صفحات العالم

الاستفتاء على بناء المآذن في سويسرا: هل بوسعنا حماية مسلمي أوروبا ومسيحييها من حروب أهلية مقبلة؟

دلال البزري
الملصق الذي وُزّع في سويسرا عشية الاستفتاء على بناء المآذن مغرقٌ في معاني الريبة: في صدارته امرأة منقّبة. وهندامها مع ذلك لا يشبه أي هندام لمنقّبة تصادفها في العواصم العربية. القماش الثقيل المغْرق في السواد، واللفائف الثلاث حول عنقها ويديها المختفيتين خلف هذا القماش, كل ذلك يضخّم جسمها ويستحضر غموضا عريقا. فوق هذه اللفائف من الاسود تْتصب نظرة: نظرة لا ترى غيرها من فتحة متناهية الضيق، بالكاد تظهر حاجبيها. لا تعبر لا عن “تواضع” ولا عن “غواية” ولا في اعتزاز ما بهوية او تقاليد. نظرة باردة مصمّمة وقاسية. لا تتمنى، لو كنت مواطنا في بلد مسالم محايد، ان تلتقي بمثلها. خلف هذه المخلوقة الملغّزة بخطر دامس، ماذا نجد؟ على الارض، العلم السويسري الاحمر الذي يتوسّطه صليب باللون الابيض. وفوق هذا العلم مآذن سوداء أشبه بالصواريخ، موزّعة بحيث يبدو اثنان منها فوق أكتاف المنقّبة والثالث بالقرب من ذراعها الأيسر. ثم الـ”stop” بالحرف العريض الأسود والموضوع في أدنى البوستر. وفي أسفل “الستوب” هذا بقية من معناه: لا لبناء المآذن في سويسرا. ولا بد لك ان تلاحظ بأن حجم الخوف من الأسلمة العنيفة الذي يثيره البوستر لا يتناسب ورمزية المآذن المطاَلب بمنعها. لكن هكذا هو الخوف. يلد من المجهول الغامض والمرمّز، ويُغذّى بالتخويف الذي يضاهيه خطرا: خوف وتخويف يتناغمان… الى تنطلق آلة الحرب من اتونهما.
الملصق من انتاج حزب سويسري يميني متطرف يعزف على الخوف بالذات, ويبادر الى تنظيم استفتاء حول بناء المآذن. نتيجة 7،57% قالت “لا” للمآذن، فأطلقت، او جدّدت، سجالا اوروبيا اسلاميا لا يبدو ان سيكتب له السكون في المدى المنظور. خاصة انه يتزامن مع سجال آخر، يغذيه ويمده بالحجج؛ وهو السجال الفرنسي المنطلق منذ ايام حول الهوية الوطنية الفرنسية؛ وهو تتمة للوعد الانتخابي للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي منذ عامين بتأسيس وزارة إسمها “وزارة الهجرة والهوية الوطنية”. يومها كان صاغ الرئيس الفرنسي إشكالية تلك الهوية المبحوث عنها، اذ قال: “ليس في نيتي ترك اليمين المتطرف يحتكر الامة. اذا لم نفكر بمعاني قيم فرنسا، كيف تريدون ان يكون آخر الواصلين الى فرنسا قابلا للاندماج فيها؟”. ومعنى “الواصلين” لا يخطئه الظن: المهاجرون المغاربة والمسلمون الآخرون.
إذن أوروبا خائفة. والخوف خوفان: خوف الاوروبيين المسيحيين من الاوروبيين المسلمين… وخوف مسلميها من مسيحييها. الحق على برامج الاندماج الفاشلة؟ على عنصرية الاوروبيين المعهودة؟ على مجرّد الصورة السيئة التي يحملها المسيحيون الاوروبيون عن مواطينهم المسلمين؟ لم تعدْ هذه المسؤليات ذات بال. هناك شىء تغير في اوروبا، يتجاوز التسامح والخطط والصور المغلوطة.
إنهيار الكتلة السوفياتية، 11 سبتمبر وما تلاها وسبقها من ذيوع الاسلام المتطرف الشكلي التديّن، التسهيلات التي جاءت مع عولمة الاتصال, أي التقريب الافتراضي بين المتناثرين هنا وهناك في المعمورة، كلها عوامل وضعت المسلمين الأوروبيين في بيئة افتراضية لا تعرقل اندماجهم في وطنهم الجديد فحسب، بل تعطّلها، وتشكلهم على اساس كونهم فئة منفصلة عن محيطها الوطني الجديد: والذي يفترض ان تتشكل بداخله مواطنة في الجمهورية، مهما كانت عيوب ونواقص هذا المحيط. فالجهود الاندماجية حفلت بنقاط فراغ هائلة، كما في الكثير من خطط الاندماج في بقع اخرى من الارض… لم تجد ما يملأها غير الخزان الثقافي الديني المتطرف.
ووسائط هذا الخزان هي نفسها أدوات العولمة الملعونة مئة مرة في اليوم… التلفزيون والانترنت خصوصا. عقلية مسلمي اوروبا اليوم شكلتها هاتان المعجزتنان في التكنولوجيا. تبلغهم قيم المصدر الاسلامي العربي عن طريق اقنية اصبحت متخصصة في تطوير نمط من الهوية الاسلامية ذات الشكلية والعنف الفائضين؛ والشاشة هي آلة التسطيح بامتياز. فتكون بذلك كل المعارك التي يخوضها مسلمو أوروبا الجدد معارك رموز واشارات وشكليات. نقاب، ويسمونه “برقع”، حجاب، فيلم تسجيلي (هولندا) كاريكاتور (الدانمارك)… انهم يستمدون مقومات هويتهم الاسلامية الجديدة ايضا من عالم افتراضي، من شاشة صغيرة تضجّ بالشكليات والرموز، تغمرها الفتاوي والمواعظ والاستشارت… هم قريبون من العالم الافتراضي هذا، النابذ لمحيطهم المباشر والعازل عن اي تبادل، بما يشاهدونه يوميا من صور وشعارات وقيم مبثوثة هنا وهناك، تحضّهم كلها على الحفاظ على الهوية بأكثر الطرق إبتسارا وتشويهاً للمحيط المباشر الذي يعيشون، واقعيا، فيه. اما الأكثر حظا من بين المهاجرين، فيلجأ الى الشبكة الالكترونية، حيث الشيوخ و”الموالي” لا ينبضون. مجموعات لا تحصى تدين لهذا “المولى” او ذاك، بانه يفهمهم بلغتهم الاوروبية، او بالانكليزية المختصرة، ما يقوله القرآن الكريم. يكونون بذلك معبئين أشدّ التعبئات تنوعا من حيث الوسطاء واكثرها توحَداً في معاني الكراهية لأوروبا المسيحية؛ ليأتوا بعد ذلك الى المسجد في حالة من الغربة التامة عما حولهم، يطالبون بالأسلمة التي يفهمون، أو التي افهمتهم اياهم الشاشة أو المولى الالكتروني. المسلمون الاوروبيون قريبون، قربى انتقائية وافتراضية، مما هو بعيد عنهم واقعيا وعن معيوشهم. وهم في الآن عينه بعيدون بعداً إلغائيا عما هو قريب منهم: العمل، المدرسة، الشارع، الناس، البيئة الخ.
الأكثر تسامحا من بين المعلّقين الاوروبيين المسيحيين يحاولون تفهّم ظاهرة المهاجرين المتزايدي تشدّداً وعزلة؛ فيقولون بأن على أوروبا ان تعترف “بمشكلة التعايش بين ابناء ديانة عرفت الاصلاح، وبين ابناء ديانة لم تعرفه”. كلام كبير لن يكون بوسع مسلمي اوروبا الخوض فيه قبل وقف النزيف من الارض الأم، من المصدر، من العالم العربي خصوصا. وهذا العالم الكريم يصدَر الى مسلمي اوروبا ما يخرّب عليهم هويتهم الممكنة المقبلة، ويجرّهم الى مخاطر الهوية العدوانية العاجزة عن التثاقف، عن التفاعل الايجابي مع محيطهم والاغتناء بالمجتمع المختلف الذي اختاروه وطنا لهم، او قادتهم اليه حظوظهم .
قبل ان نستنكر ما يعبّر عنه الاوروبيون من خوف من مسلميهم، وقبل الكيل بالـ”عنصرية” التي لا نراها في انفسنا، وقبل حملة مضادة على عذابات هوية مسلمة تنتظر اللحظة السياسية “المناسبة” لتنفجر، علينا التوقف: مسيحيو الشرق يخْلونه، يخْلون ارض اجدادهم. من مصر ولبنان والعراق وفلسطين، النزف العربي المسيحي مستمر. بصمت تام، بلا حملات منهجية في الفضائيات، ولا تظاهرات ولا اعتصامات… كما يحصل في احداث مماثلة لمسلمين تتنازعهم داران: “دار الاسلام” و”دار الحرب”.
وجدل “المآذن” في مصر، من يريد ان يتذكره في هذه اللحظة؟ ليس جدلا بل ترهيباً تعرّض له وزير الاوقاف المصري عام 2004 بعدما اقترح قانونا لتوحيد الآذان؛ اثر الصخب المتوالي الذي تثيره المآذن الفوضوية في كل احياء القاهرة… أُجهض طبعا مشروع القانون وما زالت المآذن تتسبَب بضوضاء تراها تديناً. ومسألة النقاب على نفس المنوال. وزير التعليم العالي والبحث العلمي المصري الذي منع الجامعيات المنقّبات من دخول الامتحانات، منعاً للغش… هل استطاع ان يفرض قراره؟ هل قراره قابل للحياة بعد التظاهرات “التضامنية” مع المنقبات التي نظمها “الاخوان المسلمون” و”رابطة العمل الاسلامي”؟
نحن الذين نصدّر الى مسلمي أوروبا تديّنا شكليا انعزاليا وعدوانيا. بترك هكذا مفاهيم عن التدين تنبثّ في المتون. واما جلّ ما تفتقت عنه الاذهان “العاقلة”, أو “العقلانية”، تجاه هذه الظاهرة: هو “صورة الاسلام”: علينا ان نتحاور، علينا الذهاب الى اوروبا ونملي على أهلها محاضرات حول “سماحة” الاسلام… والمعزوفة هذه لم يملّ منها احد. ما زلنا نطرب لها منذ عملية 11 ايلول الارهابية.
ولكن قبل ديبلوماسية الحوار بين الاديان وانشائيات المحاضرات، وهو كله كلام في المجرد والمطلق، تعالوا الى قليل من الملموس والنسبي، ابدأوا بهما: تعالوا ونظّموا حملة من اجل وقف النزيف المسيحي العربي، او تظاهرة ضد عمليات الارهاب، او من اجل تطبيق مشروع وزير الاوقاف المصري لتوحيد آذان المساجد في القاهرة… تعالوا الى حيث يتحسّن المسلمون، فتتحسّن صورتهم. ولا تتحسّن صورة الاسلام الا بتحسّن صورة المسلمين. فنعفي بذلك مسلمي اوروبا ومسيحييها من حروب اهلية قادمة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى