبة عصبية. ليس بسبب ملائكية ما. بل لمجموعة من المعطيات التاريخية والسوسيولوجية الطويلة. المهم ان الامتداد العربي هو بمثابة عصبية سنة لبنان. الناصرية احتلت هذه المكانة تاريخيا. ومع ذلك لم يكن لسنة لبنان امير حرب معروف قوي ودائم، مع ان امراءهم المتوسّطين او الصغار كانوا دائما ناصريين. رفيق الحريري اعطى لسنة لبنان تصوره عنه: تصور ينطوي على كيانية لبنانية، بالرغم من كل عيوبه. فحين يتراءى لهم ان هذه الصفة الجديدة لا تحميهم يعودون مرة جديدة الى امتدادهم العربي الذي ورث الناصرية: أي التطرف المذهبي السني المسلح. نداء الظواهري قبل ثلاثة اسابيع ضد الشيعة والصليبيين يملأ شيئا من هذا الفراغ. وكذلك استياء بن لادن بمناسبة الذكرى الستين للنكبة من توقف القتال في حرب تموز 2006، وعدم رضاه على نشر القوات «الصليبية» في الجنوب، وتعهّده مواصلة القتال ضد الدولة اليهودية حتى القضاء عليها

المحيط العربي الذي يستنبط منه سنة لبنان رافعات عصبيتهم يردّ على هذا «الاختراق الشيعي» بإيقاظ ضغائن ونبش احقاد التاريخ وثاراته. صرتَ تُسأل في شوارع القاهرة، لو عُلِم انك لبناني: «سني او شيعي؟». وتسمع اساطير عن هول الشيعة والكراهية للشيعة… والمدهش ان بعض الكتاب المحسوبين على الحكومة يكتبون بنفس هذه الروحية (وقد ينطقون بأفظع منها). ولم يعودوا يخفون رأيهم بنصر الله واصفينه بـ«عميل اسرائيل»؛ مثلهم مثل الشارع السلفي (بل هناك من يعتقد منهم بان حزب الله هو مذهب الشيعة، ولا يتخيلون على الاطلاق أن هناك شيعة ليسوا مع «حزب الله»). وعلى الوتيرة نفسها، بدأت تنقشع شيئا فشيئا الغيوم التي كانت تغطّي الاقلام والتوجهات الداعمة لإيران والمدافعة عن براءتها.

الاغراء كبير بأن ينضوي سنة لبنان في هذه الخانة. بعدما صعقتهم الهجمة وعدم الردّ عليها. وهناك من يذكّي هذا الاغراء إعتقادا منه بأن الرد على ايران يتم بهذه الطريقة. ضحالة المعتدلين العرب وانعدام الرؤية عندهم وخشيتهم الدائمة من تهمة العمالة لأميركا واسرائيل، والتعلق الشعبي الرومانسي بالمقاومة؛ كل هذه الاشياء قد تدفعهم غصباً عنهم الى هذا الخيار الديني المذهبي المتطرف. فعكس ما يروجه «الممانعون»، فان الارتباط بين هذه الانظمة واميركا ليس عضويا. الاميركيون يقولون: الارض للفلسطينيين مقابل الاصلاح الديموقراطي المعروف بانه لن يحصل. وقادة العرب «المعتدلون» يقولون بان الاصلاح السياسي لن يتم قبل الحصول على التسوية، مع علمهم المسبق بانها لن تحصل ايضاً. اي، نوع من انواع تعليق المصير: أو فراغ يشرّع النوافذ العالية للتطرف.

لا يجب الاستهانة بانتكاسة السنة اللبنانيين عن الكيانية اللبنانية. ولا بالمظلومية المستجدة عليهم. ولا احتمال ارتمائهم مجددا في بحر عربي كان ناصريا ذات يوم واصبح سلفياً. ليس من مصلحة الشيعة ولا السنة ولا المسيحيين ولا اي مواطن لبناني، ان تتحول المظلومية السنية المستجدة نحو الامتداد الوحيد الذي يتيحه لها العالم العربي الآن: المذهبية الدينية العنيفة.

فسنة لبنان مثلهم مثل شيعته ومسيحييه واقلياته الاخرى ليس لهم غير الدولة والمواطنة والقانون وايضا السلام. بهذا ينالون حقوقهم المشروعة. اما بغير ذلك، فلا حقوق ولا وطن ولا قانون. بل غابة في نفق مظلم سوف يعبر عقوداً من الاقتتال.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى