صفحات ثقافية

عامودا

null
عامودا في ملفّ سما كرد – الجزء الأوّل
عامودا السبعينيات – الصورة مُقدّمَة من استديو الربيع في عامودا إلى موقع سما كرد .
حينَ نشر موقعُ – سما كرد – بادِرَة إعداد ملفٍّ عن مدينة عامودا , استقبلَ الموقعُ الكثيرَ من الموادّ المُساهِمة –  بمحبّةٍ –  للمشاركة , وقد ارتأى المحرّرُ ( هوزان أمين) أنْ ينشرَ الملفَّ على أجزاء , لكثرة الموادّ التي وصلتْ إلى الموقع , لكنّنا ننشرُ ما وصلنا بحسب أسبقية النتاج المُرسَل إلينا , ولم يشأْ مُعدّ الملفّ أنْ يكتبَ مقدِّمة ,ليقينه أنّ ما كتبَه مديرُ مؤسسة سما الأستاذ عارف رمضان مقدّمة شاملة تناولتْ أغلبَ جوانب هذه المدينة البعيدة عنه جغرافيا , القريبة منه روحيّا , و للعلم : إنّ أوّل مشاركة وصلتْ إلى الموقع كانتْ مقدّمة مدير المؤسسة , باسم أُسرة – سما – نرفعُ آيات التقدير والاحترام لكلّ مَنْ أرسلَ مشاركته المُحبّة والتقديريّة لهذه المدينة , ونتمنى لمتابعينا قراءة ممتعة للملفّ. مع ملاحظة : الملفُّ غنيٌّ بوجود الدكتور عبدالباسط سيدا بيننا , فشكراً له لأنه لبّى مشكورا دعوة سما كرد للكتابة عن مدينته – مدينتا : عامودا .
المعدّ : عبداللطيف الحسيني  .
alanabda9@gmail.com
****************
مقدّمة عارف رمضان : رئيس الجالية الكردية في الإمارات العربية .
مدير مؤسسة سما كرد – دبي

عامودا مدينة المدائن ,وساحرة القلوب والنفوس ,مدينة المساجد والكنائس ,تلك المدينة العجوز, وأم المصائب القابعة في أقصى شمال شرق سوريا على الحدود التركية , تلك المدينة التي لا يوجد فندقٌ  فيها , وذلك لحبّ أهلها للضيوف واستقبال عابري السبيل في بيوتهم  , وهي أم الشهداء منذ غزوات سفر برلك مرورا بالثورات ضد الفرنسيين التي قادها ابن عامودا البار( سعيد  أغا دقوري ) مرورا بمحرقة سينما عامودا التى فقدت فلذات أكبادها ما يقارب من مائتي طفل من تلامذة المدارس قضوا حرقا في ليلة واحدة دعما لثورة الجزائر, وفي حرب  حزيران دعما للقضية الفلسطينية , وثورة شيخ سعيد الذي لازال أحد رفاقه حيّا يُرزق في عامودا إلى بشمركة ثورة البارزاني و إلى معركة تشرين وصولا بتتالي شهداء آمد وجبال قنديل من الشهداء الكرد
فقدت عامودا منذ شبابها أمها (تلتها, تلة عامودا التي سُميتْ فيما بعد من قبل الأتراك ب( تل كمالية) إبان الحرب العالمية حيث انقسمتْ إلى شطرين بأيدي الغزاة  وانقسم معها الكثير من المدن والقرى التي كانتْ عامرة على طول سكة القطار:(قطار الشرق السريع )التي كانتْ تربط أوربا والموصل , تلك السكة المتأملة منها خدمة المنطقة وازدهارها ,وليس تجزئتها وتقطيع أوصالها ,وبذلك حرمتْ عامودا وإلى اليوم من نصف عائلاتها التي أضحتْ بينَ ليلة وضحاها غريبة , ولتتمتعَ بجنسيّة أخرى في القسم الشمالي ,ومنذ ذلك الحين باتَ مَنْ يقيم في الشمال  ب: (سرختي ), ومَنْ يقيم في الجنوب ب: (بن ختي) , كان ذلك مع نهاية الحقبة العثمانية والانفصال , حيث قطعت السبلُ بينها وبين ماردين التجارية , وتجار عامودا لم يعدْ يستطيعون التسوّق من ماردين لإعادة بيعها للمتسوقين من سكان القرى التي تقع جنوب عامودا وشرقها وغربها , ودخلتْ عامودا في حروب وغزوات مع الفرنسيين وفتنة الغزوات مع سكانها مع إخوانهم المسيحيين الذين لم يبخلوا في نهضة وإعمار المدينة وكان للسيد (سعيد إسحاق) الذي ترأس الجمهورية لفترة وجيزة , مساهماتٌ فاضلة حتى في بناء المساجد بعامودا
, وبعد أنْ طُرد  الفرنسيون من قبل أهل عامودا تمّ اختيار ما كان يُسمى بوادي قاميش ليكون المنطقة الإدارية لهم , وهكذا أصبحت قامشلو( القامشلي) المدينة الأكبر ولقربها مع نصيبين  في شمال السكة ضمن الحدود  التركية أخذتْ تأخذ الحيّز الأكبر والاهتمام الأجدر لتصبح مدينة اقتصادية هامة وعلى حساب وظروف عامودا فتأخذ هي الأخرى جميع المتبضعين والمتسوّقين من القرى الواقعة شرقي عامودا الذين باتوا يتجهون شرقا باتجاه( قامشلو) التي لا تبعد  إلا حوالي 25 كم عن عامودا نفسها ,
وغربا بات الناسُ يتجهون نحو الدرباسية تلك المدينة الصغيرة نسبيا لسبب أنّ الطريق الرئيسي من الغرب باتجاه عامودا تعبر بالقرب من سكة القطار التي أصبحتْ حدودا لتركيا التي كان حراسُ حدودها يفتحون النارَ على المارة
, أما جنوبا أصبحتْ مدينة الحسكة محافظة , وتمَّ فتحُ الطريق الإسفلتية بطول- 80 – كم ,وخسرتْ عامودا أيضا القرويين الجنوبيين الذين باتت الحسكة قبلتهم المفضلة لتواجد الدوائر الرسمية فيها , وبذلك تمّ تقليصُ وتقزيم شأن عامودا اقتصاديا و ثقافيا واجتماعيا وبانقطاع طريق( داري )وطريق (ماردين ) :المدينة التجارية الأقدم والأعرق  منذ أكثر من5الاف عام التي كانت أحد روافد  قوافل طريق الحرير أشهر الطرق التجارية العامة في التاريخ بقوافل تغدو أكثر من 500 جمل وناقة محملة ببضائع سفينة بأسرها , لكلّ قافلة تربط البحر المتوسط بالبحر الأسود شمالا وشرقا حتى الصين بلد الحرير فكانتْ عامودا  المحطة الصغيرة والآمنة لِمَنْ كانوا يعرجون إليها ليتزودوا بالمؤن حيث كانت خير نزل وخير مكان لتبادل الثقافات , فنتاجات وكتابات والترجمات والمعاجم الكوردية والعربية والتركية والفارسية وحتى الفرنسية  للشعراء والأدباء والعلماء أمثال جكرخوين وملا أحمد بالو والعلامة ملارشيد والكثيرين غيرهم خير دليل على ذلك  .
ومدرسة عامودا بل أكاديمية عامودا التي خرّجتْ  خيرة المدرسين والعلماء من جميع الاختصاصات (علوم الدين – النحو – المنطق ) تحت إشراف العالم الخالد ملا( عبيد الله  سيدا: السيدا الكبير) , وملاعبد اللطيف سيدا وأولاده وأحفاده , وملا محمد ملا رمضان وأولاده الملالي , وآل الحسيني 🙁 خاصة :الشيخ سليم والشيخ عفيف والشيخ توفيق  ) كلُّ هؤلاء تخرّجوا من نفس الأكاديمية بالرغم من انهم لم يدخلوا الجامعات لا زالوا يساهمون في دراسات معمقة لطلاب  الماجستير والدكتوراه لمواد اللغة العربية  والقانون والفلسفة والمنطق كل ذلك بجهودهم ,  دون آيّ دعم حكومي أودولي , وهذا خيرُ دليل على حبّ أهل عامودا للتعليم والثقافة ,وفي السبعينيات وحتى الثمانينات من القرن المنصرم حينما كنتُ  تلميذا ثم طالبا كانتْ مدارس عامودا تدرِّس دوامين “صباحي ومسائي” لكثرة طلبة العلم وعدم كفاية الفصول لاستعابهم , وها هم الآن منتشرون في بقاع العالم ’ مازالوا حتى اليوم يدرسون جميع المواد وحتى اللغة العربية لأولاد العرب هنا في الإمارات وباقي دول الخليج , ناهيك عن مدارس القرى والأقضية والمدن السورية , ونتاجات الأدباء والشعراء تعج مكتبات أوروبا وكندا واستراليا , وليس غريبا أن يزور أحد الأدباء السويديين سوريا ويأبى إلا أن يزور عامودا مولد ومصنع ومنبت هؤلاء العباقرة فيصل إلى المدينة ليتفاجَأ بصغرها  وهدوئها وبساطتها والبيوت الطينية الواطئة , ربما كان في مخيلته ناطحات السحاب من الأبنية العملاقة , فلا يكاد يصدق عينيه بأنه في مصنع الكم الكبير من العباقرة , والكثير من المجانين من أصحاب الحكم المعروفين الذين كانوا أيضا شبه عباقرة وحقا كما قيل:” إن بين العبقري والمجنون شعرة ” تلك الشعرة التي قطعتها المعاناة والحرمان والخوف من المستقبل المجهول , فغادر عامودا المثقفون ولم يبق فيها سوى القلة من المتمسّكين حبا وكرامة بترابها وبعض المجانين الذين أصابهم الجنونُ لأجلها .
وأنا مجنون حبك , ووفاء لك وتقديرا لترابك التي سيكون مثواي الأخير وعرفانا بجميلك أصبحتُ مجنونك المغترب  ياعامودة .

(1)
عامودة: مدينة الأنفة والمعرفة
د. عبدا لباسط سيدا
تتمتع مدينة عامودة – على الرغم من كل ما تتعرض له من إهمال مبرمج مقصود- بمكانة خاصة بين المدن الكردية الأخرى في الجزيرة، إن لم نقل بين كل المدن الكردية في سورية. وهي مشهورة مذكورة لدى المتابعين العارفين في سائر أجزاء كردستان، وفي جميع المهاجر الكردية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. فمن المعروف عن عامودة أنها مدينة الوعي القومي الكردي، ومدينة الثقافة والمثقفين بالمعنى الأوسع لهذين المصطلحين. فيها يتمازج الشعر مع الفن والفكر بميادينه المختلفة؛ ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعامودة هي مدينة الخبرة الزراعية والصناعية والتجارية ضمن الحدود التي تتيحها الإمكانيات المادية المقننة، والسياسات الحكومية الثأرية.
يتساءل الكثيرون في يومنا هذا – كما تساءل آخرون قبلهم- عن سر أو أسباب ظاهرة عامودة التي تظل وفق كل المقاييس مدينة فقيرة صغيرة، لا تحظى بأهمية سياحية أو جمالية طبيعية، فأبناؤها يحرصون حتى يومنا هذا على التوجه نحو عين ديور أو سركي كاني (رأس العين) حيث الماء والشجر بغية الاستمتاع  بما يفتقرون إليه في بيئتهم. كما أن الظروف المعيشية الصعبة المتفاعلة مع السياسة الحكومية قد أجبرت باستمرار أبناء عامودة على الرحيل والانتشار سواء في المدن السورية أم في المنافي القريبة منها والبعيدة، هذا على الرغم من تعلقهم الشديد بمدينتهم، وحبهم الاستثنائي لها، ومتابعتهم لأخبار أهلها وطرائفهم التي تنبع من معين لا ينضب.
ونحن هنا لا نزعم بأننا نتملك الجواب السحري لكل التساؤلات التي طُرحت- أو تطرح- بشأن عامودة، لكننا سنحاول – كما حاول غيرنا- تقديم التفسيرات التي نعتقد بأنها تلقي بعض الضوء على ما أسميناه بظاهرة عامودة.
يعود تاريخ عامودة الحديث بموجب التقديرات والمعطيات المتوفرة راهناً إلى أواسط القرن الثامن عشر، وذلك حينما توجه بركو – الصيغة الكردية لاسم بركات- من ﮒري عامودي (تل عامودة) -الذي يقع حاليا في الجانب التركي من الحدود التي قطعت أوصال الجزيرة في عشرينات القرن الماضي- ليبني أول بيت في عامودة الحالية بناء على تعليمات إسماعيل آغا الدقوري (الجد السادس لآل الدقوري زعماء عشيرة الدقوري – دقورا الذين ما زالوا يقيمون بصورة أساسية في عامودة) ، وذلك ليتمكن من إنشاء مزرعة للخضروات. ومع مرور الوقت تحرك أبناء عشيرة الدقورا الذين كانوا يسكنون على التل وحوله – المسافة بين التل وعامودة  الحالية هي في حدود ثلاثة كيلومترات-  نحو الموقع الجديد الذي استقطب لاحقاً السكان من المناطق المجاورة لتتحول عامودة فيما بعد إلى قرية كبيرة تمتلك طموحاً مدينياً.
كانت عامود تابعة – شانها في ذلك شأن المنطقة كلها-  للحكم العثماني الذي يبدو أنه لم يكن يتدخل في تفصيلات حياة الناس، ولم يكن يلزمهم بالتحدث بالتركية، وهذا جلي من خلو عامودة خلال المرحلة العثمانية الطويلة من أية قوة للشرطة أو العسكر.الأمر الذي فتح المجال أمام الآغا ليكون هو المسؤول التنفيذي الأول. يدير شؤون البلدة – إذا صح التعبير- يتابع تحركات الجيران، ينظم عمليات الدفاع عنها  لصد هجمات بدو الصحراء الذين كانوا يطمعون في خيرات السكان المستقرين في الميدانين الزراعي والحيواني.
ومع  ترسيم الحدود بين تركيا وفرنسا في عشرينات القرن الماضي، كانت عامودة البلدة الكردية الوحيدة التي ظلت في الجانب السوري في حين أن البلدات والمدن الأخرى (مثل جزيرة ونصيبين ودربا سية وسري كاني ورها وكلس) أصبحت في الجانب التركي، الأمر الذي أدى بسلطة الانتداب الفرنسية إلى البحث عن مراكز جديدة تعوض عن تلك التي باتت في عهدة تركيا. ومن هنا ظهرت عين ديور ومن ثم ديريك والقامشلي  والدرباسية السورية و سري كانيي (رأس العين) السورية، إلى جانب كوباني (عين العرب) وعفرين وغيرها من البلدات الكردية في المناطق الحدودية المحاذية لتركية. كانت عاموده في ذلك الحين مستقرة يشرف عليها الآغا كما أسلفنا إلى جانب إمام المسجد الذي كان يمثل السلطة القضائية. وقد ازدادت حجما نتيجة نزوح سكان المناطق المحيطة بها بفعل ظروف الحرب وتداعياتها. وما أضفى خصوصية  استثنائية على عامودة مقارنة بغيرها هو أن الآغا كان عليه أن يوائم بين مصلحة العشيرة ومتطلبات بوادر تكّون المجتمع المديني إذا صح التعبير؛ إذ أن عامودة في ذلك الحين كانت قد فارقت إطار القرية، لكنها لم تكن قد تحولت إلى مدينة بعد، وفي نطاق جهود الموائمة تلك كان على الآغا أن يمنح أبناء العشيرة والبلدة المزيد من الحريات خاصة في ميدان حيازة الأرض والمراعي؛ لم يتدخل بتفصيلات حياتهم اليومية، ولم يمارس الظلم والتعسف معهم، بل كان حريصاً على إشراك الحكماء في المشاورات والقرارات، واحترم آراءهم، وكل ذلك أدى إلى بروز ما يمكن تسميته بالاعتزاز العامودي  إذا جاز التعبير. وفي هذه المناخات كان من الطبيعي أن يعبر الناس عن آ رائهم بحرية وصدق، فتكون لديهم ما يمكن اعتباره صيغة من صيغ الذكاء الفطري التي تجسدت غالباً في الطرائف والأسلوب الساخر المعبر في الحديث الذي يتميز به أهل عامودة.
إلى جانب ما تقدّم  لابد لأي سعي جاد يبغي فهم الخلفية الكامنة وراء الظاهرة العامودية أن يأخذ بعين الاعتبار الدور الهام الذي أدته “الحجرة” في عامودة، والمقصود بهذه الأخيرة تلك الغرفة التي كانت قد خصصت لتعليم الطلبة علوم الفقه والشريعة، إلى جانب علوم النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفلك وغيرها من التي كان على الطالب (وكان يسمى فقه) أن يدرسها ليحصل في نهاية المطاف على الإجازة في العلوم الفقهية واللغوية، ويصبح ملا (لقب علمي لا وراثي) في مقدروه أن يحكم بين الناس ويوجههم في شؤون دينهم وحتى دنياهم. ونظام الحجرة هذا كان معروفا في مختلف أنحاء كردستان خلال المرحلة العثمانية، وذلك في ظل غياب الجامعات من جهة، ووجود حاجة ماسة إلى العلم ونزوع كبير نحوه من جهة ثانية. ويبدو أن كل حجرة من الحجرات المعنية كانت مشهورة بجانب من الجوانب المعرفية التي لابد أن يحصّلها الطالب في طريقه نحو نيل الإجازة. كما أن التواصل بين الحجرات كان قائما، وكانت الأخبار تنتقل من منطقة إلى أخرى بفعل تنقّل الطلاب بين مختلف الحجرات، وكل ذلك أدى إلى قيام نوع من التواصل بين المناطق الكردية المختلفة. وهذا فحواه أن الحجرة أدت باستمرار دوريا تنويرياً  وتثقيفياً في مجال نشر الوعي القومي والثقافي العام.
أما بالنسبة إلى حجرة عامودة موضوع البحث هنا، فقد تأسست في عام 1918 من قبل ملا عبيدالله جانكير قاسم الذي كان يلقب بـ  سيدا أو سيدايي مزن (الأستاذ الكبير) الذي كان قد نزح بفعل الحرب العالمية الأولى إلى قرية داري حيث كان يدّرس في حجرتها؛ ومن ثم اقترح عليه لفيف من سكان عامودة في مقدمتهم المرحوم حاج يوسف كرّو الانتقال إلى عامودة باعتبارها اكبر وأكثر حاجة، فوافق على الفكرة شرط افتتاح حجرة لتدريس الطلبة، وذلك انسجاماً مع توجهه الدائم الذي كان يكرره على مسامع زائريه قائلاً: إن كل فقه (أي طالب في الحجرة) يساوي أكثر من مائة صوفي (مريد تابع لأحد الشيوخ). وافق أهل عامودة على الموضوع وتكفلوا مسألة تأمين مستلزمات الطلبة من مأوى ومأكل وملبس. ومع مرور الوقت غدت حجرة عامودة قبلة الطلبة من مختلف أنحاء كردستان، درس فيها العديد من الذي غدوا لاحقاً رواد العمل القومي الكردي، كما برز الكثير من طلبتها في ميادين الفقه والشعر والأدب، ومن بين ابرز طلابها نذكر هنا: ملا إبراهيم صوفي عبدو، ملا عبدا للطيف إبراهيم (سيدا), ملا شيخموس  حساري (جكرخوين)، ملا عبدا لحليم ملا إسماعيل، ملا علي توبز، ملا شيخموس  قرقاتي، ملا سرّي…. وغيرهم…
كانت الحجرة نقطة تحول كبرى في حياة بلدة عامودة، ولا غرابة في ذلك فقد كانت بمثابة كلية جامعية تخرج الطلبة وتحافظ على أواصر التواصل مع الخريجين  ومع رواد الفكر القومي في ذلك الحين خاصة أعضاء خويبون، وباتت عامودة مع الوقت قبلة القوميين والمثقفين، واستمرت الحجرة تلك في نشاطها حتى بعد وفاة ملا عبيدا لله عام 1929، إذ تسلّم مهام مسؤولية التدريس فيها بعد وفاته شقيقه ملا فتح الله ثم ملا عبداللطيف إبراهيم (ولقب هو الآخر بسيدا)، وتوقفت عن العمل في أواخر ستينات القرن المنصرم. ونتيجة لمكانة عامودة الخاصة في ذلك الحين قررت خويبون افتتاح نادي للشباب الكرد في عامودة عام 1938 بإدارة المرحوم محمد على شيخموس (شويش) وقد أخذ هذا النادي على عاتقه مهمة تعليم الطلاب اللغة الكردية، ولأول مرة شاهد الناس في شوارع عامودة طلبة المدارس بزيهم الموحد، هؤلاء الذي كان يأخذون الدروس على المقاعد ويكتبون على اللوح الأسود وكل هذه الأمور كانت من الأمور الجديدة على عامودة وغيرها من المدن الكردية في الجزيرة.
وقد رسخت هذه التوجهات والأجواء قناعة لدى أهالي عامودة بأن طريق الخلاص بالنسبة لهم يتمثل في العلم والمعرفة بعد أن لمسوا النتائج وشعورا بالفارق الكبير بين الجاهل والمتعلم. لذلك كان العامودي يفكر دائما في تعليم الأولاد قبل أي شيء آخر. يبخل على نفسه، يقلل من اللقمة لكنه يحرص على تعليم ابنه أو ابنته، وكل ذلك أعطى نتائجه المرجوة على الرغم من المصائب والسياسات التمييزية التي اعتمدتها الحكومات السورية المتعقبة إزاء الكرد.
ومن بين المصائب التي تعرضت لها عامودة وما زالت تعاني من آثارها نشير هنا إلى حادثة سينما عامودة في 13-11-1960، تلك الحادثة التي لم تُعرف أسبابها بعد، وما زالت السلطات مصرّة على عدم إجراء أي تحقيق محايد شفاف حولها، ليصل الناس بعد مرور نصف قرن تقريبا على استشهاد أبنائهم إلى تفسير معقول يبّين لهم لماذا وقع ما وقع، و يُعد ذلك جزءاً يسيراً من حقهم الأدبي على  الأقل، هذا ناهيك عن الحقوقي. لقد فقدت مدينة عامود في تلك الحادثة الأليمة حوالي 300 طالب من أبنائها البررة وهم في ريعان الصبا، أعمار معظمهم كانت تتراوح مابين 7 إلى 15 ، كانت النتائج كارثية، وكان الوقع ايلامياً على الأمهات والآباء والأهل والجيران، حتى أنه بات مفصلاً يؤرخ به أهالي عامودة تاريخهم المعاصر: قبل السينما وبعد السينما.
لكن اليأس لم يشهد طريقه إلى إرادة الناس، بل دفعتهم المحنة نحو المزيد من التصميم، فكان الإقبال على المعرفة لافتاً، وكانت النتائج واعدة وعلى مختلف الصعد، هذا على الرغم من التقييدات والمضايقات الحكومية، التي أدركت خطورة دور المدرسة، فأصرت على تبعيثها، ووضعت العراقيل أمام الطلبة الكرد بغية منعهم من متابعة دراساتهم الجامعية، حرمتهم من البعثات الدراسية الداخلية منها أو الخارجية، أغلقت أبواب العمل أمام الخريجين، لكن كل ذلك لم يحد من عزيمة أبناء عامودة وإصرارهم على العلم والمعرفة، وإبداعهم الثقافي، وإخلاصهم في العمل القومي دفاعا عن حقوق شعبهم المغلوب على أمره؛ ومن هنا كان الانتقام الذي تتعرض له عامودة، خاصة بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004؛ فالمدينة تعيش راهناً وضعاً مأساويا شمولياً ، تبكي أبناءها المغادرين، تثير التعاطف من جانب الزائرين، لكنها مع كل هذا وذاك شامخة بكبريائها، عزيزة بتاريخها وحاضرها، تضمد جراحها انتظاراً لربيع آت.

(2)

الشيخ توفيق الحسيني .
شرمولا :
في البدءِ كانتْ رابية ( شرمولا) تشمخُ , وتشرئِبُ مُطلة على أكوام من بيوت طينية , ومجموعات منازل صغيرة متناثرة أحياناً , وفي أكثر الأحيان متلاصقة أو متقاربة , وكأنها تلتمسً الدفء , وتنشدُ الطمأنينة والأمان بهذا التقارب و التلاصق , شُيّدتْ جميعُها من اللبن الترابيّ , تغطيها السقوفُ الخشبيّة المتخذة من قامات الأشجار و سيقان نبات القمح تسترُها طبقة من الطين المجبول بالتبن ,نُفِذَ ذلك كله بأسلوب متقن ,ولكنه قريبٌ من البساطة والعفوية ,وكأنّ كلّ بيت يسعى إلى معانقة الآخر ,ويحاول ضمَّه إلى حضنه , وهكذا كان ساكنوها متآلفين يجمعهم الحبّ والوئام لا تفرقهم الأهواءُ والأثرة , وإنْ شجرَ نزاعٌ أو دبَّ بينهم شقاقٌ ,واختلفوا فإلى حين . في وسط هذه المجموعات المتآلفة من الدور المتعانقة , كانَ جدولٌ كبير ,أو نهر صغير ينسابُ هادئِاً .. رقراقا .. متألقاً في كلّ فصول السنة , بيدَ أنه كان إذا أقبلَ عليه الربيعُ و صهرت أشعة الشمس الدافئة الثلوجَ في جبل طوروس في الشمال خرج هذا النهرُ الصغير , أو هذا الجدول الكبير عن هدوئه و سجوّه و رقته , فغضبَ وصخبَ وهدرَ , متوعّداً المنازلَ المستكينة المستسلمة لضفتيه في اطمئنانٍ و سلامٍ ,وهي تحلمُ بشهور الصيف ,وموسمه الذي يدّخر بينَ طيّاته غلالاً كثيرة ,وخيراً وفيراً . نهر عامودا أو نهر الخنزير ينبعُ من سفوح جبال طوروس . وينحدر إلى السهول الجنوبيّة مرورا بعامودا , وانتهاءً إلى نهر الخابور الذي يصبًُّ في مياه الفرات . حيثُ تمتزجُ مياهُ لأنهار الثلاثة , ولا نعلم سببا لإطلاق هذا الاسم عليه سوى أننا نعلمُ أنّ خنزيرا بريّا بحجم الجاموس شُرّدَ بعد أنْ تاه عن قطيعه , و ضلّ طريقه ,وهامَ على وجهه حتى وصلَ إلى مشارف عامودا . واجتاحَ أحد البساتين و طفقَ يعيثُ فساداً في  المساكب , ولما شاهده الخوليّ ( البستاني) ظنّه ثورا متطفلاً يستهينُ بوجودهِ , فأسرعَ إليه , ولما دنا منه عاجله بضربة من مجرفة كانتْ بيده , فاهتاجَ الحيوانُ وثارتْ ثائرتُهُ , فاندفعَ إليه , وانقضّ عليه بأظلافهِ . وسدّد إليه طعناتٍ من نابيهِ القاتلتين , وأثخنَ فيه الجراحَ والكلومَ ,وخرَّ الرجلُ على الأرض مضرّجا بدمائهِ , وكان رجالٌ آخرون يراقبون المشهدَ , فهرعوا لنجدتهِ ,وهم يحسبون الخنزير عجلاً أو بقرة مهتاجة . ولما وقعتْ عين الخنزير عليهم كرّ عليهم ,وأمعنَ فيهم طعناً و تجريحاً , ثم تابع طريقه بهدوءٍ ,و سار إلى جانب النهر حتى وصلَ إلى مركز الشرطة في الجنوب فاصطادته البنادقُ ,وأردته قتيلاً ثم جُلبت جثته إلى مقربة من المخفر , فابتاعها رجلٌ يديرُ حانة صغيرةً في المنطفة الجنوبيّة بثمنٍ بخسً  .

(3)

جان دوست

ذكريات قائظة :عن عامودا،  كوباني وأمور أخرى .
ترتدي أمّي عباءَتها السوداء. تعقدُ صرتها الصغيرة
هل أخبركم ما الذي كان في الصرة؟ حسناَ
:حناء هندي أحضره أبي من سفرته الأخيرة إلى الديار المقدسة
أوصت عليه خالتي  و أكدتْ على أنْ يكونَ هندياَ.
صابون غار قالب عدد خمسة
كيس حمّام أسود
حجر خفان لفرك أخمصي القدمين
كيس حمام من نبات اليقطين
كحل عربي  مع مكحلة نحاسية
مشط عاج و دبابيس
و أخيراَ خوف مكتوم من فوات القطار.
القطار الطوماطريس الذي يربط كوباني بالجزيرة( أنهى الأتراكُ خدمات هذه الوسيلة الرائعة للربط بين مدن الشمال الكردي في سورية بعد انقلاب 12 أيلول في أنقرة).
تمسكُ أمّي بيدي ، مختالاَ بثوبي الجديد  و حذائي اللامع  أرقبُ والدي يتقدمنا بخمسين متراَ هي المسافة الفاصلة بين رجل وامرأته التي يحبّها.
عمامة والدي تلمعُ كقمة ثلجية في نهار مشمس. لا يلتفت وراءه لكنّ أمي تحثني على السرعة:
أسرع يا بني قبل أنْ ينفجر أبوك

و أبي بركان يمشي على قدمين.
كن عاقلاَ و لا تتشاجر هناك مع أبناء أخوالك و خالتك.
سأكون عاقلاَ يا أمي.
أعدها .
<<<
كلُّ صيف كان المشهد يتكرر. في عز الظهيرة. جدران البيوت في كوباني تتنفسُ جحيماَ. الشمس تتربع في منتصف القبة السماوية  تنفث قيظها و تبدو كأنها لا تنوي الغروب. بحلوق جافة , و أعين أمي المبللة بالدمع(لا أدري لَِمَ كانتْ تبكي  و نحن نذهب لنفرح و نلتقي بأخوالنا) و عمامة أبي ناصعة البياض كنا نتجه صوبَ المحطة التركية في غرب كوباني  بعد أن تنتهي سلسلة الدكاكين التي ما كان أبي ليسمح لنا أنا و أمي أن نمرَّ من أمامها.
>>>
نتفيأ ظلالَ شجرة كبيرة. ننتظرُ القطار. حلقي جاف . أنا ظمآن يا ناس.  أهمس لأمي بخوف: أريدُ (دوندرمة).
يلمحنا أبي نتهامس. تكفي نظرة منه لنفهم اقتراب ثورة البركان.
ماذا يريد؟
الولد عطشان؟
ليشرب الزقوم! لماذا لم يشربْ في البيت؟ ها !
أقول لأمي مصححاَ(هامسا مرة أخرى) لستُ عطشان. أريدُ( دوندرمة).
تحتارُ أمي بين رغبة فلذة كبدها , و سطوة أبي. تقول بتأفف:
ليتك لم تأتِ معنا.
ثم، و في مناورة ذكية تعدني بشراء قرن( دوندرمة) في عامودا إن صبرت.
أقبل ُبالمعاهدة. صبرُ ست ساعات مقابل قرن (دوندرمة).

>>>
منذ ذلك الوقت تشظت روحي. أصبحتُ نصفين. نصف ينتمي لكوباني  و أزقتها الموحلة في الشتاء و الخريف، و بساتينها العطرة في الربيع، و النصف الآخر ينتمي لقيظ عامودا و غبار ذلك الشهر الذي كنا نقضيه فيها كل صيف.
>>>
صعبٌ أنْ يضيع المرء في متاهة الانتماء. صعب أن تفقد البوصلة اتجاهها الصحيح. سهم يشير إلى عامودا و يعود ليدور نصف دورة  ليشير إلى كوباني.
أين شمالي؟
>>>
الآن يرقد والداي في مثواهما الأخير في مسجد آل سيدان في كوباني.
الآن أتعفن في رطوبة هذه الغربة
لا أمَّ تمسك بيدي
لا أبَ يتقدمني بخطواته
لا عامودا تلمح من خلال نوافذ القطار
و لا كوباني  تلوح مستلقية على سفح مشتنور.

(4)
علي جازو
عامودا قلبٌ موثوق إلى السماء
ذا شارعُ الجامع الكبير. على زواياه المنكمشة الصلدة العارية، يقف مراهقو البلدة العتيقة كحراس يوميين. نسمع نغمة من شارة غناء المسلسل التركي يحيى ولميس، ونبصق خفية: تباً!. مراهقون، ولا عمل يخطر ببالهم سوى مص مباسم السجائر المهربة، وسحب جرعات يأس ثقيلة. لا تسلية جميلة، سوى التلهي الخشن والعبث الدميم. مراهقون وطلبة جامعات خاصة بأكمام مرفوعة حتى المرافق: ( مع الفقر حل علينا وباءان: مسلسلات تركية. الوباء الثاني: جامعة خاصة تخرج منها طلبة بلا علم ولا عقل، سرعان ما يفكرون بالهرب إلى تركيا أو لبنان أو الإمارات أو أوروبا. ماذا لو طلع بوجههم هناك أيضاً مسلسل تركي مدبلج إلى الألمانية، مثلا ؟؟). ثمة وقت كاف للتدخين والتململ، فالضيق واسع مثل سماء يابسة فارغة. ثمة بين نظرات معتمة ألسنة لا شوقَ يتكلم داخلها، ثمة تراب حسرة لا عشب يخرج من بين مسامه. المراهقون الجدد، محاذين جداراً، كان فيما مضى جزءاً من دار طلاب مدرسة دينية، حيث علم كلام، ومتاهات عقيدة، سندفع لاحقاً ثمن جمودها، أو ربما أننا ندفعه الآن. في الطريق إلى الجامع الكبير، وعليه، يمضي مرابون برفقة مصلين، كذلك، فتيات المدارس – صحبة المدرسين والمدرسات. لا وقت للراحة بسبب ضغط مواعيد الدروس الخاصة. الفتيات متقلصات الخطو، وقد ضممن كتباً ودفاتر، نصفها أكاذيب لا أحد يلعن واضعيها ومروجيها، إلى صدور مكسورة الأجنحة، وخلفهن ركض أطفال من حليب الأسى، متعثرين صاخبين. هنا يشع جرح صامت كما لو كان فماً حجرياً، أو فراغاً أخضر أبكم، فراغاً مؤلفاً من انعكاسات وتموج ظلال أوراق شجرة توت ضخمة الأغصان، وهو الفراغ الطويل الأجرد نفسه الذي يتركه عصفور على سلك كهرباء نحيل مرتعش، عصفور، يا إله العصافير والقردة، عصفور للتو رفع جناحيه الصغيرين، تحت دفء انسكاب غيوم خريف جديد مقلقة. لا مدينة هنا، بل حلم قد يصير كابوس عزلة إذا ما ثبت المرء نظره على زاوية واحدة فقط. زاوية ترفع نحيبها السري، كنخب مر مع مجهول مسيطر لا مرئي، وحولها صغار يولدون من رحم الألم وضراوة الحصار، وشكاوى صبر الآباء والأمهات؛ كم أتلفت وحطمت طموح العقل ورغبات حب مكتومة. ثمة عبادة انتظار ثقيلة، ثمة طيش في كل رمش. حسناً، ما العمل؟ لا حديقة تحمل خطوات المتسكعين المتكاثرين، لا موسيقى تحضن صمت الشعراء والعاطلين عن كل عمل، لا مدرسة تليق بمدينة ثقافة ( هكذا يفترض)، ولا دار أيتام – نحتاج دار أيتام  أيها السادة الثقات الأتقياء لا دور عبادة – لا صراخ يعض وجه القبح، لا شعر يسمو بالضمائر والأذواق، لا كتب تتبادل بدل الشتائم والديون الثقيلة، إنما تلف أكيد يصمد ويدوم وينمو في وجه بناء لا يكون. أين هي المدينة، حيث لا عمل،ما لم تكن أرض خيال مسافر، لا نهاية أحلام راكدة. نهمٌ إلى الانتظار لا يخجل، وفقر يجوع ولا يبكي، وتحدٍّ في البقاء أخرق سقيم أليف، حتى إذا كان في البقاء نفسه ذلّ إقامة لا نجرؤ تبيانها. تخسر المدن عيونها إذا هي خسرت وحطمت قلوب ساكنيها، وما من قلب لهذه المدينة سوى ذكريات مضحكة، وسخف أوهام وسمات تميز زائفة. يرحل عنها محبون كثر، يضاف إليهم محبون أجانب ” أجانب حقيقيون”، عدا أجانب أهلها ومكتومي قيودها الجبانة، والجميع يصدق وجود مدينة محبوبة بهذا العمق. على هذه الحال هي، ويمكث فيها كارهون أكثر. فلينطحِ الكارهون،إذن، لهم الغلبة بسبب العدد ربما، رؤوسَ المحبين التي لا سبيل للنيل منها. نفرح من شعشعة أنوار ماردين في ليالي الصيف وبرد الشتاء الجاف، ماردين التي لا تفيق من غيبوبة موتانا. سماء بمتناول يد الموتى، لكن تحت الأقدام الحية ذعرٌ جلي. نفرح بعطايا ألمانيا الحبيبة، وقبرص الحبيبة، ولبنان الحبيب، والإمارات الحبيبة. لنا هناك مهاجرون وسياسيون وأخوة وطلبة، وعمال قرى مجهولون لم نر ولم نشفق على سيداتها وحيدات متروكات وهن يخفضن نظرات عاجزة في أماسي حنين صعبة. يجدر بعامودا أن تكون مدينة شعر، فنصيبها من العزلة والبطء والتعثر والخوف والقلق والفوضى كاف ليمزق الشعراء رئاتهم من التدخين وبلاهة مرور الأيام. حسنا يا أرض السينما المحروقة وأرض جكرخوين وسليم بركات، يا عامودا بافي محمد، يا أرض الأبدية التي لم تولد أبداً. حنانُك المأمول قاتلٌ، وقتلتك؛ ينبغي الترؤف بحالهم. ثمة غيوم على كل حال، ثمة بقرات جديدات. حسناً لتكن عامودا مدينة غيوم في السماء، ومرعى أبقار في الأرض. حنانك يا ” بقرات السماء “، حنان أظلافك وبريق عيونك الواسعة الدامعة. بوسع السماء أن تغيم متى ما تشاء، وليس لنا سوى انتظار لا ينتهي، فمن أوثق قلبه إلى السماء، لا يدَ تنال من قلبه. من يطمح إلى تطوير عامودا إنما يلغي عنها فرادتها القاسية، كأرض لا تريد أن تتبدل. ذا جزء من روحها الغامضة. هذا الأرض لا تريد شيئاً، لأنها ربما تريد كل شيء. إنها تحلم فقط، فاتركوها بسلام داخل أحلامها. عامودا رحم لسيدة شابة لا مرئية. وبوسع هذا الرحم الضئيل المنكمش أن ينجب مجرمين مهرة ويستقبل مجرمين أكثر مهارة، بالقدر نفسه الذي تنجب فيه ولهاً بالمستحيل لا ينضب. أن تكون عامودا داخل استحالة كونها مدينة. أن تظل تتأرجح بين ريف محروق النمو ومدينة لا تصير، فذا من طبيعة لا تعرف الاستقرار، وهذا أفضل لها من مدن أخرى استقرت وهمدت وتعفنت. لتبق في الـتأرجح نجمة لا تسقط، ولا يكتمل إشعاعها الغريق. بذلك تصلح عامودا أن تكون مدينة غناء، مدينة جرح منسي، مدينة أشبه بجسر، بعتبة ترق وتصفو و تقسو وتترمل، ثم تعود تتزوج وتنجب، غادية رائحة لا تمل، بين بياض وبراءة حلم لا يتحقق، وأثقال كابوس لا يدوم. حسناً، رغم كل شيء، كل شيء، لنفرح . القيامة تنهض من سريرها، وثمة من يعزف على لحن نهوضها كما لو كانت زهرة حياته، كما لو كانت جرعةَ سمٍّ، عسلَ شمسٍ، لا سبيل لدرئها.  ليس من السهل معرفة دواخل الإنسان. لكن، إذا نظرنا إلى الرصيف، دار التعليم ، مبنى ما، أو واجهة محل، أو عرض شارع، أو عتبة منزل، لأمكننا توقع صفات البشر الذين يمضون ويدخلون منازلهم، كما لو أنهم بلا شوارع ولا أرصفة ولا منازل. عامودا تقيم في السماء بصحبة جمال ضوء خالد، ومدى نهار لا ينتهي.

********************************
يليه الجزء الثاني في الأيّام القادمة  .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى