صفحات ثقافية

اللوحات التشكيلية العربية تتسابق إلى العالمية؟!

null
دمشق: سعاد جروس
أحداث 11 سبتمبر أخرجت الفن من قوقعته
عندما يبرر شاعر مثل أدونيس دخوله ميدان الفن التشكيلي عبر لوحات كولاج بالقول «تشتغل على ديوان شعر سنة، وأحيانا ثلاث سنوات، وتشتغل على كولاج ساعة ونصف فيكون مردوده عشرات أضعاف مردود ديوان الشعر». هذا يعني أن ثمة تحولا كبيرا تشهده الساحة التشكيلية العربية. فحتى وقت قريب كان الفنانون التشكيليون العرب يعيشون حالة مادية لا يحسدون عليها، وقلة منهم كان بإمكانهم العيش من مردود أعمالهم. لكن يبدو أن الواقع يسجل تحولات مفاجئة، ولم تعد لوحة أي فنان تنتظر موت صاحبها وذيوع صيته حتى تباع بأسعار لم يكن يحلم بها. ما الذي يجري في سوق التشكيل العربية؟.. هنا تحقيق يتابع ظاهرة جديرة بالاهتمام.
الحديث الدائر في أي تجمع للتشكيليين والمهتمين بالفن، لا بد أن يتطرق إلى ما تشهده سوق اللوحات من فورة، في الأعوام القليلة الماضية. فالأسعار التي وصلتها لوحات بعض الفنانين الشباب تبدو خرافية. حديث لا يخلو من تشكيك في ظاهرة لا تزال خلفياتها غامضة. فحتى أواسط الثمانينات كانت وزارة الثقافة السورية المقتني الأول، إن لم يكن الوحيد، للأعمال الفنية السورية. حينها وضعت الوزارة ضمن سياستها رعاية الفنانين وتشجيعهم على الاستمرار، من خلال تخصيص ميزانية لاقتناء أعمالهم، ووصلت هذه الموازنة إلى 16 مليون ليرة سورية، (170 ألف دولار) في التسعينات. وهو رقم مرتفع جدا في حسابات تلك الفترة، التي كان فيها التشكيل السوري محض نشاط نخبوي خارج السوق.
مع ظهور «صالة الفن الحديث» الخاصة لصاحبها محمد دعدوش، بدأ مفهوم السوق يتسلل إلى عالم الفن التشكيلي السوري، تلاه ظهور عدة صالات خاصة بداية التسعينات، أبرزها (السيد، الأتاسي، شورى.. إلخ)، لعبت أدورا مهمة في التعريف بالفنانين السوريين وفي التأسيس لسوق الفن. اعتمدت هذه الصالات التي امتلكتها سيدات المجتمع الراقي على علاقاتهن الشخصية، إذ كان معظم مقتني اللوحات من السفراء والمغتربين، وقلة من رجال الأعمال والمسؤولين الذين كانوا يدفعون بحياء ثمن الأعمال «الباهظ» بمعايير تلك الفترة. إذ لم تكن مألوفة بعد في بلد يتبع النهج الاشتراكي تلك المظاهر البرجوازية. وقد يكون هذا سببا أيضا في مداراة الصالات الخاصة لغاياتها التجارية وتغطيتها بلعب دور ثقافي يروج للفن في مسايرة للمنطق السائد حينذاك بأن الثقافة على الضد من التجارة. فحتى النسبة التي لم يتجاوز رقمها الوسطي 30 – 35% من ثمن العمل المباع، هناك من كان يعتبرها استغلالا لجهود المبدع. وكثيرا ما دافعت تلك الصالات عن نفسها بأنها تتكفل بتكاليف الصالة والدعاية الإعلام، وحفل الافتتاح الذي لا بد أن يكون حدثا اجتماعيا مهما تؤمه النخبة.
الصالات الخاصة التي ظهرت من أواسط الثمانينات مرورا بأواسط التسعينات وحتى 2006، بلغت نحو ثلاثين صالة، أسهمت في خلق أجواء تنافسية، وصارت لكل منها مجموعة من الفنانين يتعاملون معها، ضمن التزام أدبي، وفي إطار علاقات الصداقة والاحترام، مع ما يكتنف تلك العلاقات من مشاكل، في حال بالغت الصالة في تحصيل نسبتها من الفنان، أو في حال قام الفنان بالاتفاق مع المقتنين لبيع لوحاته خارج المعرض.
بداية الألفية الثالثة، لدى إعلان سورية التوجه نحو سياسة الانفتاح الاقتصادي بمعنى التخلي التدريجي عن النظام الاشتراكي، ومبدأ أمومة الدولة، طفت على السطح طبقة من الأثرياء فرضت نفسها، من خلال استثماراتها في شتى المجالات بما فيها الفن. البداية المبكرة كانت في الإنتاج الدرامي، بينما تأخر الوقت حتى عام 2006 ليبدأ الاستثمار في الفن التشكيلي لدى عودة رجل الأعمال المصرفي السوري خالد سماوي من سويسرا، وافتتاحه صالة «أيام» التي سجلت قفزة كبيرة خلخلت المشهد الهادئ، مثيرة عاصفة من الدهشة والاستفهام، إذ طبقت التقاليد التجارية في سوق الفنون الغربية، ليتبعها ظهور عدد من الصالات الحديثة «الآرت هاوس»، «تجليات»، «دار كلمات»، «رفيا» في بلد ما زال يتحشرج بسياسته الاقتصادية الجديدة، مع اتساع طبقة الفقراء وتآكل الطبقة الوسطى وتشكل طبقة صغيرة فاحشة الثراء، فكان ظهور تلك الصالات انعكاسا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية. وصارت هناك ثلاث طبقات من الصالات، فقيرة تكافح من أجل البقاء وهي صالات العرض العامة، صالات متوسطة الحال وهي الخاصة التي ظهرت في التسعينات، وصالات غنية تستثمر في الفن والتسويق العالميين. كل هذا ما كان ليحدث لولا الانفتاح الاقتصادي وتطلع شركات عالمية مثل «كريستيز» و«سوزابيز» ذات الجنسيات المختلفة إلى فنون الشرق الأوسط. وهو ما بدأ عمليا بعد المعرض الفني الذي نظم لفنانين عرب في لندن عام 2006، تلاه في العام ذاته مزاد عالمي عربي أقامته مؤسسة «كريستيز» في دبي في مايو (أيار) 2006، ضم فنانين عربا ومن دول شرق آسيا: الهند وباكستان وإيران. حينها جاء العرب في المرتبة الرابعة بعد الهنود والباكستانيين والإيرانيين من حيث أرقام المبيعات، ولا يزال التشكيل العربي خارج السوق العالمية للفنون. فالسوق أوروبية، أميركية، يابانية، بالدرجة الأولى. والأنظار الآن تتطلع إلى مزادات دبي التي بدأت من سنتين، ومعرض (أبو ظبي ـ آرت) لتحسين موقع الفن العربي على خارطة التجارة الدولية، لا سيما أن مقتنين من أثرياء العرب راحوا يظهرون في المزادات. لكن ذلك لا يكفي لتفسير التزامن بين تنامي الاهتمام بالفن والثقافة العربيين مع الأحداث السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية.
رفيا قضماني، صاحبة صالة «رفيا» وهي من الصالات الحديثة التي افتتحت العام الماضي، ترى أن «هناك علاقة قوية بين الأحداث السياسية في المنطقة والفورة الفنية». وتقول «لقد ازداد اهتمام الغرب بالثقافة والحضارة العربيتين، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك في محاولة منه لفهم العالم العربي، فأقيمت ندوات وكثرت الأبحاث والمعارض عن الفن العربي». كما أن «فائض أموال الخليج جذب دور المزاد الغربية وتجار الفن إلى المنطقة، وبدأ الترويج للفن التشكيلي العربي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأعمال الفنية العربية إلى أرقام قياسية. ولهذه الظاهرة إيجابياتها وحسناتها على الفن التشكيلي السوري».
صالة «أيام» أو رجل الأعمال خالد سماوي الذي احتكر ما يقرب من 25 فنانا سورية بموجب عقود نظامية، يتفاخر اليوم بأنه أول من فتح باب السوق العالمية أمام اللوحة السورية وأمام فنانين لم يكن أحد يعرفهم من قبل. وقد يكون كلام سماوي صحيحا، لكن الطريقة التي فتح بها هذا الباب جعلت هامش الهم الثقافي يضيق، لصالح تقدم اللوحة الأغلى ثمنا بغض النظر عن الفنان وتاريخه وتجربته. فالأغلى تحدده ذائقة الأثرياء في المزادات، لا الحركة النقدية الغائبة أساسا. الفنان التشكيلي زهير حسيب قال إن ما جرى في سورية منذ 2006 «ظاهرة إيجابية لصالح الفنان السوري، إذ وضعته على خارطة الفن العالمي، وبات للوحة السورية ثمن في مزادات أوروبا». لكن حسيب يلفت إلى غياب معايير التقييم الفني بسبب غياب النقد الجاد. ويقول «هناك نقاد يعلون من شأن لوحات وهي لا تستحق، كما أن ذائقة التجار ورجال المال قد لا تلحظ القيمة الفنية كما أهل الفن».
في حين تقول رفيا قضماني إن وجود «بورصة للفن» تسمح بتقييم الأعمال يعتبر تقليدا خاصا بالغرب بفضل خبرته الطويلة مع رعاة الفن بالإضافة إلى المتاحف الرسمية والخاصة. أما في بلادنا، فنعتمد على دور المزاد الغربية وخبرائهم المختصين لدراسة السوق وتقييم الأعمال العربية. وتستشهد رفيا بقول الفنان التونسي نجا المهداوي «من الأفضل أن يسعى أصحاب القرار العرب إلى اكتساب خبرة الغرب في التنافس على تصنيف منفتح على سوق حقيقية للفن الحديث. فما دمنا افتقرنا لإدارة محكمة لتراثنا الفني ولخبراء مختصين في تقييم الفن موضوعيا وماليا، فإننا سنظل تابعين لمراجع الغرب ونظرته». لذلك تؤمن رفيا «بالاستثمار في نشر الثقافة الفنية والدراسات في مجتمعاتنا المحلية، والتنسيق بين القطاعات الثقافية».
يتباهى سماوي بأنه باع في معرض خارجي لوحة لصفوان داحول المتعاقد مع «أيام» بمبلغ 140 ألف دولار، بينما تصل أسعار لوحات الفنانين الراحلين فاتح المدرس ولؤي كيالي إلى 200 ألف و300 ألف دولار. رفيا قضماني ترى في ذلك حسنات وسيئات وتقول «لو لم يأت الغرب ليسوق لفنانين عرب وسوريين لبقينا متفرجين، وأسعار أعمال أهم فنان سوري لا تتجاوز 4 آلاف دولار. بينما نشهد اليوم بعض المتاحف والمؤسسات والبنوك الأوروبية تقوم باقتناء أعمال فنية عربية». لكن مساوئ ذلك ـ حسب قضماني «كثرة تزوير الأعمال الفنية. فأصبح في بلادنا مختصون في تزوير أعمال لؤي كيالي، وفاتح المدرس، ومحمود حماد، وتصديرها بأسعار باهظة. وأيضا من المساوئ، تحول بعض الفنانين إلى تجار، حيث أصبحت لوحاتهم تجارية تفتقر لأدنى مستوى فني. وهذا ما أدى مع انتهاء الطفرة المالية، إلى هبوط أسعار أعمال بعض الفنانين السوريين بشكل ملحوظ، إلى أكثر من 50%».
فادي المدرس، ابن الفنان الراحل فاتح المدرس، العائد حديثا من الولايات المتحدة بعد ثماني سنوات من الغياب، يرى أن ما حصل إيجابي، بل إن «دخول الفن التشكيلي السوري إلى عالم البيزنس تأخر كثيرا»، ويقول «طالما حلم الفنانون السوريون بدخول لوحاتهم إلى السوق العالمية. فاللوحة السورية متميزة وتستحق الخروج من القوقعة المحلية»، لكنه توقف عند موضوع الارتفاع المفاجئ لأسعار لوحات بعض الفنانين، الأمر الذي له انعكاس سلبي على أداء الفنان. ويتابع موضحا «الفنان الذي باع لوحاته بسعر لم يكن يتخيله في مزاد عربي أو دولي، لن يكون بوسعه البيع بسعر أقل، أو بسعر يتلاءم والسوق المحلية. فهل يعيش الفنان على ثمن لوحة واحدة؟!» يتساءل فادي الذي يعرض لوحاته حاليا في صالة «كارما» في حلب، ويرى أنه «من الأفضل أن يحصل ارتفاع تدريجي في سعر اللوحة، وضمن إطار المنطق»، لافتا إلى أنه باع عددا من لوحات معرضه بأسعار اعتبرها معقولة، علما بأنه كان بالإمكان وضع أسعار أعلى، لكنه وحسب قوله يعرف الأجواء والسوق وهو لا يطمح للقفز، فقد تعلم ذلك من والده الفنان فاتح المدرس الذي كان يضع سعر اللوحة بحسب البلد. فعندما كان المدرس يعرض في ألمانيا كان يبيع بأسعار تبلغ ضعفين أو ثلاثة أضعاف السعر الذي يبيع به في سورية. ويتابع فادي قائلا إن ما يهمه كفنان بالدرجة الأولى انتشار أعماله ومن ثم المال. وفي مقارنة بين تجارة الفن في أميركا وسورية، قال فادي «في أميركا الساحة كبيرة وتتسع للجميع، بينما في سورية، قلة تتمكن من العبور، والأكثرية تبقى على الهامش تنتظر فرصة. كما أن الصالات بشروطها الاحتكارية أقصت كثرا، وكون دعاية إعلانية واسعة، فبدا المستبعدون عنها وكأنهم غير موجودين على الساحة. مما أثار الهواجس والشكوك في ظاهرة الصالات الجديدة». ليس هذا فحسب ما يثير القلق حول الاستثمار في الفن، وإنما تسيد المال، بكل ما يعنيه ذلك من إغواء يوقع المبدع في الأسر.
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى