صفحات سورية

خاتمة في انتظار الفصل الجديد؟

null

نهلة الشهال

هذه المرة جُرِّم الصيف! فغمامته هي التي أمطرت كل تلك الدماء والخراب. وقد مرّت بسرعة ككل غمامات الصيف، وعدّنا أحبابا… بانتظار الجولة المقبلة. ترى هل تكون بعد انتخاب الرئيس الأميركي الجديد مباشرة، على فرض أن الفائز سيكون المرشح الجمهوري المقاتل ماكين، أم تنتظر الانتخابات النيابية اللبنانية العتيدة في ربيع 2009، وكيف تتدخل في قرار توقيت اندلاعها أحداث لا قِبل للبنانيين على تقديرها ناهيك عن التأثير فيها، مثل مسار المفاوضات السورية-الإسرائيلية التي أعلن رسمياً عن ابتدائها في تركيا، وكذلك اتجاه المعارك الدائرة في العراق وما تنبئ به من استقرار للفوضى، ومن صراعات دولية وإقليمية تحتمل الصدام كما التفاوض، بل تناوبهما

«غمامة صيف» حلت مكان «حروب الآخرين على أرضنا»، ولا بأس. فمع وجود المقدار نفسه من التكاذب، فهي على الأقل لا تعفي الذات من المسؤولية، وإن يكن لا يبدو انه في نية أي طرف تحملها، حيال نفسه بداية ثم وطنياً، أي مراجعة وتقييم سلوكه وحساباته، في الوجهة الإجمالية وفي التفاصيل. فكلٌ بما لديهم فرحون، وهي حالة دائمة تخترق تغير الأحوال والظروف. ولعل ذلك ما يجعل لبنان يزاوج، على هذا المقدار المدهش والذي يستعصي على الفهم بالنسبة لغير اللبنانيين، بين حداثة عامة ظاهرية – وفعلية في بعض المناحي – وبين الركون إلى الاستمرارية الأزلية لما يقال له بنية موروثة طائفية وعشائرية، راسخة في العقليات والمؤسسات. وهي بنية تقوم بتجديد نفسها باستمرار رغم فقدانها لوظيفتها الأصلية كناظم لتوزيع الأدوار في عملية إنتاج الثروة والسلطة، إنتاجها وليس مجرد تقاسمها. وقد أدى فقدانها أساسها الموضوعي ذاك (والذي كان يقوم على الدور الاستثنائي للبنان في المنطقة طوال الأربعينات والخمسينات والستينات) إلى انكشاف عجزها عن توفير الحد الأدنى من السلم الأهلي، وعيشها وسط تأزم دائم، دملاً محتقناً باستمرار. وبهذا المعنى، فلا مجال لمقارنة الزعماء اللبنانيين الحاليين بآبائهم الذين ابتدعوا فكرة التسوية الدينامية التي يمثلها «الميثاق الوطني»، وهو عبقرية مطابقة لحاجات لبنان وقتها ولقدرته على جني أعلى الفوائد من مميزاته. أما اليوم فتتم استعادة بائسة للعنوان ولملحقاته من قبيل صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، استعادة لفظية فارغة، فيما المطلوب ابتداع إطار يطابق المعطيات الجديدة للبنان والمنطقة، أو على الأقل إطلاق نقاش وطني عام حول ذلك، وعدم الاكتفاء بمقايضات البقالين التي طغت على محاورات الدوحة حول مقعد من هنا ومكسب من هناك… ولعله كان لا بد من ذلك لتقطيب الجرح، ولكن أن يلتئم ولو قليلاً فشيء آخر.

يبقى الزعماء اللبنانيون في مربع إدارة الأزمة فحسب، بلا طموح للوصول إلى سوية الهمّ الوطني. ولعل ذلك متعذر اليوم لأسباب عديدة، وإنما المطالبة هي تسجيل تلك الضرورة على جدول الأعمال، أي الاعتراف بها كضرورة والتواضع إزاء العجز عن حملها. كما تقع على عاتق المثقفين اللبنانيين، أكانوا وطنيين بلا نعت آخر، أو ديموقراطيين ويساريين، مهمة لا يتولونها بالتحاقهم المشين بالانقسام العامودي القائم أو بطوائفهم وزعاماتها، واستخدامهم الأدوات المفاهيمية الحديثة في تبرير سياسات هؤلاء: مهمة أن يؤدوا وظيفتهم في التفكير! أن يستبطنوا الأزمة ويعيشوها في جلودهم، بعكس التكيف معها، وأن «يؤمنوا» بداية بقدرتهم على إيجاد مخارج ممكنة منها، وأن يسعوا إلى ذلك بكل ما أوتوا به من ذكاء ومعرفة… وصدق!

الصدق؟ ها نحن على ارض القيم بل الأخلاق، تلك التي رأى ماكس فيبر أن سيادة منظومة منها قد كان في أساس نشوء الرأسمالية! إذ كيف ينعقد نقاش مع أصوات تعلن أنها تنتمي إلى الفكر الحداثي فيما تقوم بعملية تقافز مدهش بين المفاهيم يهدف إلى إنتاج خطاب تبريري موظف في الصراع الدائر كواحد من أدواته الرئيسية. والمثال الأبرز على ذلك هو القائل بأن هجمة حزب الله إنما هي انتقاص من «الشرعية» واعتداء على «الدولة». فيبدو الأمر كما لو أن تنظيماً همجياً قروسطياً ظلامياً (خرج من مكان مجهول زمنياً وجغرافياً)، ينقض على مؤسسات حديثة ويقوضها… بينما هم يعرفون حق المعرفة أن «الدولة» اللبنانية هي محصلة توافق بين نظائر ذلك التنظيم الذي يسعى إلى احتلال مكانه وسطها: انظروا إلى بيان العلاقات الدولية لحزب الله الذي يجيب في أولى نقاط خاتمته عن «هل يريد حزب الله تغيير نظام المحاصصة الطائفية»؟ بـ «فرية افتراها مفتر»!! فلنترك جانباً إشكالية رغبات حزب الله وتناقضاته، ولنعد إلى السادة الحريري والسنيورة وجعجع والجميل وجنبلاط الخ… وهم من يمثلون الأغلبية اليوم. أفليسوا من طينة المعارضة (بل من غير المفيد الدخول في مفاضلات تبقى كمية، ورغم ذلك ربما يتفوق فيها المعارضون من أمثال عون وحزب الله لأنهم يمثلون محصلة حراك اجتماعي ما، وتبدّل في طبيعة التمثيل الطائفي وتعقّد في مكوناته…). وهل هناك في آلية عمل «الدولة» اللبنانية في أي مجال، وفي المجال السياسي أولاً، مسافة ما من الاستقلالية عن المحصلة السلطوية للطائفية/السياسية؟ هل من الممكن لمثقف أن يمارس بكل طمأنينة قدراً مماثلاً من تفكيك المنهج الذي يعتمده ومن الانتقائية؟ استقال الوزراء «الشيعة» من الوزارة مطلع كانون الثاني (يناير) 2007، وكان ذلك إعلاناً بانفكاك التسوية التي جعلت قيام الوزارة ممكناً. هل يمكن لوزارة قامت على أساس التسوية الطائفية/السياسية أن تكتشف فجأة أنها، ورغم استقالة الجناح الآخر لتلك التسوية، إلا أنها تمتلك الأغلبية، وبالتالي، ووفق لوائح القانون في السويد أو انكلترا، فهي قادرة على الاستمرار! أليس ذلك استئثارا بالسلطة؟ حسناً، لو قال هؤلاء إن نموذج السادة الحريري والسنيورة وجعجع والجميل وجنبلاط… يعجبهم، أو أن توجهات هؤلاء وخياراتهم السياسية تلائمهم، لصح موقفهم تماماً وكانوا أحراراً باتخاذه. ولكن الاعتراض هو على التحوير الواعي للواقع: فإما تبنّي نظام الطائفية السياسية، ويصبح والحال تلك مقياس نزاهة دور المثقف هو مقدار سعيه إلى تنبيه جماعته إلى ضرورة احترام قواعد عمل ذلك النظام حتى يستمر في الدوران بأحسن ما يمكن، وليس تسهيل وتبرير خرقه لصالح غلبة احد أطرافه، أي الإخلال به وفتح نار جهنم على البلاد. وإما الاشمئزاز من نظام الطائفية السياسية، وعندها الخروج عن منطقه والوقوف في مكان آخر وليس على ارض ذلك النظام… فالأمر ليس في الإخراج اللفظي، ناهيك أن يصبح غرض الإخراج اللفظي ذاك توظيف الحجج المودرن لصالح احد أطراف المعركة!

ويشبه هذا مثال آخر: استخدام المجابهة التي جرت للقول أنه طالما أن دماء لبنانيين قد سفكت على يد سلاح المقاومة، تكون «قدسيته» قد نزعت عنه!! ها نحن في مجال ميتافيزيقي خالص، (وشكلاني وسطحي بصورة مفجعة)، يتجاهل أن لهذه الأزمة ظرفاً محدداً تنتمي إليه ولا تقارَب من خارجه أو بالقطع معه، وكذلك يمتلك سلاح حزب الله سياقاً وتاريخاً، وأنه علاوة على ذلك جزء من محصلة المشهد الإقليمي بصراعاته وتوازناته. ليس لتبرير وجود ذلك السلاح وبغض النظر عن ذلك، وليس للتقليل من شأن ما جرى وكيف جرى وخطورته، وإنما بالعكس لوضع المشكل-المعضلة في مكانها الصحيح، ليصبح التصدي لحلها واقعياً، وليس بالمهاترة و»الردح» الذي لا يوصل إلى شيء سوى إلى تخندق كل فريق في مواقعه، والتكرار المضجر للحجج بانتظار حلقة صدام دموي جديدة… إنها مسألة نزاهة فكرية قبل كل شيء.

الحياة – 25/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى