صفحات ثقافية

كتاب الأسرار لسلوى النعيمي: بين المهارة الفنية والمرارة الأنثوية

null
مها حسن
بعد الانتشار الذي حققته روايتها الأولى “برهان العسل”، تعيد سلوى النعيمي طباعة مجموعتها القصصية “كتاب الأسرار” الصادرة عن دار الريس لعام 2010، كما لو أنها تؤكد بأنها ليست ” طفرة” إبداعية، استفادت من جرأة موضوعها، وانتهى بها الأمر في ” برهان العسل”.
فهي الشاعرة أولا، والقاصّة تاليا، والروائية في تجربة برهان العسل.
أول ما يلفت النظر في هذه المجموعة هو اللغة. اللغة بدقة عباراتها، باختزالها المدهش للّغة، بجملها المبتسرة.
ففي قصة “البطن”، والتي كان يمكن لكاتبة غيرها أن تدعوها بـ إجهاض، أو دم، أو شرف… اختارت النعيمي لفظة لا تمتّ كثيرا بصلة فكرية أو عقائدية لموضوع المرأة. فتميزت قصتها بلغة راقية بعيدة عن الصراخ والشعارات، ولهجة ساخرة بمرارة من قضايا الشرف.
في مقارنة سريعة بين بطلة القصة، التي تحاول أسرتها إجهاضها، وبين فتاة قروية ذبحها أهلها، في جريمة تُنسب للنساء في الحالتين، حيث تبدأ البطلة هنا بتحقيق الحلم التقليدي معكوسا، كما تقول عن مشروع السنوات الخمس الذي تعيشه أختها “أن تتزوج وأن تنجب أطفالا”. تبدأ هي بالنهايات، الحمل، دون زواج. تسخّر النعيمي، مما حولها، من مفاهيم الشرف والقتل دون مبرر، مُدينةً المجتمع كله، بلغة مختزلة،لا نسمع “طرطشات “صراخها وعويلها، لغة هادئة، أنيقة، مبتسرة.
في قصة “الملائكة”، تتهكم النعيمي، بلغة أنيقة، في تناولها الزواج، مستشهدة بطرفة كان يرويها والدها، كاستشهادها في برهان العسل بأقاويل أمها ” أو أم البطلة “، حيث يروي الأب حكاية الرجل الذي أراد أن يستفتي الشيخ خائفا من فساد صيامه بعد أن قبّل امرأته في يوم رمضاني. سأله الشيخ: كم مضى على زواجك؟ عشرون عاما، أجاب الرجل. لا تخف. كأنك قبّلت مؤخرتي. رد الشيخ.
في “بين عشرة جدران” تعلو نبرة التهكم الزوجية، حول التنازلات التي يقدمها الأزواج، إلى أن تصبح هذه التنازلات قانون العلاقة الزوجية. “النضج ليس الهزيمة فقط. إنه التسليم بها “. صفحة 63
في “القيلولة” تتابع الكاتبة تهكمها على أصحاب الشعارات العريضة التي تحملها الشخصيات الكبيرة وتتداولها في المؤتمرات والأماكن الخاصة بعرض الأفكار الفخمة… تتهكم متلذذة بكشفها لكل ما يجري خلف الكواليس. كطفلة خبيثة، ترى كل شيء، تشارك في اللعبة ببراءة خالصة، متظاهرة بأنها لا تعرف ما يحصل… مواقف عالية الكشف، دون صراخ… كما لو أن لديها كاميرا تسجل وتتلصص وتضحك… إنها تلعب. تلعب دون أن تستفز أو ترفع شعارات مللنا من تكرارها، وسئمنا من تناقض أصحابها مع أنفسهم، ومع ما يطلقونه من صيحات.
تكاد تكون تيمة النعيمي هي ذاتها التي راودتها في برهان العسل. نشعر أننا أمام المرأة ذاتها، تمردها وسخريتها في الوقت ذاته،سأمها من الشعارات الكبيرة، وتمردها عبر التهكم، بل وعبر التحدي باللامبالاة، كما لو أن كل ما يغيظها ليس موجودا. يأتي ردها، بمزيد من الانفتاح ضد أي رقيب، ففي قصة “زجاج”، يأتي رد البطلة على الكاميرات والميكروفونات،التي ترافقها حتى في حمامها، عبر الوقوف في قبلة طويلة، مشعلة كل الأضواء، ليتسنى للكاميرات التقاط عناقها وقبلاتها،كاشفة كل أنواع الفضائح التي يبحث عنها الرقيب ويتلصص عليها.
طفلة نزقة، صبية سئمة… نشعر بها، تخرج من البيت سرا، وتعود أمام والدها لتثبت له عجزه عن تغيير نسق حياتها، ولتسخر من كل سلطاته. هكذا تبدو النعيمي في جميع قصص المجموعة.
ثمة مهارة في القصّ، وثمة مرارة.
أما المرارة، فنتلمسها في الغربة الوجودية المتاخمة للبطلة، أزمة اللاانتماء، حيث أن مجموعة القصص، تحمل صوت وهاجس البطلة ذاتها، البطلة المتنقّلة من قصة لأخرى، البطلة المرأة، التي لا نعرف لا اسمها، ولا أسماء الشخوص المرافقين لها، بل نتعرف فقط على مواقعهم في حياتها، ودرجات ارتباطها القسري بهم: أختها،أخوها، أبوها، أمها، زوجها، زملاؤها في العمل… أما المكان فيختلف بين باريس ودمشق، ليشي ببعض التفاصيل الشخصية للكاتبة ذاتها، التي تعمل في مكتب، وتتحدث مع زملائها، وتسافر لتحضر المؤتمرات…
البطلة هي دوما تلك المرأة، التي تدفع ثمن تجاربها وحدها. وحيدة هي، رغم العائلة، لا تشبه أحداً، ولا تنتمي لأحد، ولا حتى للحبيب الذي إما حملت منه وغاب، أو تزوجته حتى الضجر… الصبية التي يصعب ترويضها ” كنتِ تعلمين أني لن أُروّض”. صفحة 75
هنا تكمن المرارة، الرغبة في الانتماء، وصعوبة تجسيد الإنتماء أو تحقيقه. في قصة “كنتُ أشبهك”، تفقد البطلة المتمردة كتمانها، وتعترف، كاشفة عن ضعفها الكامن خلف قسوتها وجبروتها:
” لم أبحث يوما عن غفرانك. بحثت عن حبك”. صفحة 84
” كنتُ صغيرة وكنتُ أودّ أن أشبهك”. صفحة 86
في قصة “أحابيل”، نكاد نلمس قمة الهمّ الوجودي للبطلة، حيث تجد نفسها في عائلة كبيرة العدد، فتتعلم الدفاع عن نفسها بالضحك والتعليقات السليطة بكلماتها المبتورة، بل وبالصمم والعمى: “ها أنذا أكتب وراء مكتبي صماء عمياء لا أسمع ولا أرى في غرفة تعج بالضحكات والوجوه والحكايات كما كنت أكتب وظائفي صغيرة صماء عمياء لا أسمع ولا أرى في غرفة تعج. ” صفحة 92. تحايل على العالم والواقع، عبر المخيلة، وعبر الكتابة، التي هي الملاذ الأخير، إذ لحسن الحظ أن هناك الكتابة.
” لحسن الحظ أن هناك الكتابة”. صفحة 89، صفحة 90، صفحة 93، وتنتهي المجموعة بالعبارة ذاتها: لحس الحظ أن هناك الكتابة ” ثم: تتفتح في الكلمات بحذر كابتسامة مترددة..
ماذا فعلت في حياتي؟
حصلت على ما أريد أم أردت ما حصلت عليه؟
درستُ، عملتُ، أحببتُ، تزوجتُ؟
حتى جدتي فعلتها أو كان يُمكن لها أن.
أسافرُ، أضحكُ، ألعب لعبة الغواية؟
طز.
ماذا يبقى؟
هل أريد أن؟
وهنا يأتي الدور للتحدث عن المهارة اللغوية، حيث تمارسها النعيمي في ذلك الابتسار، في الجملة التي لا تنتهي، حيث تترك سلوى القارئ يكمل الجملة ببداهة، إما لضجرها من الكلمات الواضحة، أو ثقة بذكاء القارئ واحتراما لذلك الذكاء. كما في الجمل الواردة أعلاه: ” حتى جدتي فعلتها أو كان يُمكن لها أن. “، أو ” هل أريد أن؟”، أو ” لا أسمع ولا أرى في غرفة تعج.. “.
في قصة “أحابيل”: قال يوما ” لا تبدأ جملتك إلا لتنتهي. تبترينها بضحكة. هل ستقولين يوما جملة مفيدة؟”. صفحة 90
من مهاراتها وابتكاراتها في هذه المجموعة، إسقاطها للفاصلة في الجملة. كأن اللغة لا ترابط بينها عبر الفواصل، جملها تنقطع بنقطة، ثم تبدأ بعد النقطة. نكاد نعثر على بعض الفواصل، التي يمكن تعدادها وحصرها بسهولة، بينما تحل النقاط، حاسمة، محل الفاصلة، لتبتر العلاقة النفسية بين الجملة وتاليتها.
ثمة تكرار لبعض الجمل والعبارات، كلازمة شعرية، كما ورد من قبل، في استخدامها لجملة ” لحسن الحظ أن هناك الكتابة”، لأربع مرات، مع إضافة مختلفة، لجملة بين قوسين، بعد كل مرة تستخدم بها تلك الجملة… نعم، تتكرر الأحداث، ولكنها ليست واحدة. ربما هذا ما تريد أن تقوله الكاتبة.
ربما أتتها تلك المهارة من الشعر، حيث لا يغتفر الشعر زج ّالكلمات في النص. رغم أن اللغة النثرية تحتمل هذا، إلا أن سلوى تجهز على جملها قصا وتنضيدا، مغرمة بأناقة العبارة. كما لو أنها فعلا جاءت بذلك الابتسار والوضوح من الشعر إلى القصة، فقادتها القصة إلى الرواية، حيث قادها المضمون والهاجس اللغوي، والموضوعي هنا، الذي لم يحتمله الشعر، إلى الرواية، وهاهي تعود من الرواية، إلى القصة.
كما لو أنها لا تزال تلك الطالبة على مقاعد المدرسة، تمسك بالقلم، تكتب العبارة وتتأملها، تمحوها، تعيدها… تشتغل عليها، إلى أن يروق لها شكلها، فتثبّتها بألوان وتسطّر تحتها، كما نجد في دفاتر البنات غالبا.
بأنوثة مبالغة بالاعتناء بالعالم، وبأمومة حانية، تتعامل النعيمي مع لغتها، ولكن كامرأة ذكية وماكرة أيضا، تتعامل بسخرية لاذعة من المجتمع، منتقدة حماقاته وغباء قوانينه، دون أن تدخل في فخ الرقابة. وإن جاءت بمقدمة تشرح باقتضاب سبب إعادة طباعة مجموعتها القصصية، والذي يمكن تلخيصه في التخلص من شر الرقابة: ” أسوأ شرور الرقابة، هي أنها تسكننا وتصير جزءا من كينونتنا”، حيث تحاول النعيمي مقاومة ذلك الشر،عبر بوحها بهذه الأسرار التي نعثر عليها في ” كتاب الأسرار”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى